تاريخ جديد للإنسانية: هل ارتكبنا خطأ رهيبًا؟

فجر كل شيء

أسماء يس ترجمة

الإنسان مشغول دائمًا بالكثير والكثير من الأشياء، وليس لديه الوقت لطرح أسئلة تتعلق بالتاريخ ومداه وعمقه، وكيف كنا.. ولماذا أصبحنا هكذا.. ولماذا نحن هنا.. وإلى أين نحن ذاهبون.. وبالتأكيد ليس لديه الفرصة ليسأل كيف وصلنا إلى هذه الفوضى الحالية، وهل كنا على الدوام في هذه الحال من البؤس واللامساواة.. أم أنناكبشرعشنا فترات جيدة ومرحة..
في هذا الكتابفجر كل شيء: تاريخ جديد للإنسانية، يبحث كل من ديفيد جريبر، وديفيد وينجرو هذه المسائل المعلقة بلا إجابة لألوف السنين، ويسعيان إلى إجابات ربما لن تكون قاطعة تمامًا، وهي نتيجة منطقية تتعلق بطبيعة علمي التاريخ والأنثروبولجيا؛ هذا النوع من العلوم المعتمد على براهين ليست قطعية تمامًا، كما أنهما يتقاطعان في هذا الكتاب مع علوم أخرى كعلم النفس والعلوم السياسية وعلم الاجتماع وغيرها.. ويقدمانرواية جديدة تمامًا لكيفية تطور المجتمعات البشرية على مدار الثلاثين ألف عام الماضية تقريبًا”..
وضع هذا الكتاب الذي صدر في الولايات المتحدة مؤخرًا؛ في نوفمبر 2021، مؤلفان؛ هما ديفيد جريبر أستاذ الأنثروبولوجيا في كلية لندن للاقتصاد، ومؤلف كتابالديون: الخمسة آلاف عام الأولى والوظائف التافهة، وصاحب الإسهامات في مجلة هاربر Harper’s Magazine والجارديان The Guardianوبافلر The Baffler، وهو مفكر مبدع وناشط مشهور، توفي في 2 سبتمبر 2020.
وديفيد وينجرو أستاذ علم الآثار المقارن في معهد علم الآثار، بجامعة كوليدج، لندن، والأستاذ الزائر في جامعة نيويورك. له عدة كتب منهاما يصنع الحضارة؟“.. ويقوم وينجرو بعمل ميداني آثاري في أجزاء مختلفة من أفريقيا والشرق الأوسط.

  • *الغلاف والصور المصاحبة من رسوم كهوف التاميرا في سانتايالانا ديل مار في شمال غرب إسبانيا، وهو من أوائل الكهوف المزينة برسوم الحيوانات المكتشفة في العالم.

مدينة

“هذا المزاج يطغى بنفسه في كل مكان، سياسيًّا واجتماعيًّا وفلسفيًّا.. نحن نعيش فيما أطلق عليه الإغريق καιρός كايروس، أي الوقت المناسب، من أجل “تحول الآلهة”، أي المبادئ والرموز الأساسية “..  سي جي. يونج، الذات غير المكتشفة (1958). 

