يطرق البحر نافذتي
في الصباح المفاجئ
لم أكن، بعدُ، قتيلاً
كنت أشرب ما تبقى
أرصد الأشياء
أعطيها ملامحها الأخيرة
حين دقَّ البحر نافذتي
وغادرني قتيلاً
أحيانًا، لا ينهي الموت كل شيء؛ وهو ما سيحدث مع الشاعر رفعت سلَّام (1951-2020)، الذي غيَّبه الموت اليوم.. رفعت سلَّام المنتمي جيليًّا إلى شعراء السبعينيات، الراقص بين التفعيلة والنثر، الذي كان أحد أربعة شعراء مؤسسين لجماعة إضاءة 77 مع (حسن طلب وحلمي سالم وجمال القصاص)..
وهو الشاعر الذي أخلص حقًّا للشعر؛ فلم يكتب سوى الشعر، وبوتيرة متقاربة صدرت دواوينه الشعرية؛ بمراجعات جمالية بين الحين والآخر؛ إذ صدر ديوانه الأول “وردة الفوضى الجميلة” 1987، ثم “إشراقات رفعت سلَّام” 1992، ثم “إنها تومئ لي” 1993، ثم “هكذا قلتُ للهاوية” 1995، ثم “إلى النهار الماضي” 1998، ثم “كأنها نهاية الأرض” 1999. ليتوقف سلَّام قليلاً عن الشعر ويعود بديوان “حجر يطفو على الماء” 2008، ثم “هكذا تكلم الكركدن”2014، وصولاً إلى الديوان الأخير ذي العنوان المسجوع “أرعى الشياه على المياه” 2018..
على خاصرة الأرض أمضي.. جميلاً
كفاي: فارغتان
قلبي: شاسع للطعنة المفاجئة
فكل شيء يشبه الشبق المراوغ: لي
ولي: شجرٌ أعلمه الكتابة والغناء
ثم أمضي عنه
على خاصرة الأرض
قتيلاً
باستثناء كتاب “الإبداع القصصي عند يوسف إدريس” لكوبرشويك، 1987، لم يترجم رفعت سلَّام سوى الشعر.. إذ انكبَّ لعقود على مشروعه المهم والجوهري في نقل تجارب روَّاد الحداثة الشعرية في العالم من لغاتهم إلى العربية.. ولأنه شاعر، كانت ترجمة الشعر عنده -التي تتطلَّب من الشاعر إنكارًا كبيرًا للذات، وهي مهمة صعبة- دائمًا بحثًا عن آفاق الشعر المتعددة اللانهائية.. وكانت ترجماته بالفعل هدايا قيمة للمكتبة العربية الفقيرة المحدودة؛ بدءًا بمختارات بوشكين “الغجر.. وقصائد أخرى” التي صدرت في 1982، وديوان ماياكوفسكي “غيمة في بنطلون” 1985، مرورًا بمختارات ليرمونتوف “الشيطان.. وقصائد أخرى” 1991، ومختارات من يانيس ريتسوس “اللذة الأولى” 1992، ثم “البعيد” 1997. صدَّق سلام أن الشعراء الحقيقيين يجمعهم رابط ما، خفي ورهيف، وأعتقد أنه أحب بودلير كثيرًا، وهو الشاعر التائه في المدينة الحضرية الكبرى، فثار ثورته اللغوية، وكأن هذا سلاحه الوحيد، والأمر نفسه مع قسطنطين كفافيس؛ اليوناني الذي يعيش في مدينة ليست مدينته، ولكنها مدينته التي يلوذ بها، مختبئًا من التاريخ.. في 2009 صدرت الأعمال الكاملة لشارل بودلير بترجمته عن دار الشروق. وفي 2011 صدرت الأعمال الكاملة لكفافيس عن هيئة قصور الثقافة، وفي مقدمتها أشار “إن هذه هي الترجمة العربية الأولى الكاملة لأشعار كفافيس على نحوٍ شبه مطلق، ولم أضف كلمة “شبه” إلا من باب الاحتراز الموضوعي النظري، لا غير، بل لعلنا لن نعثر على ترجمةٍ واحدة لأعمال كفافيس الشعرية ـ على مستوى لغات العالم ـ تضم ما ضمته ترجمتنا هذه من شمولية لكل ما يعرفه اليونانيون وغير اليونانيين من أعماله الشعرية”. وفي 2012، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب صدرت ترجمته للأعمال الكاملة لأرتور رامبو، بمقدمة وافية لسيرة رامبو الشخصية، ثم قصائده، وحوى الكتاب كذلك ترجمة لما كتبه فيرلين صديق رامبو المقرب عن تجربته الشعرية. لينهي حياته مترجمًا لشاعر جمعه ببقية الشعراء الذين ترجمهم أنه منحاز للإنسان العادي “العابر في طرقات العالم”، وذلك بالترجمة الكاملة للمرة الأولى لكتاب “أوراق العشب”؛ وهو الأعمال الكاملة للشاعر الأمريكي والت ويتمان؛ الذي أصدر الطبعة الأولى من كتابه “أوراق العشب” 1855، وظل يحدثها ويضيف إليها قصائده بامتداد عمره..
عاريًا
أصوغ ذاكرة جديدة
أدسُّ فيها من سيقتلون في الصباح
وما تيسَّر من نساء حامضات
ما سيسقط في يدي من شائعات
وكوب شاي بارد
وأقلام رصاص وسجائر
وصراخ طيور البحر
وسفنًا غرقى
وسبايا
وخنجرًا للحظة الصفر البعيدة
عاريًا
أصوغ لي جهنم جديدة
للمرة الأولى قدَّم رفعت سلَّام كل هؤلاء الشعراء لقارئي العربية، لكنها لن تكون المرة الأخيرة؛ فقد كانت رحلته ثرية ورائعة مثلما في كل مرة نقرأ قصيدة كفافيس “الطريق إلى إيثاكا”:
لكن لا تتعجل الرحلة أبدًا
فالأفضل أن تستمر لأعوام طويلة
حتي لو كان للشيخوخة أن تدركك، وأنت تصل إلي الجزيرة
غنيا بكل ما جنيته في الطريق
دون انتظار أن تمنحك إيثاكا الغني
لقد منحتك إيثاكا الرحلة الرائعة.