ثلاثة أيام بعد الانفجار، بدأت أسراب مصاصي الدماء تحوم فوق المدينة المنكوبة، باحثة عن «فرصتها» بين الأشلاء والجثث. أعطى العهد شعبه ثلاثة أيام راحة لكي يدفنوا موتاهم ويبحثوا عن مفقوديهم ويرمموا بيوتهم، قبل أن يخرج عليهم شاهرًا روايته الرسمية.
بدأ الهجوم صباحًا مع دردشة مع الإعلام، وانتهى مساءً مع إطلالة تلفزيونية للمتكلمين الرسميين عن عهد النسور. ومفاد روايتهم أن «الحادثة»، كما سماها نصر الله، هي «فرصة». فلم يستشهد المئات من جراء جريمة موصوفة، ولكنهم كانوا الوقود لفرصة تاريخية ستُخرجنا من مأزقنا. ليس من فاجعة عند مصاصي الدماء، فقط فرص يمكن استغلالها بلا أي خجل.
بدأ النسور المفلسون يشمون رائحة الربح من المساعدات الآتية، فانكبوا على الأطباء والصناديق باحثين عن بعض المال. فالحادثة فرصة، وهي فرصة لفك حصار وهمي لم يكن موجودًا إلا في خفايا عقولهم. فنوه نصر الله بالموقف الدولي الداعم، وصرَّح عون أن الحادث فك الحصار عن لبنان، وستبدأ عملية إعادة الإعمار بأسرع وقت. فرح ممثلو النسور لتلك المساعدات القادمة، لهذه «الحادثة» التي حولت دم الناس الذي لم يجف بعد إلى «فريش دولار» يمكن أن تروي قنوات الفساد وحسابات المصارف. وجاءت التصاريح بعد يوم من عرقلة مساعدات أجنبية من قبل جهات رسمية، لم يعجبها أن هيبتها انكسرت في ظل هذا الدمار.
هيبة الدولة لن تنكسر، وهذا هو هدف التحقيق الذي قبِل به مصاصو الدماء. فالحقيقة مهمة، ولكن الأهم أن يكون هذا التحقيق جزءًا من مشروع إعادة هيبة الدولة، وأن يؤكد لأصحاب الدويلة أن هناك دولة، أو على الأقل إمكانية دولة. لا يخاف الرئيس والمرشد من تسييس هذا التحقيق، ولكن من تدويله. فأكد عون أن لجنة التحقيق ستكون محلية، وعرض نصر الله اقتراحات في هذا السياق، من تسليمها إلى الجيش أو توكيلها لتشكيلة من الأجهزة. من غير المهم ما جرى، فالجميع يعرف ما جرى. المطلوب أن تكون هيبة الدولة اللبنانية مصانة، حتى ولو على ركام عاصمتها.
لكن مصاصي الدماء خائفون. هم خائفون من أيْ اعتراض داخلي، قد يحمل عهدهم مسؤولية ما جرى. فكالعادة، تحدث نصر الله لساعة، ولكن هدف إطلالته الوحيد كان السياسة الداخلية وانزعاجه المعتاد مما سماه «حرية التعبير». وكان قد سبقه تيار رئيس الجمهورية بالهجوم على حرية التعبير هذه، وهدد بـأن حفلة الظلم وقلة الأخلاق وقلة الضمير بعناوين براقة كحرية التعبير لم تعد مقبولة. فالحادثة هي فرصة أيضًا لإسكات تلك الأصوات، خاصةً أننا بتنا نعيش تحت حالة طوارئ عسكرية، شرعنت عملية الإسكات هذه.
لا ندري من خطط وسهَّل ونفذ جريمة الانفجار. لكننا أصبحنا نعرف مَن يحاول أن يستفيد من هذه «الحادثة» ويستغلها سياسيًّا واقتصاديًّا. وعنوان هذا الاستغلال هو ثلاثية طمس الحقيقة وقمع الحريات واستغلال المساعدات. مصاصو الدماء لا يتعبون، رائحة الدم تمدهم بالأكسيجين.
لكن هذه المرة، لن نقع بالفخ، فخ لجان التحقيق المحلية والدولية. هذه المرة، ندرك الحقيقة، حقيقتكم. وسنخوض المعركة بدءًا من كل صندوقة مساعدات تدخل عاصمتنا.
*ينشر الإتفاق مع الموقع الصديق ميغافون
**صورة الغلاف :وسام متى – بيروت