من المؤكد أننا فقدنا معظم التاريخ البشري، ولا يمكننا استعادته، فعلى الرغم من أن جنسنا البشري، أي الإنسان العاقل، موجود منذ ما لا يقل عن مليوني سنة، فإننا لا نملك أدنى فكرة عما حدث في أغلب هذه الفترة الطويلة.. في شمال إسبانيا، على سبيل المثال، في كهف ألتاميرا، نُقشت لوحات ونقوش على مدى فترة لا تقل عن 10000 عام، بين عامي 25000 و15000 قبل الميلاد. ومن المفترض بالطبع أن كثيرًا من الأحداث الدرامية وقعت خلال هذه الفترة، لكننا للأسف لا نملك سبيلاً لمعرفة معظم ما حدث. وهذا الأمر لا يمثل أهمية كبيرة بالنسبة لمعظم الناس، فهم نادرًا ما يفكرون في الامتداد الواسع للتاريخ البشري على أي حال، إذ ليس لديهم أسباب كافية لذلك. وبقدر ما يُطرح السؤال فإنه عادة ما يظهر عند التفكير في سبب وجود العالم في مثل هذه الحال من الفوضى، وفي لماذا يعامل البشر بعضهم البعض في كثير من الأحيان بشكل سيء، وفي أسباب الحرب والجشع والاستغلال واللامبالاة المنهجية لمعاناة الآخرين. هل كنا دائمًا على هذا النحو، أو أننا فعلنا شيئًا ما، في مرحلة ما، هل ارتكبنا خطأً رهيبًا؟
هذا في الأساس نقاش لاهوتي، ويبقى السؤال الرئيسي هو: هل البشر طيبون بالفطرة أم أشرار بالفطرة؟
لكن إذا فكرت في الأمر، فإن السؤال، في إطار هذه المصطلحات، لا معنى له على الإطلاق. “الخير” و”الشر” مفاهيم بشرية بحتة، ولن يخطر ببال أي شخص أن يجادل حول ما إذا كانت سمكة أو شجرة، خيرة أم شريرة، لأن “الخير” و”الشر” مفهومان ابتكرهما البشر لمقارنة أنفسنا ببعضنا بعضًا. ومن ثَم فالجدل حول ما إذا كان البشر في الأساس صالحين أم أشرارًا أمر منطقي، تمامًا بقدر الجدل حول ما إذا كان البشر بدناء أو نحفاء.
ومع ذلك، وفي تلك المناسبات التي يفكر فيها الناس في دروس ما قبل التاريخ، فإنهم يعودون بشكل شبه دائم إلى أسئلة من هذا القبيل. ونحن جميعًا نعرف الإجابة المسيحية: لقد عاش الناس ذات مرة في حالة من البراءة والصلاح، لكنهم أصلاً ملوثون بالخطيئة الأصلية.. لقد أردنا أن نكون مثل الله وعوقبنا على ذلك؛ ونحن الآن نعيش في حالة سقوط بينما نأمل في الخلاص مستقبلاً.

