على الدوام تعودين أيتها الميلانكوليه
يا وداعة الأرواح الوحيدة.
هكذا يصف الشاعر النمساوي جورج تراكل الميلانكولية، باعتبارها ملازمة للأرواح المتروكة لنفسها، المنعزلة عن محيطها وغير المنسجمة معه؛ يتحدث تراكل هنا عن الروح الميلانكولية المسكونة بالوحشة؛ هذه الروح التي عرفناها من خلال كثير من المبدعين والمفكرين عبر التاريخ. ربما في وسع سطر شعري إيصال جوهر هذه الحالة الروحية بأضعاف ما يمكن لتعاريف جامدة أن تفعل؛ لكن لا مناص للمرء في مقالة عن الميلانكولية من التطرق لتساؤل، قد يبدو للوهلة الأولى بسيطًا، بيد أنه، في جوهره، بالغ التركيب: ما الميلانكولية؟
لا بد من الإقرار بأننا هنا إزاء ظاهرة متغيرة فهمًا ومعالجة مع تقدم الأزمنة والعلوم وتبدل الأفراد ما يجعل مهمة تعريفها بصورة نهائية شاقة للغاية، لذا تحاول المقالة تجاوز الحيز الفردي-الخاص للميلانكولية بمعاينتها كظاهرة ضمن الفضاء الفني – الثقافي العام، وذلك بإظهار مقاربات متنوعة عبر تاريخ الفن والثقافة الغربيين، بدءًا من العصر الكلاسيكي القديم وصولاً للحداثة المتأخرة.
من شأن مراجعة تاريخية لمفهوم الميلانكولية أن تدلنا على تحولاته الجوهرية عبر الزمن، فمفهوم الميلانكولية في العصر الكلاسيكي القديم مختلف عما صار عليه في العصر الوسيط أو في عصر النهضة، دون أن يتوقف مساره التحولي وصولاً لوقتنا الراهن؛ وهذه التحولات المفهومية لا يمكن إيعازها لسبب تاريخي فحسب، بل أيضًا إلى التخصص أو المجال المعاين لهذه الظاهرة. فاللاهوت يرى الميلانكولية بعين متمايزة عن عين الفلسفة أو الطب أو التحليل النفسي أو علوم الاجتماع والفن. والعلم السائد في كل مرحلة تاريخية أساسي لجهة التأثير على صورة المفاهيم. وفي العصر الكلاسيكي كانت الفلسفة هي “العلم الموجه”، وكانت بذلك ذات أثر في مختلف “الخطابات” السائدة وقتذاك، ومصدرًا أساسيًّا لتفسير مختلف الظواهر. لذلك نجد أن مفهوم الميلانكولية في هذه الحقبة التاريخية فسر بصورة فلسفية من خلال “مذهب الأخلاط الأربعة” الأبقراطي. أما في العصر الوسيط، حيث أضحت الثيولوجيا هي “العلم الموجه”، مع بقاء بعض المفاهيم الكلاسيكية الطبية، فحصل نوع من التداخل بين مفاهيم اللاهوت المسيحي وبعض المفاهيم الكلاسيكية في سياق تأويل وفهم الميلانكولية. وبقيت الحال هكذا وصولاً لعصر النهضة. أما في العصور الحديثة فاحتلت العلوم الطبيعية مكانة أساسيّة، مشكلة خطابًا من طبيعة مغايرة للميلانكولية. وفي عصرنا الراهن فتحظى البيولوجيا العصبية بدور جوهري في سياق تشكّل مفاهيمنا المختلفة. بشيء من الإيجاز يمكن القول إن لكل مرحلة علمها الموجه والمؤثر تاليًّا في مجمل المفاهيم السائدة، ومن ضمنها مفهوم الميلانكولية. ويحدث أيضًا أن يتزامن عدد من الخطابات أو العلوم المؤثّرة في عصر ما، مثلما كان الحال في العصر الوسيط، أو حتى في عصرنا الراهن إذ تقف العلوم العصبية في مواجهة مع التحليل النفسي والعلوم الثقافية. وبالرغم من تراكم الخطابات والمفاهيم وتبدلها عبر الزمن لم تتوصل البشرية بعد لأجوبة نهائية على أسئلة من قبيل: ما هي الميلانكولية، وكيف تظهر، وكيف يمكن معالجتها، أو مثلاً كيف هي العلاقة بين النفس والجسد.
