“…فالبولفارات أوجدت للعشاق من أمثال الحبيبين في قصيدة “عيون الفقراء” مشهدا أوليا جديدا: فسحة يستطيعون أن يكونوا فيها وحدهم أمام الملأ؛ في جو حميمي دافئ وخاص بدون أن يكونوا وحدهم. باتوا لدى تحركهم على امتداد الشارع في قلب تدفق هائل لا نهائي. يستطيعون أن يحسوا بحبهم بقدر أكبر من التوتر والحيوية مما في أي وقت مضى بوصفه محطة ثابتة ومستقرة في عالم دائب على الدوران (..) وأن يستمدوا أشكالا مختلفة من المتعة من أولئك الغرباء كلهم؛ باتوا يستطيعون أن ينسجوا أقنعة خيالية حول زحمة المارة: من هم؟ من أين جاؤوا؟ إلى أين هم ذاهبون؟ ما الذي يريدونه؟ ما الذي يحبونه؟“
“كيف يتعين على العشاق أن ينظروا إلى الناس ذوي الأسمال البالية الذين يجدونهم فجأة تحت أنوفهم؟ عند هذه النقطة يفقد الحب الحديث براءته. فحضور الفقراء يلقي ظلا عنيدا لا يقوام على إشراق المدينة وبهائها. والخلفية التي أوحت، بطريقة سحرية، بالرومانسية تفرز الآن سحرا نقيضا وتسحب العشاق من مخادعهم الرومانسية لتقذف بهم في شباك أوسع وأقل رومانسية غنائية. في هذا الضوء الجديد تبدو فرحتهم الشخصية امتيازا طبقيا. إن البولفار يجبرهم على الرد ردا سياسيا.” – من كتاب “كل ما صلب يتحول إلى أثير” للكاتب مارشال بيرمان ص 252، 253
1
هل أخطأت تقديراتنا في طبيعة المدينة.. في كينونتنا المدينية؟ هل ولدنا في العالم أم ولدنا في مدن بدت لنا وكأنها العالم؟ من مفارقات التاريخ أن مدننا المحدّثة منذ ما يقارب المائتي عام، والتي كان الانهيار والتفسخ يأكل بنيتها، والتحولات الاجتماعية والسياسية تترك على نواصيها أكواما من النفايات، وأرواحا نافقة بدا وكأن نخبتها المباركية (نسبة إلى مبارك) وبرجوازيتها الجديدة في عهده قد استفاقت على نوستالجيا، حيث بدأ استخدام المصطلح اللزج “الزمن الجميل“. الجناح الثقافي للبرجوازية المباركية التي لا تاريخ ولا قاعدة لها، استعاد أيضا زمن الطيبين، وتوقف عن أبواب البنايات ذات الطابع الاستعماري، وأفاريز شرفاتها المشغولة بالجص، توقف عند الأقواس وتماثيل الملائكة والأعمدة ذات التيجان الزهرية، عند الستائر المخرمة الموشاة بالورود التي كان يطل من ورائها وجه عجوز فرنسية، أو مترمل يوناني. توقف عند الكتب المفتتحة بإهداءات رشيقة، الرسائل وصور الجميلات على الشاطئ الخالي. هكذا كانت تستعاد مدينة ما وكأنها أصل أو على الأقل نموذج مفترض للجمال والتعايش ودهشة الاختلاف. لقد أزيح تماما القدر الهائل من العنف المباشر وغير المباشر الذي صيغت على أطلاله هذه المدن، أو على الأقل ترك للدراسة في باب مختلف من التاريخ يستخدم في وقت الحاجة فقط. ولم ينظر بكفاءة أعلى للجدل التحديثي المروع والآسر في الوقت ذاته.