اليوم، عادةً ما تشوب النسخة الشائعة من هذه القصة من خطاب جان جاك روسو الذي وضعه عام 1754 حول أصل وأسس عدم المساواة بين البشر بعض التحديث. وهي تخلص إلى البشر كانوا فرقًا تعيش في مجموعات صغيرة، في حالة مطولة من البراءة الطفولية، وكانت فرقًا متكافئة. ربما لأنها كانت مجموعات صغيرة جدًا. لكن بعد “الثورة الزراعية”، ومن ثَم ظهور المدن، انتهى هذا الوضع السعيد، مما أدى إلى ظهور “الحضارة” و”الدولة”، وهو ما يعني أيضًا ظهور الأدب المكتوب والعلوم والفلسفة، وفي الوقت نفسه،  ظهرت كذلك كل الأشياء السيئة تقريبًا في حياة الإنسان: النظام الأبوي، والجيوش الدائمة، والإعدامات الجماعية، والبيروقراطيون المزعجون الذين يطالبون بأن نقضي معظم حياتنا في نماذج متطابقة.
هذا بالطبع تبسيط مخل للغاية، ولكنها تبدو في الحقيقة القصة التأسيسية التي تطفو على السطح عندما يقول أي شخص من علماء علم النفس الصناعي وحتى النظريين الثوريين، شيئًا مثل “ولكن بالطبع قضى البشر معظم تاريخهم التطوري العيش في مجموعات من عشرة أو عشرين شخصًا، “أو” ربما كانت الزراعة أسوأ أخطاء البشرية”. وكما سنرى، فالعديد من الكتاب المشهورين يطرحون هذه الحجة بشكل قاطع. وتكمن المشكلة في أن أي شخص يسعى لإيجاد بديل لهذه النظرة المحبطة إلى حد ما للتاريخ سيجد سريعًا أن الطرح الوحيد المقدم هو أسوأ من سابقه: فإن لم يكن روسو، فهو إذن توماس هوبز!
يعتبر كتاب توماس هوبز الليفياثان Leviathan، الذي نُشر عام 1651، من نواحٍ عديدة، النص التأسيسي للنظرية السياسية الحديثة. فقد رأى أن البشر مخلوقات أنانية،  ومن ثَم فإن الحياة في حالتها الطبيعية الأصلية لم تكن بريئة بأي حال من الأحوال؛ وينبغي أن تكون بدلاً من ذلك “منعزلة، فقيرة، بذيئة، وحشية، وقصيرة”، وهي بالأساس في حالة حرب دائمة؛ حيث يقاتل الجميع ضد أي شخص آخر. بقدر ما كان هناك أي تقدم من هذه الحالة المظلمة، قد يجادل أحد المقتنعين بكلام هوبز بأن ذلك إلى حد كبير كان بسبب تلك الآليات القمعية التي كان روسو يشكو منها، وهي الحكومات، والمحاكم، والبيروقراطيات، والشرطة. كان هذا الرأي للأشياء موجودًا لفترة طويلة جدًا أيضًا.
يوجد مبرر يجعل كلمات مثل “سياسة” و”مؤدب” و”بوليسي” متشابهات في اللغة الإنجليزية، فجميعهما مشتق من الكلمة اليونانية polis، أو المدينة، والمرادف اللاتيني لها هو civitas، والذي قد يعني أيضًا “حضارة” و”مدنية”، وهو فهم حديث معين لـمفهوم “الحضارة”.
وفقًا لوجهة النظر هذه، تأسس المجتمع البشري على القمع الجماعي لغرائزنا الأساسية، وهو الأمر الذي يصبح أكثر أهمية عندما يعيش البشر بأعداد كبيرة في المكان نفسه. وقد يجادل الهوبزيون المعاصرون إذن بأننا بالفعل عشنا معظم تاريخنا التطوري في مجموعات صغيرة، يمكن أن تتعايش جيدًا لأنها تتشارك مصلحة مشتركة في بقاء نسلها (“الاستثمار الأبوي”، وفقًا لتسميه علماء الأحياء التطورية). لكن حتى هذه المجموعات لم تكن قائمة على المساواة بأي حال من الأحوال. كان هناك دائمًا، في هذا النموذج “رجل ألفا”alpha male، قائد المجموعة؛ إذ طالما كان التسلسل الهرمي والهيمنة والمصلحة الذاتية أساس المجتمع البشري. كل ما في الأمر أننا، وبشكل جماعي، عرفنا أن مصلحتنا تكمن في إعطاء الأولوية لمصالحنا طويلة الأجل على غرائزنا قصيرة المدى؛ مع أنه من الأفضل أن نسن قوانين تجبرنا على حصر أسوأ دوافعنا في المجالات المفيدة اجتماعيًا مثل الاقتصاد، بينما تحظرها وتقننها في كل المجالات الأخرى.

كما يمكن للقارئ أن يكتشف من لهجتنا، فإننا لا نحب الاختيار بين هذين البديلين، إذ يمكن تصنيف اعتراضاتنا إلى ثلاث فئات عامة، كروايات للمسار العام للتاريخ البشري، وهي أنها:
1- ببساطة ليست صحيحة..
2- لها تداعيات سياسية وخيمة..
3- تجعل الماضي مملاً بلا داع..
هذا الكتاب محاولة للبدء في سرد ​​قصة أخرى أكثر تفاؤلاً وإثارة للاهتمام؛ وفي الوقت نفسه، تأخذ في الاعتبار بشكل أفضل ما حصلناه في العقود القليلة الماضية من البحث. ويتعلق الأمر جزئيًّا بجمع البراهين التي تراكمت في علم الآثار والأنثروبولوجيا والتخصصات الشبيهة؛ وهي براهين تشير إلى رواية جديدة تمامًا لكيفية تطور المجتمعات البشرية على مدار الثلاثين ألف عام الماضية تقريبًا. هذه الرواية التي تتعارض تقريبًا مع السردية المألوفة للتاريخ، ولكن في كثير من الأحيان تظل الاكتشافات الأكثر بروزًا محصورة في عمل المتخصصين، أو يجب الكشف عنها من خلال قراءة ما بين سطور الدراسات العلمية.