الميلانكولية، لغة، ذات جذر يوناني، فــ “ميلاس” تعني “سوداء” و”كولي” تعني “مرارة”، بمزج المفردتين اليونانيتين نحصل على مصطلح مركب ترجمته الحرفية هي “المرارة السوداء”. وكان مصطلح الميلانكولية هو السائد منذ العصر الكلاسيكي وصولاً للقرن العشرين حيث تنامى دور الطب واستبدلت الميلانكولية في الخطاب الطبي، وتاليًّا في الخطاب العام، بـــ”الاكتئاب”.
أول ذكر مكتوب لعوارض الميلانكولية يعود غالبًا لعصر الأسرة المصرية الثانية عشر، تحديدًا في “حوار رجل مع روحه”، وهو نص مصري قديم بلسان رجل أتعبت الحياة روحه فراح يحاورها. أما بداية نقاش ظاهرة الميلانكولية فتعود إلى العصر الإغريقي، حين تحدث أبقراط، بحدود العام 420 ق.م عن “عصارات الجسم” واضعًا بذلك “مذهب الأخلاط الأربعة” الذي سيحدد جوهر الخطاب الطبي على مدار قرون طويلة. يحدد هذا المذهب “نظامًا” طبيًّا لعمل جسم الإنسان ويمكن إيجازه كالتالي: ثمة عصارات أربع داخل جسم الإنسان تؤثر بشكل مباشر على صحته الجسدية والنفسية، وهي “الدم”، “البلغم”، “الصفراء”، “السوداء”؛ وأي اختلال في نسب هذه العصارات يفضي بالضرورة لتغيّر في حالة الإنسان الصحية. وتبعًا لهذا المذهب تعد زيادة نسبة الدم في الجسم أفضل ما يمكن أن يحدث للمرء، أما زيادة البلغم فتجعل المرء بطيئًا وخاملاً، بينما ارتفاع معدل العصارة الصفراء فتجعل المرء “صفراوي المزاج” أي سريع الغضب والحنق، في حين ارتفاع معدل العصارة السوداء يؤدي لـ”مزاج سوداوي” يجعل المرء “ميلانكوليِّا”. وتوجد ملاحظة جديرة بالذكر فيما يخص حالة “المزاج السوداي”، إذ تعتبر هذه النظرية الكلاسيكية أن درجات الحرارة ونسب الرطوبة تلعب كذلك دورًا في تحديد طبيعة الحالة النفسية المرافقة، فإذا كان الجوّ باردًا وجافًّا كانت “الميلانكولية” أقرب للكآبة، أما في حالة الحرارة والرطوبة المرتفعتين فيمكن للميلانكولية أن تفضي لنوبات هوسية.
وبالاعتماد على هذا المنظار الكلاسيكي يمكن تعريف الميلانكولية بوصفها حالة سوداوية تتراوح بين الكآبة والهوس تبعًا لظروف داخلية متعلقة بنسب العصارات في الجسم وخارجية متعلقة بحالة الطقس والرطوبة. واقترح أبقراط كحلول علاجية أشياء فعالة ما زالت صالحة في زمننا الراهن، مثل المشي في الهواء الطلق، الاستماع للموسيقا، والسفر، النظام الغذائي، تجنب الغرف المعتمة، وضرورة أن يشغل الميلانكولي نفسه بشيء ما على الدوام لتجنب لحظات الانتظار المحبطة دون عمل مجد، إضافة لضرورة حصوله على فرص للاعتراض الناجح على آراء الآخرين وأقوالهم في أثناء الحوارات لتقوي بذلك ثقته بنفسه. لكن ثمة جانب آخر شديد الأهمية في مفهوم الميلانكولية الكلاسيكي، وهو النظر إليها باعتبارها سمة تخص الأفذاذ، أي حالة نفسية لأفراد متميزين ذوي قدرات متميزة. وهنا يتبدى الطابع الإيجابي، المبهم قليلاً، في صورة الميلانكولية الكلاسيكية، التي سرعان ما ستنتفي في العصر الوسيط مع اشتداد عود اللاهوت المسيحي وإضفاء طابع أخلاقي على مفهوم الميلانكولية باعتبارها ظاهرة قريبة من “الكسل” و”القصور الذاتي”، وهذا، كما هو معلوم، من “الخطايا السبع المميتة”. بوسع المرء القول إن الميلانكولية في “الحقبة المسيحية” من التاريخ البشري فهمت أنها “إغواء شيطاني”، لا سيما من قبل البروتستانتية، إذ من يؤمن بالرب حقًّا يتوجب أن يتغلب على الميلانكولية، أن يقهرها ويتخطاها بقوة إيمانه. وهذا الفهم للميلانكولية من خلال إظهارها نقيضًا للمسيحية الحقة أفضى لنبذها والنظر إليها كنقصان في النفس.