ربما كان المشهد الأكثر إثارة للحزن، هو مشهد الشباب في صباحات يناير 2011 وهم يكنسون الشوارع، وكأنهم يتشبثون ولو لمرة واحدة وأخيرة بمدينة هي “مدينتهم“. ولم يكن الأمر كذلك بالطبع. كان التشبث بالمكان المديني قد فات أوانه. وحين أُغلقت مصالح ومبان رسمية بالجنازير من قبل مواطنين، كان لهذا الفعل دلالة مزدوجة، فصحيح أنه بدا، ظاهريا، توبيخا وتعطيلا للمؤسسة الرسمية، لكنه فعليا كان يعبر عن مهابة وتجنب لسوء الطالع، وعن خوف من بيوت الأشباح البيرقراطيين الذين استعمروا بمكاتبهم القميئة ما كان في العهد الاستعماري قصورا وفيلات ترفل فيها أردية السهرة وتسمع من وراء نوافذها أصداء العزف على البيانو. المدينة أو “الحالة” الميدنية كانت في الشارع، لكن الشارع الذي يمر عبر هياكل معمارية ضخمة تسكنها اللعنات، وكأنها تقبع في بيات شتوي مؤقت.
الأدبيات الشائعة في الأوساط الثقافية عن المدينة كانت ذات طبيعة أدبية بالأساس، وهذا يفسر كليتها ولا إشكاليتها. والفارق مثلا بيت كتابات روائي مثل علاء الديب عن المدينة خاصة في “قمر على المستنقع“، أو شعراء مثل عبدالصبور وحجازي، وبين ما يكتب منذ مطلع الألفية يتوازن على المحور ذاته؛ مدينة كلية الحضور، إما في هيئتها القاسية العدمية، وإما في اعتبارها منظرا جماليا ولوحة للإنسان الفرد. هنا أو هنا كانت “المدينة” فرضية مسبقة، غير معينة تاريخيا بجدية على الإطلاق، مرة كشاهد على “سلطة الحداثة“، ومرة على “جمالية الحداثة“، كأنما المدينة صنعت من أجل هذا، أو من أجل ذاك، كأنها قبضة قدرية، صدفة مدهشة كرمية نرد.
2
مثلما فعل فالتر بنيامين، توقف المفكر الأميركي مارشال بيرمان، في كتابه الآسر “كل ما هو صلب يتحول إلى أثير“، عند نصوص بودلير، وبالأحرى مخصصا فصلا من كتابه لحداثة باريس من خلال نصين لبودلير. يتوقف بيرمان أمام الطرق الفسيحة التي أراد المهندس جورج هاوسمان أن يبلغ عرضها 120 مترا، شاقة أحياء الفقراء وأبناء الطبقة العاملة، أو كما قال نظيره وتلميذه مهندس تحديث نيويورك روبرت موزيس، أواسط القرن العشرين “هوى عليها كساطور“.
انفتحت المدينة، ما عادت الأحياء مغلقة على نفسها، صارت الحاضرة مكشوفة لقاطنيها من أقصاها إلى أقصاها. لكن هذا نفسه ما سمح لفقرائها ومهمشيها أن يوجدوا في قلبها بالذات، وهو على الأقل ما واجهه عاشقا بودلير في قصيدته. نظرات هذه المجموعة من اصحاب الأسمال اخترقت الوجود الهش للحبيبين طارحة عليهما سؤالا أخلاقيا ترتب عليه موقف وصفه بيرمان بـ“السياسي” عن حق.
إن ما يهمني هنا هو إعادة تشكيل الفضاء الحضري الذي عُد إلى وقت قريب الفضاء الوحيد الذي يتواصل الناس عبره ويخدم مصالح العبور السريع للرأسمال ويشكل أيضا مكانا رقابيا يعوق تمترس الجماعات، وتتشكل فيه ملاح جديدة للفرد المخترق دائما بهذا الفضاء وعابريه، أوالمتسكع بعين مستطلعة لا تعبير فيها. مكان العبور والتلاقي والغضب، ولكن أيضا البهجة الطفولية العذبة أمام الأضواء ومهرجانات الألوان، ثنيات التنانير وعقصات الشعر والحركة الدائبة والصاخبة وغير المسموعة في الوقت نفسه، فوق أرصفة عريضة للمشاة تصطف على ضفتيها الأشجار.
بقدر ما تنفتح المدينة الحديثة بقدر ما تشكل سؤالا جماليا وسياسيا في الوقت نفسه في كليتها.
في الصفحة الأولى من رواية روبرت موزيل “الرجل الذي لا خصال له” تمهيد سردي “تقني“، افتتاحية باردة تحدد طقس اليوم الذي يبدأ فيه السرد في هذه اللحظة بطريقة أشبه بالنشرات الجوية الرسمية.