ومن أجل فكرة أوضح عن مدى اختلاف الصورة الناشئة، من الواضح الآن أن المجتمعات البشرية قبل ظهور الزراعة لم تكن محصورة في المجموعات الصغيرة المتساوية، بل على العكس من ذلك، كان عالم الصيادين وجامعي الثمار، مثلما كان موجودًا قبل مجيء الزراعة، واحدًا من التجارب الاجتماعية الجريئة، التي تشبه موكبًا كرنفاليًا للأشكال السياسية، وهذا أكثر بكثير من مجرد تجريدات مملة للنظرية التطورية. كما أن الزراعة لا تعني نشأة الملكية الخاصة، فلم تمثل خطوة لا رجعة فيها نحو اللامساواة. في الواقع، كانت العديد من المجتمعات الزراعية الأولى خالية نسبيًا من التراتبية والتسلسلات الهرمية. وبعيدًا عن جمود الفروق الطبقية، أنشئ عدد مذهل من المدن الأولى في العالم على أسس مساواة قوية، دون الحاجة إلى حكام استبداديين أو سياسيين محاربين طموحين أو حتى إداريين متسلطين. والمعلومات المتعلقة بمثل هذه القضايا صارت تتدفق من كل أنحاء العالم. ونتيجة منطقية لذلك، فحص الباحثون في جميع أنحاء العالم أيضًا المواد الإثنوجرافية والتاريخية بناءً على معلومات جديدة. ويوجد حاليًا العديد من النماذج القادرة على إنشاء تاريخ عالم مختلف تمامًا، ولكنها تظل، حتى الآن، مخفية عن الجميع باستثناء عدد قليل من الخبراء المتميزين (وحتى الخبراء يميلون إلى التردد قبل التخلي عن الجزء الصغير الخاص بهم من اللغز، لمقارنة الملاحظات مع الآخرين خارج حقلهم الفرعي المحدد)..
هدفنا في هذا الكتاب هو البدء في تجميع بعض قطع اللغز معًا، مع كامل الإدراك بأنه لا يوجد أحد حتى الآن حلاً للغز.. المهمة صعبة بالطبع، والقضايا التي يتناولها مهمة للغاية، وسوف يستغرق الأمر سنوات من البحث والنقاش لبدء فهم الآثار الحقيقية للصورة التي بدأنا نراها، لكن على كل حال من المهم أن نبدأ. الشيء الوحيد الذي سيتضح سريعًا هو أن “الصورة الكبيرة” السائدة للتاريخ، والتي يشاركها أتباع العصر الحديث لهوبز وروسو على حد سواء، لا علاقة لها بالحقائق تقريبًا. ولكن لبدء فهم المعلومات الجديدة المعروضة أمامنا الآن، فلا يكفي تجميع وفحص كميات هائلة من البيانات، بل يستلزم الأمر تغييرًا مفاهيميًّا. ويعني إجراء هذا التحول إعادة تتبع بعض الخطوات الأولية التي قادت إلى مفهومنا الحديث للتطور الاجتماعي: فكرة أن المجتمعات البشرية يمكن ترتيبها وفقًا لمراحل التطور، وأن لكل منها تقنياتها المميزة وأشكالها التنظيمية (الصيادون – الجامعون، المزارعون، المجتمع الحضري الصناعي، وما إلى ذلك). وكما سنرى، تعود جذور هذه المفاهيم إلى رد الفعل المحافظ ضد انتقادات الحضارة الأوروبية، والتي بدأت تكتسب أرضية صلبة في العقود الأولى من القرن الثامن عشر. ومع ذلك، فإن أصول هذا النقد لا تكمن في فلاسفة عصر التنوير (على الرغم من إعجابهم به وتقليدهم له في البداية)، بل في المعلقين الأصليين والمراقبين للمجتمع الأوروبي، مثل رجل الدولة الأمريكي (من السكان الأصليين) كانديارونك.