وقد شاع في أنحاء أوروبا خلال هذه الفترة قول شعبي من شأنه أن يلخص تصور الميلانكولية آنذاك:
“الرأس الميلانكولي حمام الشيطان”.
ومن جهة أخرى فاستعان طب العصر الوسيط بالمفاهيم الطبية الكلاسيكية لا سيما من خلال الترجمات العربية للنصوص الكلاسيكية القديمة، ومن ثَم ظهر مذهب الأخلاط الإغريقي مجددًا في الخطاب الطبي وحدث، على هذا الأساس، ربط الحالة النفسية بالفيزيائية، أي إرجاع العلل النفسية والجسدية لمصدر واحد. فراحت “العلل”، جسدية كانت أم روحية، تفسر على أساس فيزيائي مرتبط بحالة عصارات الجسد، لكن من دون أن يبدل ذلك من التقييم المسيحي السلبي للميلانكولية.
إلى ذلك، ربطت الميلانكولية، في الفهم العام، بعنصر التراب وفصل الخريف ووقت المساء وزمن الشيخوخة.
وفي أدب العصر الوسيط، تحديدًا في شعره، وصفت الميلانكولية بعبارات غير تقييمية، أي وصفت، غالبًا، من دون إطلاق أحكام قيمة عليها، مثلما نجد في قصيدة فالتر فون دير فوجل فايده (نحو 1170 – نحو 1230) من القرن الثاني عشر، إذ يقول:
جلست على حجر
وغطيت ساقًا بساق
فوقهما وضعت المرفق
وأسكنت في يدي
الذقن وإحدى وجنتي
وتفكرت في خشية كبيرة
كيف على المرء أن يحيا
في هذا العالم.
في المنمنمة أدناه تمثيل للميلانكولية الموصوفة في قصيدة فالتر فون دير فوجل فايده، وفيها تجل لرمز الميلانكولية منذ العصر الكلاسيكي، متمثلاً برأس مسنودة إلى اليد. وهذه الصورة لا تزال محافظةً على معناها القديم الخاصّ بالمرء منكبًّا على تفكر عميق ذي شجون، غير أنها – هذه الوضعية الجسدية من خلال إسناد الرأس إلى اليد مضمومة أو إلى باطنها المنبسط للإيحاء بتفكير عميق وانعزال عن المحيط – قد غدت راهنًا لكثرة ابتذالها أقرب لصورة كليشيهية عن صورة المثقف والفنان المتمايز عن “العوام”.
وفي سياق التحدث عن تاريخ الميلانكولية لا بد من التطرّق إلى الدور المحوري الذي حظي به التنجيم على مدار زمن طويل، إذ أن ذلك يعزز فهمنا لمقاربات هذه الظاهرة، لا سيما في حقبة العصر الوسيط بعد وصول الترجمات العربية للكتابات الكلاسيكية إلى “القارة العجوز”. في التنجيم ينظر إلى كوكب زحل باعتباره مسببًا رئيسيًّا للميلانكولية، باعتبار أن أولئك الذين يولدون “أسفل كوكب زحل” ذوي ميول ميلانكولية بالضرورة. ومن المعلوم أن زحل كان عند الرومان إلهًا للحصاد والزراعة ويعادل في الأساطير اليونانية الإله “كرونوس” المتناقض والرامز عمومًا إلى الخراب والشر، كان لزحل دلالات مختلفة في الأزمنة الكلاسيكية، ومن الأعمال المبدية أغلب دلالاته، لوحة الهولندي مارتن فان همسكيرك (1498-1574):
تحضر الميلانكولية من خلال الرجل الذي يشنق نفسه على جذع شجرة في يسار اللوحة.