الزاوية التي يتحرك بها موزيل تجاه المدينة تأتي من خارجها، بل من خارج العالم، لكنها تتقاطع مع اللغة السردية “العلمية” التي ابتكرتها المدينة نفسها. وهذه مفارقة. فوصف الطقس بشكل “محايد“، أي كما لو كان من خارج العالم، إنما يتم وفقا لاعتباارات مدينية، بل بصيغة ابتكرتها المدينة البرجوازية نفسها.
هكذا تتبادل المدينة، مع رؤية افتراضية من خارجها، وضعا كليا إذا صح التعبير “لذلك لا ينبغي لنا أن نولي اعتبارا خاصا لاسم المدينة. فهي مثل كل المدن الكبرى مؤلفة من اللانظام والتغير والتقدم والتناوب، من تصادم الأشياء والأحوال، من نقاط الصمت التي لا قعر لها، الواقعة فيما بينها، تلك المصنوعة من طرق سالكة وأخرى غير سالكة، من ضربة إيقاعية كبرى واضطراب وانحراف أبديين لكل الإيقاعات ضد بعضها الآخر، وهي تشبه بذلك فقاعة مغلية تستقر في إناء مصنوع من مادة دائمة قوامها المباني والقوانين والتعاليم والتقاليد التاريخية…” كما يقول راوي موزيل.
يختلف هذا المشهد المديني عن رؤية بودلير، أو رؤيته كما يتمثلها بيرمان؛ فلا هي رومانسية رعوية، ولا هي كاشفة عن التناقض السياسي البسيط الذي يجد الفرد فيه نفسه. رؤية موزيل نقدية متهكمة ومؤذية. أبطاله البرجوازيون (نحن في أوائل القرن الـ20) كما لو انقشع عنهم الوهم، ومع هذا فهم غارقون بوهم أعمق يتمثل في واقعيتهم الرزينة. يمكننا المقارنة توا بين مشهد الحبيبين لدى بودلير (والذي انتهى بالفراق بينهما نتيجة تافف المرأة من مشهد الفقراء المستطلعين) وبين زوجي موزيل البرجوازيين اللذين مرا بحادث طريق. ثمة مصاب محوط بدائرة من الفضوليين “شعرت السيدة بشيء غير مريح في الحفرة الواقعة بين القلب والمعدة، جعلها تشعر بالشفقة، رغم انه كان شعورا مترددا ومشلا. قال السيد بعد برهة مخاطبا إياها:”هذه العربات الثقيلة تحتاج إلى مسافة فرامل طويلة حتى تتوقف تماما“. شعرت السيدة بارتياح لذلك، فشكرته بنظرة ثناء. كانت قد سمعت حقا بهذه الكلمة مرات عدة، من دون أن تعرف ماذا تعني مسافة الفرامل، وما كان لها أن تعرف؛ فقد كان يكفيها أن يضع توضيحه للحادث الفظيع ضمن إطار ما، مشكلة تقنية لا تعنيها مباشرة.”.
3
يطرح ديفيد هارفي في كتابه “مدن متمردة“، على وقع حركات التمرد المعاصرة، السؤال عن المدينة؟ مدينة من؟ ومن له الحق بها؟ من هنا يشرح علاقة المدينة الحديثة بدءا من اللحظة نفسها التي ينطلق منها بنيامين أو مارشال بيرمان. لا يتوقف ديفيد هارفي عند المتسكع أو العاشق البودليري، عند الدهشة الرعوية بالأضواء ومصابيح الغاز، ولا بظل الكآبة حين يتقشر الشارع عن العيون المستطلعة لذوي الأسمال، والمهمشين. بل عن الطريقة التي تم بها استيعاب فائض رأس المال في مشروع ضخم، في طريقة تشبه الطريقة الكينزية. مشاريع ضخمة للبنية التحتية، فرص عمل متوسطة الأجل تستوعب المهمشين الخطرين، أسواق ومناطق استهلاكية تبتلع فائض الإنتاج..
لا يمكن إغفال أن الآلة نفسها التي صاغت المدن الحديثة بإعادة الهدم والبناء كانت في واقع الأمر تعيد فرز المجتمع لصالح أغنيائه، ومثلما يذكر إنجلز فإن المدينة الحديثة بدت كما لو كانت مجبرة على تدمير ذاتها والقيام من الرماد لتجاوز تناقضاتها ولكنها كانت في الواقع تطرد التناقض لمسافة أبعد، في أحياء عشوائية ومناطق خربة وموبوءة محرومة من الخدمات الأساسية.
