هل يمكن أن نتكلم عن الفلسفة أو الفكر أو العقل اليوم.. في ظل شعور عام بأننا مقبلون على كارثة.. أو نحن فيها بالفعل؛ تلبسنا أرواح الهروب من الخراب، أو جحيم ما بعد الزلازل الكبيرة؟
هل للحكمة دور هنا غير تثبيت الوضع، أو مصادرة طرق الهروب لصالح ركن مستقر في الخراب؟
وهنا أهمية هذا المقال الذي أنهيته قبل 14 عاما بالتعاطف مع حسن حنفي، وشعوره بالزمن، وقد بدأته منحازًا لنموذج نصر أبو زيد في الشجاعة. هل نواجه التخلف بالتَّقيَّة والهروب ووضع الألغام، أم بالبسالة وتفجير القنابل الموقوتة؟ التَّقيَّة أم الشجاعة في مواجهة التخلف؟ كيف يمكن التفكير الآن بعد أن لمسنا الخراب كما لم يتوقع لا حسن حنفي ولا نصر أبو زيد؟
أسئلة لم تعد ترفًا في ظل لحظة صدق عنيفة جدًا؛ عارية من الأكاذيب التي عاشها الناس في مصر منذ ميلادها الحديث؛ فالدولة تعرف وتتصرف على أنها مجرد مسرح لحكم المنتصر بالقوة (الغالب راكب)، ويمارس المارشال الحاكم هذه السلطة دون أن تشغله أكسسوارات المسرح الثقيلة؛ يتعامل مثل الساحر/ الحاوي الذي يلغي الواقع كي تظهر ألعابه ومعجزاته، ويرد المجتمع بالدخول في ثقوب الغيبوبة الزمنية، وتخرج إلى السطح مكنونات صادمة من الفانتازيا الجنسية مع الموتى والحيوانات، وتهليل صاخب في حرب مختلقة مع “مجلس إدارة العالم”. هذا الصدق ليس نهاية العالم أو علامات الانحلال أو السقوط كما يتخيل الرومانتيكيون والمثاليون وأبناء العلاقة بينهما، لكنه مفترق طرق عادي بعد زلزال 2011.
قد يظهر بعد من يعيد الأكسسوارات للمسرح، ويغطي على الفانتازيا بإكليشيهات التقوى والانسجام الجميل، وقد تساهم هذه اللحظة الصادقة في مزيد من التعرية والاحتياج إلى تفكير جديد في الحياة هنا والآن، دون أوهام أو صور مستهلكة عن زمن جميل وانسجام أجمل ضاعا منا.
ندوة الإعترافات
“هذه ندوة الاعترافات“. همست لمحمد شعير ونحن نلتقط أنفاسنا أخيرًا. سافرنا في الثانية عشر من القاهرة ووصلنا إلى الإسكندرية قبل موعد ندوة نصر أبو زيد بعشر دقائق (الثلاثاء الساعة الثالثة ظهرًا). أسميناها بهذا الاسم على الرغم من أنها إحدى جلسات مؤتمر الجمعية الفلسفية (موضوعها: النقد في الفلسفة والفكر الاجتماعي). لكنها المرة الأولى التي يشارك فيها نصر أبو زيد في نشاط علمي بعد معركته الشهيرة مع قناصة التكفير. أي أنه هنا بدعوة من جمعية مصرية ولأنه أستاذ جامعي. وهذا وحده حدث كبير يقطع 8 سنوات من الحياة في المنفى الثقافي: هولندا. (نصر يتمنى مقابلة نجيب محفوظ قبل عودته. وهناك مشروع أيضًا لظهوره في صالون جمال الغيطاني على قناة دريم).
افتتح نصر كلامه بهذا الاعتراف “اليوم فقط أشعر برد اعتباري.. انتظرت طويلًا لكي أتلقى دعوة من جامعتي. جامعة القاهرة.. لكي أرجع.. انتظرت أن يسألوني عن الرسائل التي أشرف عليها.. أو أن يشعروني بأن هناك من يدافع عن حق البحث العلمي وحريته.. لم يتحرك أحد من المسؤولين.. وربما لم يهتموا.. شعرت بالحزن الكبير، حتى قلت لنفسي: الجامعة ليست وطني؛ وطني هو مصر وسأعود.. هكذا أتيت في زيارة عادية بناءً على نصيحة الدكتور حسن حنفي.. وها هي ذي الزيارة الثانية بدعوة من الجمعية الفلسفية وحسن حنفي.. دعوة انتظرتها طويلاً.. ولا أعتقد أن هناك تكريمًا أكبر من قراءة كتبي.. وما أسعد من يناله هذا التكريم بهذا الصيغة!”.