في عصر النهضة الإيطالي طرأ تحول جذري آخر على معنى الميلانكولية فتغيرت النظرة إلى الميلانكوليين بجلاء؛ أحد أبرز فلاسفة عصر النهضة الطليان مارسيليو فرجينيو يذكر مقطعًا لتلميذ أرسطو “ثيوفراستوس” يتساءل فيه، لم كل الرجال الأفذاذ، سواء كانوا فلاسفة، ساسة، شعراء أو رسامين ممتازين، ميلانكوليون بشكل جلي؟ مع هذا التبدل أخذت الملانكولية طابعًا رمزيًّا يستبطن تميّزًا، وفي هذا عودة، أو لنقل نهوضًا للمفهوم الكلاسيكي. وأسهم ذلك في تجذّع القيود والتقييمات المسيحية السلبية للميلانكولية، وبقي زحل رمزًا للميلانكولية لكنه اكتسى طابعًا ثنائيًا: سلبي من جهة، حيث “الميلانكوليّون معذبون”، لكنه إيجابي أيضًا، إذ أن الميلانكوليّين، غالبًا، ذوو مواهب خلّاقة بالغة الفرادة. وهذا الرأي المستعاد في عصر النهضة سيظل، بدرجة ما، حتى وقتنا الراهن، لجهة المطابقة بين الميلانكولية والعبقرية.
عالج الفن الميلانكولية في هذه الحقبة بطرائق متعدّدة، ويعد عمل ألبريشت دورر “ميلانكولية ” (1514) أبرزها، إذ يبدي حساسيّة لكل ما رمزت إليه أو ارتبطت به الميلانكولية وصولاً لتلك الحقبة.
في عمل دورر نجد شخصية أنثوية مجنحةً في الوضعية الكلاسيكية، بإسناد رأسها إلى قبضة يدها، بينما تحمل في يدها الأخرى فرجارًا فوق كتاب مغلق في حضنها. وجهها مظلل ونظرتها سارحة في الأفق، وحولها أدوات وأشكال هندسية وأرقام. إنه عمل بالغ التركيب، فالكرة في العمل (قد) ترمز إلى أعظم علوم تلك الحقبة “التنجيم”. أما الكلب النحيل النائم عند ساق الشخصية المجنحة فربما يجسد رمزيًّا “الكسل”. أما أكثر العناصر الإشكالية في العمل فهو الخفاش الحامل للعنوان “ميلانكولية I”. وفي النقد الإيكونوغرافي توجد قراءات متعددة لعمل دورر كثيف الرمزية، لكن تحليل بانوفسكي من أكثرها نجاعة، إذ يذهب إلى القول إن ميلانكولية دورر هي ميلانكولية العبقري/الفنان المتمثلة بــ “غياب النشاط، الاتكاء، والكآبة النابعة من عجز البشر عن المعرفة”. اللافت أيضًا في العمل هو الشخصية الأنثوية؛ والذي يرمز، بحسب توجندهات، للميلانكولية كمفهوم مجرد. فالشخصيّة الأنثوية، تبعًا لـ”ذكورية” كانت متأصّلة آنذاك، تمثل “الميلانكولية” نفسها، بينما شخصية غير أنثوية كانت ستشير بالضرورة إلى شخصية محددة، أي إلى ميلانكولي محدد، إلى رجل ميلانكولي، إلى عالم أو فنان ميلانكولي، وليس إلى الميلانكولية كمفهوم! تاريخ الفن يعلمنا بظاهرة ظلت سائدة لوقت طويل (هل انتهت؟ هل أوشكت أن تنتهي؟) هي أن الذكر، أو الشخصية الذكرية في العمل الفني ترمز على الدوام لشخصية واقعية، في حين الشخصية الأنثوية (المرأة، بالإذن من سيمون دو بوفوار) فترمز للمفاهيم والأفكار المجردة، كالفن أو الجمال أو الميلانكولية.. إلخ.
في الفن التصويري لعصر النهضة تم تناول الميلانكولية في أعمال أخرى أيضًا، كعمل مايكل أنجلو “هيراقليطس”؛ إذ يصور هيراقليطس، المعروف بكتاباته ذات المزاج التشاؤمي والملقب بالفيلسوف الباكي المنعزل في الوضعيّة الميلانكولية التقليدية، جالسًا متفكرًا بشيء من الحزن، وكأنه “ينقِّب في نفسه”، مسندًا رأسه إلى قبضته:
كذلك تطرق الرسام الهولندي رامبرانت لظاهرة الميلانكولية في بعض بورتريهاته المبدية للجانب الميلانكولي في شخصيته.
ميلانكولية رامبرانت واضحة دون تعقيدات رمزية أو وضعيات تقليدية، فلا رأس مسنود إلى يد أو نظرة منكسة أو سارحة في الأفق، بدل ذلك يوجد وجه وعينان خافتتا البريق من الحيرة والترقب في الوقت نفسه، تتجلى كوضعية نفسية مركبة لا تختصر بترميزات تقليدية وحركات معينة أضحت مع الوقت كليشيهات مضجرة.
الميلانكولية في عصر الأنوار..