لكن مسألة “المدينة” كإشكال أبعد بكثير من الجدل السطحي أغنياء/ فقراء، سلطة/ مدنيون، إنها كما تقع في قلب الطلب الحداثي الجذري على فكرة التجاوز، كما على تخطي “المدينة” ذاتها وحرقها. إن الأفلام تعبر عن ذلك بصورة أعمق من جهة وأكثر فجاجة من جهة: مستقبل المدينة إما أنه أداتي صرف (استعمار روبتوتات)، وإما الخراب.
إذن، سؤال “مدينة من؟” لا يختلف جوهريا عن سؤال “مدينة ماذا؟“، إنهما سؤالان يبحثان عن جذر وأصل، أو عن حلم كما لو أن المدينة ليست موجودة فعلا. وهذا يعني أن السؤالين الجمالي والسياسي مزيفان أصلا ولا واقعيان. وتلك معضلة الحداثة التي لم تنته بعد، وبالطبع مأساة كل المدن التي دخلت في نطاقها خارج العالم الأوروبي، بل حتى في نطاقه الأقل حداثة، لتفقد براءتها وتتحول إلى مدينة تسأل نفسها أمام مرآة: مدينةمن؟أومدينةماذا؟
باختصار: إن سؤال الحداثة (رغم كل التغيرات الجذرية التي أحدثها في المدينة) كان سؤالا تجريديا مجرما، سؤال يجعل المدينة الفعلية المكانية الواقعية عتبةً فحسب؛ عتبة تنزع إلى التجريد العنيف الذي ينعكس في أشكال الطرق السريعة والبنيات السامقة، اختزال وبساطة وسعي إلى اللا مرئي. وأخيرا هل مواقع الفضاء الألكتروني والتواصل إلا مرحلة من مراحل تفريغ الفضاء المديني وتتويجه بمدن من سحاب؟ هذه المدن الجديدة ليست مدن ثورات ولن تكون أبدا مالم يتأسس “هناك” معنى مختلف تماما للحرية في كيان لا مكاني، وما إذا كانت “اللامكانية” حقيقة أو وهما؟.
إن المتحكمون الجدد في مقدراتنا يبدون وكأنهم ضيقو الصدر بالشرط المديني، بتواجد الجماعة الحضرية كما لو كانت عبئا على طريق خلاص معطّل. هكذا ستجد إما تحديثا قسريا يعِد بمزيد من العزل، أو اكتساح وتدمير غير مسبوق، خراب ونفايات.
ارتبطت الحداثة بفكرتين كانتا تبدوان دائما على طرفي نقيض: الدولة والفرد، أما الجماعة البشرية فبدت أكثر الأشياء إقلاقا. لكن في الواقع إن كلا المفهومين: دولة وفرد، كانا تجريديين، أو ولدا من أجل التجريد والعزل؛ الفرد كعينة تجريبية يمكن عزلها كما في العلم الطبيعي، والدولة كمشروع هندسي رياضي لانهاء كل تردد، وعقلنة كل النزاعات. مشروع الدولة والفرد إذن كلاهما وإن احتل “مكانا” فقد كان متعاليا على المكان ومفارقا. هكذا كان كلاهما يحاول منذ البدء كسر إحداثياته: الفرد بزعم التجاوز، والسياسة بزعم خلق عالم منسجم. يتساءل الواحد، لماذا لم تقم الحداثة في المدن التي شهدت إزدهار النهضة في حوض المتوسط مثلا؟ أليس لأنها كانت أكثر تعقيدا ومقاومة من المشروع التجريدي، وأكثر حفاوة بالحياة كما هي لا بما ينبغي أن تكونه؟
المدينة كانت عقبة كأداء. تلك المدينة التي تشبه الصدفة التاريخية والتجميع المتراكم والمتداخل للخبرات. صيغت الدولة ضد المدينة لا لأجلها، استعملتها ولفظتها.
