ماذا ستفعل “السعودية الجديدة “ مع راويها المنبوذ؟ هل تتصالح السعودية الجديدة مع عبد الرحمن منيف، أشهر رواة سيرة الجزيرة العربية ومدنها ودولها؟
الأخبار قالت لنا أن معرض كتاب جدة مازال يضع روايات عبد الرحمن منيف على القوائم السوداء، رغم أن المعرض سمح بعرض بورتريه شخصي لعبد الرحمن منيف ضمن لوحات عرضت تحت عنوان “عتبات ملونة “.
ونفكر الآن في زائر المعرض الذي تمهل أمام بورتريه منيف بين بورتريهات الكتاب العرب، ووجه كاميرا تليفونه المحمول ليلتقط صورة للأديب المنبوذ، هل سيحتفظ باللحظة التي تأتي في إطار “الإنفتاح“ كما تطلق الصحف السعودية على قرارات و إجراءات تعيد هندسة المجال العام في السعودية بقوة دافعة من ولي العهد محمد بن سلمان، ملك البلاد الفعلي؟
1
أثر جهيمان
وماذا بعد “اللقطة”، هل أراد الزائر أن يمارس “الإنفتاح” بنفسه و يشتري كتب عبد الرحمن منيف؟ وماذا ورد في خاطره عندما فكر في البحث عن روايات –ظلت ملعونة– عن تاريخ الجزيرة العربية، وحكامها؟ وكيف فسر ظهور “صورة“ منيف دون رواياته؟
هل تعثرت خطوات “الملك الصغير“ عند تغيير قوانين الرقابة، والإنفتاح على الأدب الذي مازال يعامل على انه “بضاعة سرية”؟
الأسئلة كثيرة، وشائكة عن بناء “سعودية جديدة “على أنقاض القديمة، هل ستقف عند حدود تغييرات في الهندسة الإجتماعية مثل السماح للنساء بقيادة السيارات، والتصريح بإنشاء دور سينما، والموافقة على حفلات البولشوي، وحفلات غناء مختلطة، لمطربين رجال ونساء، في إتجاه تعود به السعودية إلي ماقبل ١٩٧٩ أي تلك اللحظة التي قرر فيها الحكم السعودي (وقتها كان الملك الرسمي خالد والفعلي فهد) إظهار التطرف في التدين، ربما منافسة ظهور “دولة دينية“ كاملة الأوصاف في طهران بعد ثورة آيات الله على الشاهنشاه بهلوي، لكن الأكيد أن “الإتجاه نحو الإنغلاق ورفض التحديث” كان رد فعل على هجوم جهمان العتيبي على حرم المكي، ورغبة الملك فهد في إثبات أن “السعودية القديمة” هي موديل “الدولة الدينية“ كما يقول الكتاب المتخيل لكل منتظري إعادة بناء دولة النبي و“الخلافة”.
هل مشروع سلمان في بناء“السعودية الجديدة“ هو مجرد محو “أثر جهيمان“ أو كما وصف محمد بن سلمان في حواره مع توماس فريدمان خطته في المجال الإجتماعي: “لا تكتب أننا ’نعيد تفسير‘ الإسلام – نحن ’نعيد‘ الإسلام إلى أصوله – والأدوات الأبرز التي نستخدمها هي ممارسات النبي و[الحياة اليومية] في السعودية قبل عام 1979″.
هل هذه “العودة“هي كل ما لدى صاحب مشروع “نيوم“ المدينة أو اليوتوبيا العابرة للزمن، المقيمة على حدود مدن عاندت الزمن، ولم تندمج فيها البداوة مع الحداثة، ظلت مثل “مدن ملح“ آن أوان انهيارها.
ها نحن نعود إلى عبد الرحمن منيف.