في عصر الأنوار [التنوير]ساد رفض عام للميلانكولية من منطلق أنها تمثيل لحالة ذاتية جنونية، “غير عقلانية”، ومؤشر لخمول مثبط لا ينسجم مع العقلانية الشجاعة التي مجدها الأنواريون. وبناءً على هذه الأرضية النابذة لكل ما يبدو “ميلانكوليا” ومن ثَم “لا عقلانيًا” عمَّ نوع من “الاضطهاد العقلاني”، إذا جاز القول، لكل ما كان يرى باعتباره غير متسق مع “الفكر والأسلوب العقلانيين”؛ وهذا التوتر الحاصل في عصر الأنوار بين “الوجه العقلاني” و”الوجه الميلانكولي، غير العقلاني” جسدته بعض الأعمال الفنية في تلك الحقية، خصوصًا أعمال الإسباني جويا، الذي عاين هذه الظاهرة بوصفها تضادًا متوترا بين “العقلانية واللاعقلانية”؛ سلط جويا “النور” على عتمة خلل “الأنوار”، على جانب كالح، مناقض لصورة هذه الحقبة؛ وليس أجدر من الفن قدرة على توصيف هذا الجانب بحساسية عالية، لا سيما حين يكون الصانع بحذاقة جويا، التي نجدها، مثلاً، في عدد من أعماله الثمانين المسماة “Los Caprichos“ أي “النزوات” والتي تقدّم في جوهرها “الوجه الآخر” لعصر الأنوار، وجهه التشاؤمي الموحش والمتشكك في معنى العالم وإمكان العدالة الاجتماعية وتغلب الإنسان على الوحشة الوجودية، وليس ذاك التفاؤلي المؤمن بقدرة العقل المطلقة، المؤمن بالتقدم والسيطرة على البشر والطبيعة. تتجلى هذه النظرة السوداوية، الميلانكولية، على سبيل المثال في عمله رقم 43 من هذه السلسلة، المعنون بــ”نوم العقل ينتج وحوشًا”، الذي يظهر شخصًا يسند رأسه إلى طاولة ومن خلفه جوقة كائنات حيوانية ليلية وحشية (بومة، خفاش، قط..) تحاول مهاجمته بينما تخفي الشخصية رأسها بين ذراعيها. وفي أسفل اللوحة والطاولة على حد سواء تظهر لافتة بيضاء عليها كلمات تقول: نوم العقل ينتج وحوشًا. وهذه العبارة قد تبدو واضحة المعنى إلا أنها تبطن جوهرًا حير النقاد لأن مفردة “نوم” هنا، تحمل في الإسبانية معنى آخر أيضًا، هو “حلم”، واستخدام أيهما يبدل في المعنى بشكل جوهري؛ فنوم العقل يستبطن مديحًا للعقل وذمًّا لغيابه خلل النوم، أما حلم العقل فيفضي لمعنى آخر، خطير تمامًا، إذ نكون إزاء عبارة تقول “حلم العقل ينتج وحوشًا”، وهنا لا شائبة تخفي نقد العقل بوصفه منتجًا للوحوش.
في عمل آخر شديد الكثافة لــجويا، باسم “الكلب”، يظهر رأس كلب أسود طالع من أرض كالحة ناظرًا في فضاء شاحب، نصبح إزاء تصوير كثيف لوحشة وجودية قاسية، ويمكن القول، إزاء تصويره لميلانكولية عصر الأنوار.
الحقبة الرومانسية..
بلغت فكرة مزاوجة الإبداع بالميلانكولية أوجها في هذه الحقبة؛ فراح الفنان الحقيقي أو “العبقري” يرى ميلانكوليًّا بالضرورة، فالعالم قاس وسوداوي ولا بد لمبدع عبقري، نابغة، أن يعرف ما تحيطه من أهوال، وكيف لهذا العارف ألا يكون ميلانكوليًا؟ لعل تصوير ديلاكروا لمايكل أنجلو يجلي هذه الفكرة جيدًا.