الشحنة العاطفية بدت متساوية هنا مع دقة توصيف الحالة: باحث جامعي يطارد في بلده بسبب أفكاره، نتاج بحثه خارج الأسوار المستقرة للمعرفة، ربما تكون بدأت من مخازن الأيديولوجيا لكنها مع التفاعل تحررت وبحثت عن فضاء اوسع. انتظر نصر أن تتحرك الجامعة؛ فهي بالنسبة له ملعب من ملاعب انتصاره في الحياة والحرية. فقد دخلها في سن الخامسة والعشرين عندما بدأ الدراسة بها في 1968. تفوق وتخرج بامتياز ومرتبة الشرف، وكاد يضيع حقه في التعيين بالسلك الجامعي (بسبب أحلام رشاد رشدي في بسط هيمنة قسم اللغة الإنجليزية على الجامعة) لكنه قابل رئيس الجامعة وظل يلح في الدفاع عن حقه حتى ناله هو وزملاء دفعته.. ثم عندما اختار فرع الدراسات الإسلامية ليكون محور دراساته العليا اعترض مجلس القسم (كانت بداية سيطرة الوعاظ) وخرج نصر من المعارك باحثًا متميزًا يؤمن بحرية البحث العلمي.. وعلى الرغم من أنه لم يخرج عن حدود الإيمان.. ووصف أحيانًا بأنه أصولي و“شيخ” إلا أن تصديقه فكرة الجامعة وانحيازه لقيمة التفكير جعلاه يتجاوز الخطوط الحمراء في عصر لا تهتم الجامعة الا بتخريج جيوش من الجهلة الحاملين لشهادات علمية.
الكلمات الختامية حملت اعترافًا آخر “يجب أن ندافع عن الحرية. ويجب أن تكون للجميع.. لماذا لا ينشئ الإخوان المسلمون حزبهم السياسي.. ولماذا لا ينشئ العلمانيون حزبهم؟“.
قبلها بقليل كان يعترف “الهجوم عليَّ شكل نوعًا كبيرًا من الضغوط أثرت على عملي. وحين أحسست بهذا التأثير مزقت فورًا كل ما كتبت.. أسمي هذا ضغوط الخطاب النقيض.. لكنني أعرف أن قهر الضغوط يتحقق بمطلب بسيط جدًا وهو: الحرية“.
بين اعترافي البداية والنهاية. كان هناك ما يستحق الدهشة.
القنابل الموقوتة
من الثانية الأولى كان الدكتور حسن حنفي منزعجًا. انتظرنا طويلًا حتى صعد موظف الأمن بالمعهد السويدي (مقر الندوة) ليستأذنه في دخولنا. لم نكن متأكدين من أن الندوة مقصورة على الضيوف فقط. “لا صحافة” هكذا قال لنا قبل أن يتركنا أمام شاشة تكشف عبر الكاميرا ما يحدث أمام باب المعهد.. بحثت عن السيارة غريبة الملامح التي لاحظت وجودها قبل أن نضغط على زر التليفون الداخلي للأمن.. وتذكرت أنه كان مكتوبًا عليها “سيارة الكشف عن المفرقعات“!
ضحكت من المفارقة “كاميرا سرية.. وكاسحة قنابل لحماية ندوة“. عاد موظف الأمن برفض الدكتور حسن حنفي. طلبت منه أن يخبر الدكتور نصر. غاب ثم عاد مرة أخرى منتظرًا الرد على التليفون “اتفضلوا“.
على طاولة مستطيلة التف مدرّسو فلسفة في جامعات مصر وتونس والجزائر والسودان ولبنان. موضوع هذه الجلسة هو مناقشة كتابات الدكتور نصر أبو زيد. كان المتحدث الأول على وشك الانتهاء. وفجاة قفز الدكتور حسن حنفي من مقعد مدير الندوة تجاهنا وأشار بحسم “من فضلكم ممنوع التسجيل… هذه ندوة مغلقة” لم نرد عليه ونظرنا إليه باستغراب حتى عاد إلى المقعد وقدم المتحدث الثاني “الباحث الجزائري أبو زيد مزيان” الذي اعترف بأنه نشر عرضًا لمجموعة من كتب نصر أبو زيد في مجلة “الشروق الثقافي” تحت اسم مستعار؛ كان هذا في “زمن المحنة“، وهو توصيف عاطفي عن سنوات مطاردة واغتيال الكتاب والمثقفين في الجزائر. الخوف من مصير القتل كان يتطلب السرية على ما يبدو في مواجهة جماعات العنف الأصولي. وفي الوقت نفسه كانت كتابات نصر أبو زيد “دعمًا لتيار المثقفين المعربين في مواجهة كل من المثقفين الفرانكفونيين من جانب والحركات الإسلامية من الجانب الآخر“.