2
بدوي ملعون
عندما غادر عبد الرحمن منيف بغداد إلى باريس كانت البداية: مناضل سياسي. هو في الاصل بدوي ملعون. ولد في عمان (1933).أبوه من قبائل نجد وأمه عراقية. جنسيته سعودية. وبدلا من أن يلحق بقطار توزيع الثروة. درس في كلية الحقوق ببغداد (1952) وهناك عرف افكار حزب البعث واختار ان يركب قطار “الثورة” (كما كان يراها هو و جيل الخمسينات والستينات). فطردته حكومة نورى السعيد التي وقعت حلف بغداد (1955). وتنقل بين عواصم عربية: القاهرة، بيروت..وأخيراً دمشق. كانت المنطقة بأكملها تشتعل بالتغييرات والانقلابات ومن المحيط إلى الخليج وكانت الأماكن ساحات حرب مفتوحة بين الانظمة القديمة والاستعمار من جهة وبين الحكومات “الثورية” والتنظيمات السرية والعلنية من جهة ثانية. حصل على الدكتوراه من بلغاريا في إقتصاديات النفط (1961)، عمل في مجال النفط: في الشركة السورية للنفط (دمشق). غادر عام 1973 سوريا الى لبنان حيث عمل في مجلة “البلاغ“. سافر عام 1975 إلى العراق، وتولى تحرير مجلة “النفط والتنمية” وظل هناك حتى العام 1981.. ومن هناك غادر إلى باريس حيث قرر ان يتفرغ للكتابة ..والادب نهائيا.
وقتها كان قد مرت عشرون عاما على سحب جنسيته أي انه مطارد سياسيا. ولم يحب هو ان يسكن في خيمة جنرال من جنرالات القومية العربية. اختار ان يتحرك بسلطة الثقافة. لم يكن له سوى رواية واحدة تقريباً هي “الأشجار وإغتيال مرزوق” كتبها وهو في الأربعين (1973).
إختار عبد الرحمن منيف الكتابة، ولعب في مساحة التاريخ السري، ظل هو البدوي الملعون الذي يحب المدينة. يسعى وراء تطهيرها من شياطين ربّاها الاستعمار لتنفذ مخططاته. الجواسيس ربوا الملوك. والملوك حكموا باحساس الجواسيس. هكذا كتب تباعاً: قصة حب مجوسية، شرق المتوسط، حين تركنا الجسر، النهايات، سباق المسافات الطويلة، عالم بلا خرائط (بالإشتراك مع جبرا ابراهيم جبرا) “مدن الملح” الخماسية التي روت تاريخ الجزيرة العربية، بعدها جاءت: “الآن هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى“. وأخيراً ثلاثية أرض السواد التي تحكي تاريخ شعب العراق.
اختيار الكتابة جاء رد فعل على هزيمة (يونيو) 1967 كما قال أكثر من مرة. أراد ان يفهم. أن يبحث في المستويات التحتية للهزيمة. أراد أن يلملم نفسه المبعثرة بين ثروة مسروقة وثورة مجهضة. فإتجه إلى الأدب. حجز مكاناً. داعب الهوى السياسي لجمهور الأدب. كان ذروة المزاج اليساري القومي الكلاسيكي في الكتابة. خاصة ان منطقة ألعابه الروائية كانت محاطة بسياج كبير من السرية والتخفى والقهر.لعب هو على الكشف. والشوق الى الحرية في عالم “الجزيرة العربية“ المغطى بستار ثقيل من الأسرار التي تنتمي في أغلبها إلى عالم قديم (حروب القبائل) في زمن حديث( الإنتقال إلى مرحلة مابعدالإستعمار).
3
التنس في العزاء
عندمارحل عبدالرحمن منيف (٢٠٠٤) أنقذني الناقد الأدبي فاروق عبد القادر من ورطة الكتابة في الجنازات (الكتابة كانت لصحيفة “المستقبل“ اللبنانية)، وكان الكلام معه مثل “لعب التنس” في سرادق العزاء.
روايات عبد الرحمن منيف كانت تجد مراياها في مقالات فاروق عبدالقادرالناقد المهتم بالرواية والمعجب بكل ماكتبه عبد الرحمن منيف.. كان هذا الإعجاب سر إستياء مستتر من الروائيين. لكنه في الوقت نفسه كان إشارة إلى أن روايات منيف كانت مرايا غير مباشرة لأفكار فاروق عبد القادر.
هي علاقة اهتمام؟ أم اكتشاف؟! هل وجد فاروق نموذجه المثالى في اعمال منيف؟! ام انه تضامن اجيال وافكار.. الستينات و“الرسائل الكاملة“؟!
فاروق وعبد الرحمن من جيل يتحرك فيه المثقف من منصة العارف الذي يريد توصيل شيء للناس الهائمين في الشوارع..لديهم “رسالة كاملة“ يبحثون لها عن “الجماهير“.. تلك “الأسطورة الرومانسية” التي تغنت كثيرا بصوت وقلب وعقل الجماهير وهي أسطورة إنتهت إلى صراع يدور حول السيطرة على الكتلة العمياء.. يقودها ديكتاتور مثل صدام والأسد (أب و إبن) و القذافي إلى انتحار وفوضى.. ويقودها أشباههم بعد الحرب إلى مصير غامض.