في هذا العمل يظهر مايكل أنجلو جالسًا بين عملين غير منتهيين “موسى” و”مادونا ميديجي” في حالة خمول وتفكر، رأسه مسنودة إلى قبضته، ومن حوله عدته متناثرة على الأرض دون عناية. كما نجد صورة الفنان الميلانكولي في البورتريه الذاتي لكاسبر دافيد فريدريش، إذ يظهر فيه بالوضعية الميلانكولية التقليدية، برأس تسنده اليد ونظرات متفكرة، مسددة نحو مكان بعيد لا يمكن تحديده. وفي هذه الوضعية المتكررة حيرة بادية وتفكر عميق لا يخلو من يأس وضعف أمام قسوة الخارج وهوله. بكلمات أخرى يمكن وصف الفترة الرومانسية فيما يخص مفهوم الميلانكولية بأنها أخصب فترات الصورة السائدة حول الفنان أو المفكر العبقري بوصفه وحيدًا يائسًا ومنعزلاً يكابد أزمة وجودية.
القرن العشرين ..
في مقاله “حزن، ميلانكولية” الصادرة سنة 1915 نجد فرويد لا يزال يتحدث عن الميلانكولية وليس عن الاكتئاب أو الحزن، لأنه، كما تشير البروفيسورة توجندهات، يميز بدقة بين الحزن والميلانكولية، ويذكر: في حالة الحزن يصبح العالم فقيرًا وفارغًا، لكن في حالة الميلانكولية فــــ”الأنا” نفسها تصبح كذلك؛ في حالة الحزن يكون موضوع الخسارة، مثلاً موت شخص عزيز أو حتى خسارة فكرية ما حاضرًا في الوعي، بينما في حالة الميلانكولية لا يصح ذلك. الظاهرتان متقاربتان. مزاج عميق موجع، زوال الاهتمام بالعالم الخارجي، فقدان القدرة على الحب، إعاقة كل قدرة على الإنتاج. لكن، وبخلاف الحزن، يتعلق الأمر في حالة الميلانكولية بالحط من قيمة الذات”.
يشكل فرويد بذلك استثناء علميًّا في المجال الطبي إذ يعرف الميلانكولية ويميزها عن الاكتئاب والحزن في وقت كان الخطاب الطبي منصبًّا بشكل حصري على “الاكتئاب” وبالكاد وجد حديث عن “الميلانكولية “، وبقي الأمر على حاله وصولاً لتسعينيات القرن العشرين، حين أخذت “الميلانكولية ” تظهر ثانية في الخطاب العام. ومن أهم الأسئلة بهذا الصدد، هو: لم عادت الميلانكولية موضوعًا للنقاش العلمي والشعبي مع وصول العقد الأخير من القرن الفائت؟ يحدد المؤرخون أسبابًا عديدة لذلك، على رأسها: أفول يوتوبيات سائدة (انهيار الاتحاد السوفيتي مثلاً)، وزوال الإيمان بالتقدم الذي ستجلبه التقنية الحديثة إذ خاب أمل البشرية باكتشافها الكوارث المرتبطة بهذا التقدم، إضافة لغياب الهالة السحرية حول الذات العاقلة بوصفها عارفة بصورة متزايدة ومقررة مصيرها بنفسها وكذا إدراك مدى تعقيد وتشابك هياكل السلطات القائمة، ومن ثَم معرفة مدى صعوبة الخلاص من بين أنيابها الشديدة؛ كل ذلك أفضى إلى وضعية عامة مغايرة وصولاً للتناقض الفج عما كانت عليه الحال خلال السبعينيات وبداية الثمانينيات؛ ونتيجة لهذا المزاج الخائب عمومًا، وإدراك نسبية معرفة الإنسان وإمكاناته الفعلية، عاد الاشتغال على الميلانكولية مجددًا، ورحنا نعثر بازدياد جلي على مقاربات هذه الظاهرة. بكلمات ثانية، عادت الميلانكولية كمزاج عام وليس بالضرورة أزمة نفسية حادة كما في حالة المرض الاكتئابي.
في مطلع القرن المنصرم ظهرت معالجات فنيّة متباينة للميلانكولية. بدءًا بـباول كلي الذي أنجز سنة 1919 عددًا من الرسومات فكك فيها الميلانكولية الفنية، ميلانكولية الفنان، معيدًا إياها إلى عناصرها الأولية، فنراه يقدم في إحداها “الفنان المفكر” وفي أخرى “الفنان الحساس” وفي ثالثة يتناول، بأسلوبه الخاص، عنصرًا أساسيًّا آخر في الميلانكولية هو “الاستغراق”.
وبما أن القرن الفائت كان أيضًا قرن الحروب الكونية والانهيارات العالمية وقسوة النيوليبرالية فكانت الميلانكولية حاضرة بقوة في مختلف مجالات الحياة. ولنا في أعمال إدوارد هوبر أمثلة، إذ يبرز مشاهد من الحياة الحديثة تعج بالقفر والفراغ والوحشة.