الآن يتصور متمردو اليوم أنهم يواجهون سلطات مدنية.. صحيح، هذا ما يزال موجودا نسبيا، لكن الواقع أنهم يواجهون سلطات تجاوزت مشروع المدينة أصلا، دولة بلا مدينة، وبلا جغرافيا حضرية. أو على الأقل بجغرافيا بدوية مثل بقع منتثرة محصنة في صحراء.
4
ماذا يمكن ان يقال عن مجال “التواصل” عبر الفضاء الرقمي؟ كيف يمكن استيعاب الخصائص والسمات التي بها يطابق “موقع التواصل” الفضاء المديني ويفارقه أيضا، فهو بالتأكيد إبداع التكنولوجيا المدينية، لكن بأي معنى؟ فضاء “لا جغرافي” يخترق الواقع الحضري عبر أثير لا مرئي، يتقاطع معه ويوازيه أيضا، يشكّل ضميره، في اللحظة التي يبدو فيها وكأنه انعكاس لهذا الضمير نفسه. لكن هذا الفضاء: مساحاته، مناطق العبور فيه، منافذ التلصص والتوقف والاستراحة والتعبير واللقاء أيضا، وحتى أشكال التجمع والمناشدة والتمترس، تشكل جميعا فضاء يذكرنا حتما بالفضاء المديني الحديث، أو على الأقل أعاد إلى الأذهان نوستالجيا عن الساحات المدينية، حيث يعود البطء والتسكع لكن وفق حدود مختلفة تماما، وبالملابسات المرعبة لإعادة تصميمها الأثيري كانت البهجة المؤتلقة والأنس المشاعي المجرد.
يختتم بودلير قصيدته “إلى عابرة” بسطور مخربة، عن الوعد والاستحالة في اللقاء المديني.
“في مكان بعيد بعيد، أو في وقت جد متأخر، وربما إلى الأبد
لا أنا أعرف أين تذهبين ولا أنت تعرفين أين أعيش
كان يمكن أن نكون عاشقين، هذا ما تعلمينه“.
إن الالتفاتة العابرة و“النظرة الأخيرة” ممكنة الآن أيضا، بالخفة الطافية نفسها، وإمكان الاستيهام والحلم، بوعود أكثر، واستحالة أشد، وقد انتقلت من الشارع إلى جهاز خاص.
غياب ولا مكان
تعرفُ المدينة الحديثة الفردَ، وتُعرَّف به؛ الفرد الذي افتتحت الروايات بحركته العنيفة أو اللامبالية ومازالت تفعل. فأي معنى للفردية صاغته امدينة؟
يعقد فالتر بنيامين في بعض شذراته مقارنة بين نابولي وبرلين. يلاحظ بنيامين، فيما يشبه الافتتان بنابولي الفوضوية، أن الفقر فيها “يؤدي إلى اتساع نطاق الحدود التي تعكس أكثر ضروب حرية الفكر تألقا وإشراقا.. (حيث) يكون أكثر الفقراء بؤسا سيدا في وعي باهت ومزدوج لمشاركته، على الرغم من كل ما يعانيه من عوز، في واحدة من صور حياة الشارع في نابولي التي لن تعود أبدا، وباستمتاعه، بكل فقره، بمتابعة البانوراما العظيمة“.
إن هذه النظرة الغنية والمتوترة المزدوجة للذات، ولموقعها من البانوراما المدينية كانت قنطرة إلى زمن آخر سرعان ما حطمها وراءه. فالهدف المضمر للفيلسوف والسياسي، أو الفيلسوف “السياسي“، كان مدينة بلا تناقضات. لحظات التحول الكبرى المحفوفة باستعارات التقدم اخترقت المدن في البداية مثل صفوف من عناقيد النور، التي يلمح بنيامين ببهجة جمال انعكاساتها على صفحة الشارع المبتل، قبل أن تصبح الإضاءة عالية محايدة شاملة لا تطاق.
تفتتح مواقع التواصل عهد “الشخص” لا الفرد. إن كلمة “فرد” تستدعي ما أسماه بنيامين بالنظرة المزدوجة. إنه يلتقي وجوها حقيقية ويصافح أيادي من لحم، ويجد نفسه من ثم مسوقا إلى قول شيء ما، وإلى وضع نفسه موضع الآخر.