هكذا قال مزيان مشيرًا إلى أنه “في مواجهة الفرانكفونية لم يكن قويًّا في ذلك الوقت إلا الإسلاميون.. لكن المثقف المعرب وجد في كتابات نصر أبو زيد سندًا علميًّا لمواجهة كلا الفريقين.. كان هو أهم تمثيل للحرف العربي المستنير“.
الباحث الجزائري اعتبر أن نصر أبو زيد واقع تحت “سطوة محي الدين بن عربي الروحانية والعرفانية” واعتبر أيضًا أن كتاباته أصبحت “سجينة الخطاب الذي تنتجه الحركات الإسلامية” وأنها أصبحت “سندًا ومرجعية في الصراع الأيديولوجي والسياسي للتغلب على سطوة الحركات الإسلامية“.
هذا النوع من نقد أفكار الدكتور نصر أبو زيد كان محور الندوة؛ لكن هذه الفكرة لم تتحقق تمامًا. ربما لأن أغلب الحاضرين يمثلون الحالة الحاضرة لأستاذ الجامعة، وخصوصًا الفلسفة. فالجامعة التي ينتصر فيها عبد الصبور شاهبن ومحمد عمارة وغيرهم من “فقهاء التكفير” لن يتخرج فيها سوى أساتذة لا يختلفون كثيرًا عن خطباء الجمعة وإن افتقدوا لجاذبيتهم في التعامل مع مشاعر الجمهور.
هذه حال دارسي الفلسفة التي لم يعترف بها أحد في الجلسة، وإن كانت اعترافات حسن حنفي إشارة مهمة إلى واقع الجامعة، والمجتمع أيضًا) لكن من زاوية مختلفة.
قال حسن حنفي (وهذه صياغات لما قاله وليست نصوصًا):
1 ـ نصر أبو زيد بالنسبة لي مسالة شخصية. وليس مجرد موضوع. فهو تلميذي الذي تعلمت منه.
2 ـ استطاع أن يواجه الفكر المسيطر. أنا أستخدم أسلوبًا آخر. أسلوب حرب العصابات “اضرب واجرِ“. ازرع قنابل موقوته في أماكن متعددة. تنفجر وقتما تنفجر ليس المهم هو الوقت. المهم أن تغير الواقع والفكر.
3 ـ نحن نقاوم 1000 عام من التخلف.
4 ـ يسمونني “المفكر الزئبقي“. لا يعرفون كيف يصنفونني؛ الجماعات الإسلامية تراني ماركسيًّا. والشيوعيين يرون أني أصولي. والحكومة تتعامل على أني شيوعي إخواني (ضحك في القاعة).
5 ـ الاختلاف بيني وبين نصر ليس في القول بل في المنهج. هو اختار العلن وأنا أرى أن المسألة لا بد وأن تكون سرية. هم مسيطرون على العامة وقضايانا هي قضايا الخاصة.. نحن مجموعة قليلة يمكن أن يصطادونا واحدًا واحدًا. وينتهون منا. لهذا استخدم “آليات التخفي“.
6 ـ أصحاب المصلحة هنا يريدون تثبيت النص لأنهم يريدون تثبيت السلطة. والنص هنا ليس المكتوب فقط؛ بل إن صدام نص. وأشباهه نص. وكل تحريك او نقد للنصوص اهتزاز للسلطة.
7 ـ ربما لو كنا واجهنا لما تعرَّض له نصر لما تعرّض له. ومنذ طه حسين مرورًا بأمين الخولي وحتى الآن البداية دائمًا من الصفر.
8 ـ ربما لهذا أعتبر نصر أبو زيد هو حسن حنفي كما ينبغي أن يكون.
مشاريع الوهم والعذاب
كانت اعترافات حسن حنفي صادمة.