حاولت ان أهزم فكرة الموت بهذه الأسئلة. تجنبت الكلام عن الغياب. الرثاء فعل سخيف. وكما ينتابني شعور غريب برغبة الضحك عالياً في سرادقات العزاء. قررت أن ألعب في حضرة الموت بعبوسه وصرامته ومهابته. هذه الأسئلة كانت أول اللعبة. وجاءنى الرد مفاجأة لطيفة: “..عثرت على رسالتين من رسائل عبد الرحمن … اذا كنت تريد الاطلاع عليهما يمكنك ذلك..”. قال فاروق عبد القادر. لم يكن يومها حزنه فاقعاً. أو إستعراضياً. شعرت بأنه فقد عزيزاً بدون أن نذكر إسم عبد الرحمن منيف ولا سيرته ولا نشعر بالآسى أو نذكر محاسنه. فقط من نبرة الصوت.
كنت أخاف من وحدة فاروق عبد القادر( التي ظهرت بكل قسوتها بعد ست سنوات فقط في تفاصيل موته) ، ومن شعوره بعداوة تجاه الموت. عداوة إضافية لكنها غير معلنة. سخريته كانت تغطي على ما يمكن ان يسحبنا تجاه الآسى. سألته عن أول علاقته بعبد الرحمن منيف؟!
حكى: “..علاقتي به بدأت بعد ان كتبت عن روايته الاولى“.. الاشجار واغتيال مرزوق.. “كتبت عنها عام 1974 في مجلة “الفكر المعاصر” التي كانت تصدر في بيروت… لكننا لم نلتق في لقاءات طويلة إلا مرتين في القاهرة. في الاولى قضينا اليوم بطوله نسير في الشوارع.. أعتقد أن هذا حدث في 1989 بين صدور الجزءين الأولين من مدن الملح (التيه) و(الأخدود) وصدور الأجزاء الثلاثة الأخرى… تكرر الامر مرة اخرى حين جاء في 1999 ليحضر مؤتمر الرواية العربية الاول.. الذي حصل على جائزته في زيارته الاولى… فى هذه اللقاءات كان يقول بأنه لا يجد القاهرة التي عرفها عام 1956 وكان طبيعى جداً هذا الشعور فهو عاش القاهرة في فترة رد العدوان الثلاثي.. والآن نحن في مدينة أخرى تماماً.. القاهرة التي عرفها ضاعت تماماً… بين اللقاءين كنا نتراسل إنما بإيقاع غير منتظم. إيقاع التراسل غريب ويخصنا.. أحياناً لمجرد انه خطر على البال.. أو من أجل مناقشة مقال أو دراسة عن رواية من رواياته..”.
أردت مزيداً من التفاصيل.. وحكى فاروق: “..اذا اردت الوصول الى شيء ما في علاقتى بعبد الرحمن منيف فستبدأ بما كتبته عن مدن الملح. يومها سميت الشخصيات الروائية باسمائها الحقيقية.. قلت من هو خريبط ومن هو خزعل الذي تربى على دروس رجل المخابرات البريطانى جون فيلبى الذي كان اسمه في الرواية هاملتون…وقتها علق منيف: ذبحني الرجل فهو يعرف أكثر مما يجب..”.
وكان فاروق عبد القادر يعرف هذا العالم أكثر مما يجب لكاتب مصري فعلا ، فهو في مرحلة مبكرة من حياته نهاية الستينات بداية السبعينات عمل في ديوان إمارات في الخليج ، وفي تلك الفترات كان رجال و نساء المخابرات البريطانية هم مهندسو إمارات وممالك تأسست حول آبار البترول.