بقدر ما يتيح الغياب واللامكانية، في المجال الأثيري، قدرا أعلى من حرية التحرك والتعبير وظهور “صورة الشخصية” فإنهما في الوقت ذاته لا يقدمان الكيان نفسه: الجسد، ومقابل ذلك فهما أيضا لا يقدمان لك إمكان الحيازة والملكية التي لايمكن إلا أن تقع خارجه أي في الواقع المكاني التاريخي؛ أن تربت على كتف صديق، أن تمسك بمعصمه أثناء حوار، بل أن تراه في حيز المناورة والمجاملة هو نوع من ضمانة نسبية، لا أعتقد أنها سوف تبقى طويلا.
يبدو الحوار على مواقع التواصل، من ثم مدهشا ومخيفا. ويمكن للشخص الذي توفر على إعجابات أن يشعر في اللحظة نفسها بالوحشة، وبأنه خاو تماما. يخلق التواصل “اللامكاني” اعتمادية غير مسبوقة في تلاصق صور أجساد تعرفها ولا تعرفها، تتملص منك وتعاندك بإعادة الظهور.
في الواقع المكاني تقترن معرفتنا بالأشخاص ببيئاتهم، منازلهم، طبيعة الأدوات التي يستخدمونها، وبتاريخ ذلك كله: إن هذه “الملكيات” الخاصة الملحقة بالأشخاص، والتي كانت روايات القرن 19 تغرق في تفاصيلها، تضعنا أيضا على مسافة منهم؛ إنهم هناك .. ولكن من هم فعلا؟، حيث يمثل الآخرون أنفسهم ومواقعهم الاجتماعية المفترضة في الوقت ذاته. هذه المسافة خلقت في المدينة أيضا فكرة التهذيب العمومي، إنها تشبه المسافة الآمنة بين الملكيات الخاصة. فغرابة مكلياتك وحيازاتك عني تدفعني حتى للشك ما إذا كنا نمتلك أيضا اللغة نفسها. يبدأ التعارف في الشارع أو في الأماكن العامة ودودا ومتحفظا ومصطنعا على أي حال. الكلمات تجس باليد قبل أن تقال، هذا رغم الضمانة المتوفرة في وجود المخاطب نفسه، وفي إمكان اجتياز عتبة سوء الفهم إن كان ثمة رغبة في ذلك. إذا عدت إلى بيتك بعد نهاية محادثة فإنك ستكون قد اصطحبت معك جزءا من اللحم أيضا. الشكل التقليدي الذي كانت تقدمه الأعمال المسرحية خصوصا في سرديات التعارف كان يبدأ بالحديث عن موضوع عام، يتم اختبار الشخصية من خلاله. إن الحميمية لا تتشكل إلا في ضوء الوسيط الاجتماعي، ومثلما كان حال عاشقي بودلير يكون الاختيار أخلاقيا ومسيسا.
لا خبرة بدون حيازة ولو مؤقتة.
كيف يظهر المكان على “صفحتي” إذن؟ بخلاف الصورة الفوتوغرافية التي كانت تلتقط المشهد العابر وتلقي به في الأبدية، فإن المكان “الأثيري” معروض للتصفح السريع، مجرد خلفية لدعم الشخصية التي سرعان ما تتراجع أو تذوب، ويُنسى معها مكانها. ينخلع المكان من فيزيقيته، ويُذَرّ في ضوء سريع متقلب، مثل طقس عكر المزاج. لا مكان لي، بل للعرض المباشر، أختار بعناية اللقطة، أقتطع من المحيط فكرة. لا بيت أعود إليه وأسأل عن ظلي فيه.
كلمة تمحو التاريخ
في موقع التواصل تصبح اللغة، واللغة المكتوبة بالذات، هي الوسيط الأساسي وهي موضع ظهورالشخصية. هكذا يخيل إلينا أننا نعرف الجميع، ما داموا يتكلمون، ويمكننا التداخل معهم مباشرة كما لو عاصروا حياتنا كلها. يُخترق التهذيب والتحفظ المديني “المكاني” دون أية ضمانة، بل بنذالة القدرة على الإخفاء أو الاختفاء، أو دعوى الصراحة، التي تكشف هنا، من خلال مصيرها، عن محتواها البائس ، أو بالأدق تكشف سخف الادعاء الذي كمن وراء “فلسفة” صراحة للأبطال المدنيين المعادين للتهذيب البرجوازي والذي تمثل رواية “تلك الرائحة” لصنع الله إبراهيم شكله الفضائحي.