فهو واحد من أهم أساتذة الفلسفة في الجامعات المصرية. مشغول بتركيب مشروع فكري. كانت زهوته في الثمانينيات عندما قدم فكرة “اليسار الإسلامي“. وكما أفهمها هي محاولة البحث عن الجوانب العقلية والراديكالية في الفكر الإسلامي. وهو نوع من المشاريع التي وصفت بأنها “توفيقية“. تتصور أنه يمكن الجمع أو التركيب بين مفاهيم “الحداثة” و“التراث“. وهي يوتوبيا نظرية بدأت مع الجنرالات أصحاب المشاريع القومية من محمد علي إلى جمال عبد الناصر، مرورًا بالجنرالات في العراق وليبيا. حلمهم كان اكتشاف صيغة تجمع الاضداد: اشتراكية الإسلام. الاشتراكية العربية. النظرية العالمية الثالثة (المعروفة باسم الكتاب الأخضر).
لكن حلم الجنرالات كان تفسيره مختلفًا عند المثقفين. فالرغبة كانت إبداع مناهج انفرد بها الغرب. ولمعت مشاريع لأسماء مثل: محمد عابد الجابري وعبد الله العروي وحسن حنفي ظلت هذه الأسماء لامعة حتى التسعينيات. ومع انتهاء الحرب الباردة أصبحت الأفكار أكثر حدة واستقطاب فغابت مشاريع الوسط الذهبي الحالمة (نصر أبو زيد وجه ملاحظات نقدية مستفيضة حول مشروع حسن حنفي في كتابه “نقد الخطاب الديني“).
من هنا كان كتاب “الاستغراب” لحسن حنفي موضع نقد كبير. وبداية لانحسار أفكاره، وبقاء قيمته كأستاذ جامعة ومعلم أجيال. وهو بالفعل “علامة إرشادية” لطلاب وأساتذة أقسام الفلسفة. ونموذج غائب للأستاذ الآن الذي يهتم بالثقافة والمعرفة لا بطبع المذكرات والدروس الخصوصية.
نصر أبو زيد بدأ كلامه بإشارة وحكاية. الإشارة أن “الدكتور حسن حنفي أستاذي. تعلمت منه طالبًا في مرحلة الليسانس والماجستير ثم الدكتوراه. ولا أزال أتعلم منه. تطورت علاقتنا من الأستاذية إلى الصداقة. بيننا حوار دائم خصب. عنيف أحيانًا.. لكنه محاولة للوصول إلى نتائج مثمرة“.
والحكاية “عندما كنت طالبًا استمعت إلى محاضرته.. وطلب مني تعليقًا؛ قلت له: حضرتك بتقول إننا ممكن نغير الواقع بالفكر.. تقول هذا الكلام وأنت ترتدي رباط عنق من باريس وتجلس مستريحًا في الجامعة. كنت وقتها متحمسًا جدًا وأعتقد أن الواقع هو الذي سيغير الفكر وليس العكس.. فقال لي: عندما تتخرج شكل حزبًا سياسيًّا ستكون أنت زعيمه وأكون أنا عضو فيه.. من هنا تعلمت منه أن الأستاذ في الجامعة لا يمارس سلطة معرفية على طلابه“.
ومن هذه النقطة الأخيرة قال الدكتور نصر أبو زيد مجموعة أفكار بينها (هذه أيضًا صياغات وليست نصوصًا):
1 ـ الدين عنصر مؤسس من عناصر النهضة. لكنه ليس شرط النهضة. ولا يمكن لأي مشروع نهضة أن يتجاهل الدين.
2 ـ لكن يظل السؤال: أي دين؟ بمعنى أي فهم للدين؟ هل هو الدين الذي صنعته المؤسسات وتطور من الإيمان إلى العقائد إلى الدوجما (أو الدائرة المغلقة التي لا تحتمل التفكير؟!).
3 ـ هل هو الدين الرسمي أم الدين الشعبي؟ هل الدين الشعبي كفر؟ محمد عبده ورشيد رضا قالا إن الفلاحين الذين يتبركون بالأولياء ويزورون الأضرحة عبدة أوثان.. هل هم كذلك فعلاً أم أننا أمام تأويل اجتماعي للدين؟ ففي العصر الذي لم يكن الفلاح يستطيع الكلام مع العمدة مباشرة ويحتاج إلى وسيط بالتأكيد فإنه يحتاج إلى وسيط بينه وبين الله؟
4 ـ مهمتنا ليست الحكم على عقيدة أحد؛ بل الفهم. أو السؤال عن كيف تطور إنتاج المعنى؟
5 ـ نحن جميعًا نتصارع حول المعنى.