وتعني إعادة النظر فيما سوف نطلق عليه “نقد السكان الأصليين” أخذ الإسهامات في الفكر الاجتماعي، والتي تأتي من خارج القانون الأوروبي بجدية، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بالشعوب الأصلية، التي يميل الفلاسفة الغربيون إلى تصويرها إما في دور ملائكة التاريخ أو شياطينه. وبالتأكيد يحول كلا الموقفين دون أي إمكانية حقيقية للتبادل الفكري، أو حتى للحوار؛ فمن الصعب مناقشة أمر شخص يعتبر شيطانيًا، تمامًا مثلما تصعب مناقشة أمر أي شخص يعتبر إلهيًا، إذ من المحتمل أن يُعتبر أي شيء يفكر فيه أو يقوله إما غير ذي صلة، أو عميق للغاية. معظم الأشخاص الذين سنناقشهم في هذا الكتاب ماتوا منذ زمن طويل، ولم يعد من الممكن إجراء أي نوع من المحادثة معهم. ومع ذلك، نحن مصممون على كتابة عصور ما قبل التاريخ كما لو كانت تتألف من أشخاص يمكن للمرء أن يتحدث إليهم، عندما كانوا لا يزالون على قيد الحياة، هؤلاء الذين لم يكونوا موجودين فقط كنماذج، أو عينات، أو دمى أو ألعاب لبعض قوانين التاريخ التي لا يمكن تغييرها نهائيًّا. وبالتأكيد فإن بعض التوجهات التاريخية قوية إلى درجة يصعب معها السباحة ضدها (على الرغم من أنه يبدو دائمًا أن هناك من يستطيع فعل ذلك على أي حال). لكن “القوانين” الوحيدة هي تلك التي نصنعها بأنفسنا. وهو ما يقودنا إلى اعتراضنا الثاني.

لماذا أنتجت النسختان الهوبزية والروسوية لتاريخ البشرية تداعيات سياسية مباشرة؟

تحتاج التداعيات السياسية للنموذج الهوبزي إلى القليل من التفصيل. ومن الافتراضات التأسيسية لنظامنا الاقتصادي أن البشر في الأساس مخلوقات شريرة وأنانية إلى حد ما، وأن قراراتهم تستند إلى حسابات ساخرة وأنانية بدلاً من سلوك طريق الإيثار أو التعاون؛ وفي هذه الحال، أفضل ما يمكن أن نأمله هو المزيد من الضوابط الداخلية والخارجية المعقدة على دافعنا الفطري المفترض نحو التراكم والتعظيم الذاتي. وتبدو قصة روسو حول الكيفية التي انحدرت بها البشرية إلى اللامساواة من حالة أصلية من البراءة المتساوية أكثر تفاؤلاً (على الأقل كان هناك مكان ما أفضل للسقوط منه)، لكنها في الوقت الحاضر تنشر غالبًا لإقناعنا بأنه بينما النظام الذي نعيش في ظله قد يكون غير عادل، فإن أقصى ما يمكن أن نطمح إليه بشكل واقعي هو القليل من الإصلاح البسيط. وفي هذا الصدد فإن مصطلح “اللامساواة” في حد ذاته معبر للغاية.
منذ الانهيار المالي في عام 2008، والاضطرابات التي تلت ذلك، أصبحت مسألة اللامساواة، ومعها التاريخ الطويل للامساواة، مادة رئيسية للنقاش. وظهر شيء من الإجماع بين المثقفين، وإلى حد ما الطبقات السياسية، يقر بأن مستويات اللامساواة الاجتماعية خرجت عن السيطرة، وأن معظم مشكلات العالم ناتجة، بطريقة أو بأخرى، عن الهوة المستمرة في الاتساع بين الأغنياء والفقراء. والإشارة إلى هذا يمثل في حد ذاته تحديًا لهياكل القوة العالمية؛ وهو في الوقت نفسه، وعلى الرغم من ذلك، يؤطر القضية بطريقة تطمئن الأشخاص الذين يستفيدون من تلك الهياكل في نهاية المطاف، لأنها تعني أنه لا يوجد مجال ممكن لحل للمشكلة إطلاقًا.