فالصراحة هنا تناقض التفاوض والشك، لكن هذا بالتحديد ما يلزم صورة بلا أصل أو مرجع، نافذة بلا حجرة في الداخل.
حين يكتب احدنا للآخر : “الصراحة إن…” فهذا لا يعني أنه سيقول الحقيقة، بل يعني أن “الحقيقة” صارت هي الصراحة.. الحقيقة موقف، لقطة، جزء من مشهد لا لزوم له، إثبات حضور هو نفسه مشكوك فيه.
لكن “انا اقول الصراحة” قد تعني أيضا غضبا ما، وتلويحا بتهديد. انا صريح معك، أي على استعداد لقطع علاقتي بك لكي أسرد قصة على مزاجي وليس ابدا لأقول “الحقيقة”. الصراحة هنا ليست مكاشفة خاصة نيابة عن نفسي، إنها تبسط مسافة من حجارة خشنة. أنا ضريح معك، أي غير مسؤول عنك. صراحتي مسرحية ومشهودة وموجهة أساسا لصناعة بطولة من غبار ضوئي.
تعد الصراحة جزءا من بناء قصة الذات على مواقع التواصل، فمجالها ليس تفاوضيا، بل هو إجهاز على المكاشفة (كضرورة سياسية)، وجعل السياسة مجرد مسافة محرمة بين الذوات؛ مساحة فارغة وموحشة هي من بالتحديد ما تقوم السلطة الفعلية بالاستحواذ عليه.
..
يتخلخل الزمن المديني مثل قاعدة بناء، بعد اقتلاع المكان. يكتب مارك أوجيه في “اللاأمكنة”: لا يترك هذا الفضاء متسعا للتاريخ، الذي يتحول إلى عنصر في مشهدية، أي أنه يتحول في أغلب الأحيان إلى نصوص تلميحية، وتغلب عليه الراهنية ومتطلبات الحاضر”. وإذا كان ما يصنع التاريخ هو الأحداث، فإن الأحداث على مواقع التواصل تظل على غفليتها، كمجرد فرصة لإعادة ظهور الصور. لا يكتسب الحدث تفردا، بل يكون مرهونا بالإعادة والتكرار كمناسبة. هكذا يشعر الواحد بغرابة شديدة حين يعود إلى فقرة كتبها منذ عام، أكثر من الغرابة التي يشعربها تجاه ذكرى خاصة منذ عقدين، في علاقة مقلوبة بالزمن والتذكر. تحتفظ صفحاتنا هنا بذاكرة طبعا، لكن بقدر ما كانت ذاكرة مشاعية بقدر ما نشعر تجاهها بالغربة.
يساعد فضاء التواصل على الارتداد إلى تصور دوري واستعادي عن التاريخ، خلال اصطفافات مؤقتة، وحشد يعاد تكوينه وفضه بالصورة نفسها، وهذا ما يزعجنا؛ شيخوخة الوجوه التي لا تشيخ، بينما يتآكل الواقع تحت أقدامنا فعلا.
…
ليس الهدف من هذه السردية مطلقا نظم قصيدة هجاء، بل على العكس إظهار ما كان مضمرا في مدينة الحداثة نفسها، أي الوازع التجريدي وتصفية المكان، بحمى “التجاوز” الفاوستي حينا، وبسلطة الدولة المجردة حينا آخر وكأنهما طرفا أرجوحة على محور عدمي. هل ثمة مكان آخر خارج جدلية الحداثة التي تناولها مارشال بيرمان بابتهاج قد يبدو الآن ساذجا؟ ليس مطلوبا بكل تأكيد أيضا استعادة مدينة الحداثة التي بدت هي نفسها معبرا وجسرا، “نظرة أخيرة” كما في قصيدة بودلير، بل إعادة بناء العلاقة الإنسانية بشروط أكثر عدالة.
كيف نتمكن وفق “اللامكان” من بناء تفاهمات وسياسات؟ أم علينا أن نعيد صياغة مفاهيم أخرى عن المكان والزمان والجسد والحضور والحيازة؟