6 ـ المعرفة مشاركة وحوار ونقد. لكن هناك من يدعي سلطة معرفية ويتصورون أننا نصارعهم عليها. وهذا ليس صحيحًا فلسنا طلاب سلطة. نحن طلاب معرفة.
7 ـ المؤسسات تختزل الدين في الحلال والحرام. لكن الدين معطى ثقافي حي وفاعل.
8 ـ التراث عنصر أصيل من عناصر النهضة. لا أحصر التراث الديني في الإسلام وحده. هناك جزء من تراث المسيحية واليهودية دخل في تراث الإسلام.
9 ـ في المجتمعات العلمانية لا يمكن على مستوى بينية الثقافة أن نتحدث عن الفصل الكامل بين الدين والمجتمع. هناك مثلًا عندما تتحدث عن القدس لا يمكن لشخص علماني أن يتعامل معها إلا أنها القدس اليهودية. فالدين جزء من بنية. وفي أثناء كتابة الدستور الأوروبي كان الخلاف هل يذكرون المسيحية أم لا؟ الدين مكون أساسي (وليس الوحيد) في بنية الثقافة. لكن مرة أخرى: أي دين؟
10 ـ المرعب هو استخدام الدولة للفكر في مشروعها. فتكون الدولة علمانية وهي تحارب الارهاب. ودينية وهي تحارب المعارضة العلمانية. وإرهابية وهي تحجب الحركات الإسلامية.
الفيلسوف والراقصات
قبل هذه النقطة الأخيرة حكى نصر أبو زيد عن إعلان استوقفه في محطات المترو في باريس. في مركز الإعلان غلاف كبير لكتاب “نقد العقل المحض” أشهر كتب الفيلسوف الألماني كانط. وكان الإعلان عن لبن أطفال، والإشارة إلى أنه إذا شرب طفلك هذا النوع من اللبن سيستطيع أن يقرأ فلسفة كانط.
يقول نصر: المعلن عن السلعة يعمل دائمًا على الأشياء المعروفة؛ وهذا معناه أن الفيلسوف كانط معروف عند غالبية الفرنسيين.. وهذا يفسر أيضًا أن كل إعلاناتنا تعتمد على راقصات، باعتبار أن هذا ما نعرفه.. سأسأل هنا كم شخصًا يعرف طه حسين في مصر؟
هذا يفتح الطريق أمام مجموعة إشارات أخرى:
1 ـ أكره كلمة التنوير؛ لا أحب استخدامها. ولا استخدام نقيضها “الظلاميين“. هذه التوصيفات تذكرني بمحاولة الدولة في استخدام المثقفين في معركة ضد الإرهاب. قلت للمسؤول وقتها لكن على باب الجامعة: الشرطة توقفني وتطلب منى بطاقة الدخول. وفي كل مكان تطاردنا أجهزة السلطة. هل يحدث تنوير برغبة هذه الدولة، أم أن المفروض أن يتحول المثقف إلى موظف عند الدولة؟
2 ـ المثقف عندما يتحول إلى موظف يفقد دوره.
3 ـ هل فكر أحد: كيف تتحول النصوص إلى نصوص مقدسة؟! بمعنى آخر لماذا يعتبر البعض أن أشكال القصاص مقدسة. على الرغم من أن أشكال مثل الرجم أو الجلد كانت موجودة قبل القرآن؛ أي أنه تبناها. ونحن اليوم نعتبرها مقدسة. أي أننا نهتم بالشكل ونعتبره صالحًا لكل مكان وزمان. والسؤال هنا هل نهتم بالعدل أم بتحقيق العدل؟
4 ـ هنا يبدو الصراع على العامة؛ وأنا حين قدمت أعمالي للترقية لم أقدمها إلى العامة بل إلى الخاصة. لكن الخاصة هي التي ألبت عليَّ العامة وحرضتهم. في إطار صراع على سلطة المعرفة. هذا على الرغم من أني أومن بديموقراطية المعرفة، وبأنه لن يتم تغيير بصراع الخاصة مع الخاصة. لكن هناك من كان يقول علانية “لا يهمنا تفريق نصر أبو زيد عن زوجته.. نريد أن نطرده من الجامعة” هم يعرفون أن هذا مركز تأثيري؛ وهنا الصراع.