بعد كل شيء، تخيل أننا صغنا المشكلة بشكل مختلف، بالطريقة التي ربما كانت سائدة قبل خمسين أو مئة عام، وخصوصًا فيما يتعلق بمركزية رأس المال، أو احتكار القلة، أو القوى الطبقية. ومقارنة بأي من هذه الأمور تبدو كلمة مثل “اللامساواة” وكأنها مصممة عمليًّا لتشجيع أنصاف الإجراءات والحلول الوسطى. ومن الممكن أن نتخيل الإطاحة بالرأسمالية أو كسر سلطة الدولة، لكن ليس من الواضح تخيل ما الذي سيعنيه القضاء على اللامساواة. (أي نوع من عدم اللامساواة؟ الثروة؟ الفرص؟ كيف يجب أن يكون الناس متساوين حتى نتمكن من القول إننا “قضينا على اللامساواة”؟)، فمصطلح “اللامساواة” وسيلة لتأطير المشكلات الاجتماعية بشكل مناسب لعصر المصلحين التكنوقراط، الذين يفترضون منذ البداية أنه لا توجد رؤية حقيقية للتحول الاجتماعي مطروحة للنقاش.
تسمح مناقشة اللامساواة للمرء بالتلاعب بالأرقام، والجدل حول المعاملات الجينية وحدود الاختلال الوظيفي، وإعادة تعديل أنظمة الضرائب أو آليات الرعاية الاجتماعية، حتى إن صدمة الجمهور بالأرقام التي تظهر مدى سوء الأمور (“هل يمكنك أن تتخيل أن 1% فقط من سكان العالم يمتلكون 44% من ثروة العالم!”)، ولكنه يسمح أيضًا للفرد بالقيام بكل هذا دون معالجة أي من العوامل التي يعترض عليها الناس بشأن مثل هذه الترتيبات الاجتماعية “غير المتكافئة”..  منها على سبيل المثال، أن يتمكنوا من تحويل ثرواتهم إلى سلطة على الآخرين؛ أو أن يقال للآخرين إن احتياجاتهم ليست مهمة، وأن حياتهم ليس لها قيمة جوهرية. ومن المفترض أن نعتقد أن الأخير هو مجرد تأثير حتمي للامساواة، وعليه فاللامساواة نتيجة حتمية للعيش في أي مجتمع حضري كبير ومعقد ومتطور تقنيًا. من المفترض أن يستمر ذلك، فالأمر يتعلق بدرجة تحقق الأمر.
اليوم، يوجد ازدهار حقيقي في التفكير بشأن اللامساواة: منذ عام 2011، ظهرت فكرة “اللامساواة العالمية” بانتظام كعنصر رئيسي للنقاش في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، وتوجد مؤشرات واضحة للامساواة، ومعاهد لدراستها، وكمية كبيرة من المنشورات التي تحاول إظهار الهوس الحالي بتوزيع الممتلكات في العصر الحجري.  بل إن الأمر وصل إلى ظهور محاولات لحساب مستويات الدخل والمعاملات الجينية لصيادي الماموث من العصر الحجري القديم (كلاهما كان منخفضًا للغاية). يبدو الأمر كما لو أننا نشعر بالحاجة إلى ابتكار صيغ رياضية تبرر التعبير الذي كان شائعًا بالفعل في أيام روسو، أنه في مثل هذه المجتمعات “كان الجميع متساوين، لأنهم جميعًا كانوا فقراء بالقدر نفسه”.

إن التأثير النهائي لكل هذه القصص حول الحالة الأصلية من البراءة والمساواة، مثل استخدام مصطلح “اللامساواة” نفسه، هو ما جعل التشاؤم الحزين بشأن الحالة الإنسانية يبدو وكأنه منطقي: النتيجة الطبيعية لرؤية أنفسنا عبر التاريخ الواسع. عبر عدسة.. نعم، قد يكون العيش في مجتمع قائم على المساواة حقًا ممكنًا إذا كنت قزمًا أو من جماعة البوشمن في صحراء كالاهاري.. ولكن إذا كنت ترغب في إنشاء مجتمع قائم على المساواة الحقيقية اليوم، فسيتعين عليك اكتشاف طريقة للعودة إلى الاصطفاف في مجموعات صغيرة من الباحثين عن الطعام مرة أخرى دون أي ممتلكات شخصية مهمة. نظرًا إلى أن الباحثين عن الطعام يحتاجون إلى منطقة شاسعة جدًا للبحث فيها، فهذا يعني الحاجة إلى تقليل عدد سكان العالم بنسبة تصل إلى 99.9%. وخلافًا ذلك، فإن أفضل ما يمكن أن نأمله هو ضبط حجم الحذاء الذي سوف يدوس على وجوهنا إلى الأبد، أو، ربما، قنص مساحة أكبر للمناورة، تمكن بعضنا أن يبتعد فيها مؤقتًا عن طريقه.