4
مدن الملح
كتب عبد الرحمن منيف سيرة “مدن الملح” (خمسة أجزاء) وكان يقصد بها مدن البترول أو: “..المدن التي نشأت في برهة من الزمن بشكل غير طبيعي واستثنائي. بمعنى ليست نتيجة تراكم تاريخي طويل أدى الى قيامها ونموها واتساعها، إنما هي عبارة عن نوع من الانفجارات نتيجة الثروة الطارئة. هذه الثروة (البترول) أدت الى قيام مدن متضخمة أصبحت مثل بالونات يمكن أن تنفجر، أن تنتهي، بمجرد أن يلمسها شيء حاد. الشيء ذاته ينطبق على الملح. فعلى الرغم من أنه ضروري للحياة والإنسان والطبيعة وكل المخلوقات، إلا أن أي زيادة في كميته، أي عندما تزيد الملوحة، سواء في الأرض أو في المياه تصبح الحياة غير قابلة للاستمرار. هذا ما هو متوقع لمدن الملح التي أصبحت مدناً استثنائية بحجومها، بطبيعة علاقاتها، بتكوينها الداخلي الذي لا يتلاءم وكأنها مدن اصطناعية مستعارة من أماكن أخرى. وكما قلت مراراً، عندما يأتيها الماء، عندما تنقطع منها الكهرباء أو تواجه مصاعب حقيقية من نوع أو آخر سوف نكتشف أنّ هذه المدن هشة وغير قادرة على الاحتمال وليست مكاناً طبيعياً لقيام حاضرات أو حواضن حديثة تستطيع أن تستوعب البشر وأن تغير طبيعة الحياة نحو الأفضل..”.
سيرة “مدن الملح” تكشف التاريخ السرى للعلاقة بين الملوك والاستعمار في الجزيرة العربية. كيف اقيمت “مدن” في صحراء البدو بلا مدنية حقيقية. وكيف تحولت المدن الى ملاهٍ بائسة لحكام مرفهين.
والمعروف ان منيف إنضم إلى حزب البعث في منتصف الخمسينات ووصل إلى موقع في القيادة القومية. وكان من بين تيار يدفع البعث باتجاه اليسار في مواجهة تيار تقليدى يميل إلى المحافظة واليمين. وهذا سر توقفه عن العمل السياسي في نفس الفترة تقريباً أي بعد مؤتمر حمص فقد كان موقف البعث محبطاً وضد أفكاره الراديكالية.. شعر “بالعبث في العمل السياسي” كما وصف فاروق عبد القادر أسباب قراره بأن تكون الرواية هي طريقته في “النضال“.
هل سيبقى من عبد الرحمن منيف رواياته (المشغولة والمهووسة بالسياسة) أم سيرته؟!
سألت فاروق عبد القادر وكان يرى أن رواياته هي التي ستبقى: “…سيرته هذه ستأتي في سياق آخر.. هو مناضل خرج من كل مآسيه وكوارثه صلباً ومتماسكاً.. ويعرف ما يريد… لم يقدم أي تنازل يمكن ان يكون نقطة شاحبة في سيرته.. لكن إعجابي به ككاتب روائي مسألة أخرى.. أنا متابع للرواية العربية وقادر على رؤية حجم الاضافة التي قدمها للرواية العربية.. لم يكتب منيف روايات تاريخية… بل كتب عن الحاضر من مرآة التاريخ… كل الهموم في رواياته حقيقية ومعاصرة لكن على شاشات التاريخ.. هو روائي عظيم لا يكتب أدباً مباشراً ولا أدب شعارات…لم يكن يرضى بأقل من صورة العالم كاملة في رواياته…”.
ماذا تعني الصورة الكاملة؟ والأدب بمعنى ما هو خدش هذا الكمال؟ والبحث عن الثقوب غير المرئية في الصورة؟
هذاحديث آخر يحتاج أولاً إلى إعادة قراءة روايات عبد الرحمن منيف التي كانت في آخر الثمانينات حدثاً أدبياً. أقرب إلى الموضة. فهي روايات فتحت عالم الملاحم السياسية. شهرته تأكدت مع “مدن الملح” على الرغم من بعض إعجاب من نصيب “النهايات” أو “شرق المتوسط” أو حتى “سباق المسافات الطويلة“. جمهور الأدب العام (أي الأوسع من دائرة الأدباء والنقاد وعشاق الأدب بصورته غير الرائجة) وقتها كان مسحورا بفكرة الكشف السياسي عن التاريخ السري لممالك الغموض. كانت السياسة مدخل الجمهور كما كانت مدخل عبد الرحمن منيف نفسه. كلاهما إلتقى في الرسالة السياسية. وبينما ظل الجمهورمعجباً بالجرأة والفضح. إهتم الاديب بالصنعة الروائية.