5 ـ أنا متصوف بالمعنى الحياتي، لا بالمعنى العرفاني. أي أنني مؤمن بأنه كلما استغنيت اغتنيت. أقلل احتياجاتي دائمًا، فتقل قدرة الآخرين على التحكم فيَّ. تكفيني حجرة وكتاب ومكتب وقلم. ربما يرجع هذا لنشأتي الريفية والفقر واليتم. لكن الأهم أن التصوف منهج للحياة يجعل الإنسان مستقلًا.
6 ـ أصدم قليلًا عندما اسمع أحد يتكلم عن: مشروع نصر أبو زيد؛ المشروع يعني أنني أحمل رسالة؛ أنا باحث. مهتم بفهم الظاهرة الدينية في تاريخيتها. لا شيء أكثر. أنا أيضًا مواطن يريد حريته. “مواطن” يسافر ويعود. يناقش ويختلف. وليس مجرد رمز المعركة بين التفكير والتكفير أو بين الحرية والتفتيش.
هل كان وجود نصر هنا أي اشارة بانتهاء المعركة؟ أم أن طرفًا من الطرفين أعلن استسلامه؟ أم أنه عامل الزمن.. وابتعاد نصر عن دائرة الصراعات المباشرة والتنافس حول “كعكة” التحدث حول القرآن والدين؟
لماذا كان حسن حنفي منزعجًا ومتوترًا. قال لنا “أنا أحاول حمايته” وعندما لم نفهم أكمل رأيه “أعتقد أن نصر ضحية الصحافة“..
سألناه: الصحافة!؟
قال: نعم. كنا نستطيع حمايته في الجامعة.
ولماذا لم يحدث؟
لم يرد حسن حنفي.
هل كتب نصر موجودة في مكتبة الجامعة؟
قال: لكنها موجودة في مكتبات الجامعة.
وهل هذا انتصار؟
انتهت الاسئلة، فقد أشفقنا من مشاعر الخوف على نصر أبو زيد.
لكن ما تزال الدهشة موجودة:
1 ـ نصر أبو زيد أولًا ليس ضحية. بل كان في وقت من الأوقات محور الصراع بين الرغبة في الحرية والرغبة في إعلان السيطرة على المجتمع.
2 ـ ليس هناك شيء واحد اسمه الصحافة. هناك أنواع من الصحافة. وأفكار تحرك الصحافة. وفي معركة نصر كانت المسافة واضحة بين صحافة تدافع عن حرية نصر. وصحافة ترى فيه “مجرمًا” لأنه قرر التفكير خارج السرب.
3 ـ وإذا كانت الصحافة هي ملعب الحوار الوحيد الباقي في المجتمع بعد أن أغلقت السلطة كل الملاعب الأخرى (حتى الجامعة) لماذا الخوف من طرح معركة نصر في الصحافة ودفع الثمن؟
4 ـ والعيب ليس أن تتناول الصحافة معركة نصر. بل العيب أن تتجاهلها. أو تخشى الاقتراب منها.
5 ـ والأهم أن تنتهي تيارات الوصاية الفكرية على الناس.
هذه ليست إلا رؤوس أقلام للنظر في المسكوت عنه؛ السري والمكبوت. وكل ما نخفيه تحت الاحتفالات والعناوين والرغبة في أن تظل الأفكار الخارجة عن الثقافة السائدة مجرد قنبلة موقوته. غالبًا تنفجر في صاحبها أولًا.
هل نخاف من دفع فاتورة الأفكار؟
هل نريد أن نخرج عن السرب ونتمتع بنعيمه في الوقت نفسه؟
هنا تبدو قيمة الاعترافات.
وسأعترف أنني بدأت محاضرة نصر أبو زيد منزعجًا من حسن حنفي. وانتهيت منها متعاطفًا مع إحساسه بالزمن.
الوسوم :
cairohassan hanafinasr abu zaidnasr abu zayednasr hamidأبو زيد مزيانالإسلامالاخوان المسلمينالتكفيرالتنويرالحركات الإسلاميةالفلسفةالقاهرةالمفكر الزئبقياليسار الإسلاميجامعة القاهرةجمال الغيطانيحسن حنفيزوجة نصر أبو زيدزوجتهسياسةعبد الله العرويكفرمحمد شعيرمحمد عابد الجابريمحي الدين بن عربيمدينةمصرمعركةنجيب محفوظندوةنصر أبو زيدنصر حامد أبو زيدوائل عبد الفتاح