قد تكون الخطوة الأولى نحو صورة أكثر دقة وأكثر تفاؤلاً لتاريخ العالم هي التخلي عن جنة عدن مرة واحدة وإلى الأبد، والتخلص ببساطة من الفكرة القائلة بأنه لمئات الألوف من السنين، كان كل شخص على وجه الأرض يشترك في نفس الشكل المثالي من أشكال التنظيم الاجتماعي. ومن الغريب أن هذا غالبًا ما يُنظر إليه على أنه تحرك رجعي “إذن هل تقول إن المساواة الحقيقية لم تتحقق قط؟ هل هذا مستحيل؟”، وبصراحة يبدو لنا أن مثل هذه الاعتراضات تأتي بنتائج عكسية وغير واقعية.
مبدئيًّا ن الغريب أن نتخيل، على سبيل المثال، أنه خلال ما يقرب من 10000 عام (قد يقول البعض أكثر من ألفي عام)، حين رسم الناس على جدران التاميرا، لم يجرب أحد، ليس فقط في التاميرا، ولكن في أي مكان على وجه الأرض، أشكالاً بديلة للتنظيم الاجتماعي، فما هي فرصة ذلك؟ ثانيًا، أليست القدرة على تجربة أشكال مختلفة من التنظيم الاجتماعي بحد ذاتها جزءًا جوهريًّا مما يجعلنا بشرًا؟ أي كائنات لديها القدرة على خلق الذات، وحتى الحرية؟ إن السؤال المطلق لتاريخ البشرية، كما سنرى، ليس الوصول المتكافئ إلى الموارد المادية (الأرض، والسعرات الحرارية، ووسائل الإنتاج)، وعلى الرغم من أن هذه الأشياء مهمة للغاية، فالأهم هو قدرتنا المتساوية على الإسهام في القرارات المتعلقة بكيفية العيش معًا.
وكما يعتقد الكثيرون، فإذا كان مستقبل جنسنا البشري يعتمد الآن على قدرتنا على خلق شيء مختلف (على سبيل المثال، نظام لا يمكن فيه تحويل الثروة بحرية إلى قوة، أو حيث لا يتم إخبار بعض الناس بأن احتياجاتهم تافهة، أو أن الحياة ليس لها قيمة جوهرية)، فإن ما يهم حقًا في النهاية هو ما إذا كان بإمكاننا إعادة اكتشاف الحريات التي تجعلنا بشرًا في المقام الأول. فمنذ عام 1936، كتب مؤرخ ما قبل التاريخ جوردون تشايلد كتابًا بعنوان “الإنسان يصنع نفسه”، وبغض النظر عن اللغة الجنسية، فهذه هي الروح التي نرغب في استحضارها. نحن مشاريع لخلق الذات الجماعية، فماذا لو تعاملنا مع تاريخ البشرية بهذه الطريقة؟ ماذا لو تعاملنا مع الناس، منذ البداية، باعتبارهم مخلوقات مبدعة وذكية ومرحة تستحق أن تُفهم على هذا النحو؟ ماذا لو، بدلاً من سرد قصة عن كيفية سقوط جنسنا البشري من حالة مساواة شاعرية، سألنا أنفسنا كيف أصبحنا محاصرين بمثل هذه القيود المفاهيمية الضيقة حتى لم يعد بإمكاننا تخيل إمكانية إعادة اختراع أنفسنا؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشرت هذه المقالة في موقع Literary Hub بتاريخ 12 نوفمبر 2021..