تحتاج المسألة ايضا الخروج من سحر صورة منيف. صاحب الكاريزما الشخصية. تحبه وتحترمه عندما تلقاه. ستشعر ان وراء الهدوء والسكينة بركان مُسيطر عليه. يبدو جذاباً في منطقة العلاقة بين المثقف والسلطة من ناحية والمثقف والحياة من ناحية اخرى.
ظل متمرداً على فكرة الانضواء تحت جناح حاكم ..ولم يتاجر بمطاردات الأنظمة له. وعلى الرغم من أنه سياسي من الدرجة الأولى إلا أنه لم يكن محسوباً على الكتّاب المرتزقة. كما أنه عاش من عائد كتبه. ومع تقلبات العواصف السياسية عليه إستقرت عائلته (تزوج السيدة سعاد قوادري عام 1968 ولهما أربعة أبناء وبنات: عزة، هاني، ليلى وياسر). هذه السيرة (النموذجية) تشير إلى حياة منضبطة ظلت تحت السيطرة. ترتبط تواريخها الشخصية بالأحداث العامة والمزاج السياسي أكثر من رغباتها الفردية.
لكن في اعتقادي ان كل هذا يمثل أحد مستويات النظر الى شخصية هامة في تاريخ الثقافة العربية مثل عبد الرحمن منيف. هذا المستوى الذي يرى العلاقة المعقدة بين الكتابة والسياسة وبين المثقف والنبي الذي تنتظره الجماهير. يخفي أحياناً المستويات الاخرى ربما أهم على الرغم من انها اقل شهرة. وفي سيرة منيف هناك مستويات للنظر من زاوية علاقة البدوى بالمدينة (يحكي فاروق عبد القادر عن جولات منيف في القاهرة.. كان بسيطاً وفي المطعم كان يقطع لحم الموزة ويقلبها على الأرز.. في مائدة بدوية عادية..). هو في الوقت نفسه مغرم بالمدينة: كتب “سيرة مدينة” عن عمان. واهتم بعلاقة مدن النفط بالمدنية وبحث في تاريخ مدن العراق في “أرض السواد“. مشغول بالمكان في لحظة انتقاله. وهذه طبيعة البدوي الرحال الذي لا يستقر. وصاحب الغربة الذي يرى في المدينة الحديثة سكنه ومثاله الاعلى.
هناك أيضاً شغفه الشديد بذاكرة الطفولة. الذاكرة حاضرة كأديب كلاسيكي. لكنها أيضاً تأتي في سياق يحارب الوعي الهارب. وفي إطار صنع علاقة مع شخصيات غير مستقرة في التاريخ العربي المربك.
ليست هذه كل المستويات الناقصة في صورة منيف. لكنها بعض ما جاءت به محاولة اللعب في سرادق العزاء. وبعض ما فجره الحوار مع فاروق عبد القادر حول العلاقة بينهما… وكما يبدو في الرسالتين التي عثر عليهما فاروق عبد القادر من بين مجموعة رسائله مع عبد الرحمن منيف هناك مستوى نفسي وأدبي يلخصه منيف: “…واكتشفت بالتجربة أنك واقف لي بالمرصاد، أو مثل لاعبي التنس، و ما أكاد أقذف الكرة حتى تستقبلها بكثير من المعرفة والود، وتحاول أن تروضها وأن تعيدها إلى القارئ وإليّ معاً..”.
لعبة تنس؟
فكرة لطيفة.
هل يمكن تطبيقها علئ العلاقة بين عبد الرحمن منيف و بين مهندسى هدم “مدن الملح“؟
5
النزوع إلى دبي
هل قرأ الملك الصغير روايات عبد الرحمن منيف؟
لا يتعلق السؤال هنا بمحبة محمد بن سلمان للقراءة، بل بالوعي الذي يهدم به”مدن الملح“و هل بعد الهدم ستبنى مدن حداثتها جديدة، ومستوحاة من الموديل الطاغي“دبي”؟
مرة أخرى: هل من الضروري قراءة سردية منيف للجزيرة العربية و مدنها، من أجل هدمها؟
السؤال أكبر من الصراع التقليدي للرقابة، أو الصورة التقليدية عن “مدن البترول”، النزوع إلى “دبي” ثقافة معقدة، ومسيطرة، ولم تنتج حولها أفكار ونقد غير الهجاء، و التواصل بين سردية “دبي” وسرديات “مدن الملح“ يحتاج إلى عقل يتخلص من الصور النمطية، ويرى اللحظة بدون إكليشيهات.