الحلقة الثالثة: مثقفون وشرطة وعدوية

 1-يك

    في حفل شفاء عدوية  كان الضيوف مزيجاً من  نجوم الفن والغناء وعالم المال الصاعدين من زمن الانفتاح والسداح مداح، والقادمون بأموال الخليج، بل كان هناك أيضاً الأساتذة “السوحفيين“. الحفل الذي حفظ لنا اليوتيوب مقاطع كثيره منه على الإنترنت كي يظل وثيقة على “الفخفخينا” وحياة الليل والنجوم في ذلك الزمن لم ينل إعجاب مثقفين وصحفيي ذلك الزمن. كان إسماعيل منتصر من مجلة أكتوبر أحد المدعوين إلى الحفل، وفي عدد مجلة أكتوبر “24-12-1989” نشر شهادته عن الحفل. بدأ منتصر مقاله مؤكدًا أنه لم يسمع عدوية قط إلا في أثناء عبوره أمام محلات العصير، أو داخل عربات الأجرة، لا يعلق على صوت أحمد لكنه يصف أجهزة التسجيل التي تلعب موسيقى أحمد بأنها كانت دائمًا أجهزة رديئة.

من الأجزاء التي تعجبني في مقال إسماعيل إشارته إلى أنه دخل القاعة قبل ذلك، لكن القاعة تلوثت وفقدت بهائها لأنها كانت تستضيف حفل شفاء عدوية، بالرغم من إن عدوية كان يغني في تلك القاعة منذ منتصف الثمانينات، لكن إسماعيل يحاول عكس الحقائق كأنما هذه أرضه وعدوية وناسه هم من غزوها بزجاجاتهم الحمراء والصفراء

    لكنه أيضًا مثل الكثيرين تابع تفاصيل الحادث الأليم الذي وقع لأحمد عدوية، وعلى الرغم من  أن تقارير الأطباء المصريين والفرنسيين أكدت استحالة استعادة أحمد لصوته أو قدرته على الحركة، فإنه تمكن بفضل الله وبمساعدة الأطباء وقوة الإرادة على استعادة صوته وهو ينظم حفل بمناسبة عودته وشفائه. لهذا قرر إسماعيل منتصر أن يذهب إلى الحفل، لا لكي يستمع لصوت أحمد، بل لكي يرى قدرة الله التي تحدت نبوءات الأطباء العالميين.

    بانبهار حكى إسماعيل منتصر كيف ذهب إلى قاعة ألف ليلة وليلة بفندق هيلتون في 19 ديسمبر 1989، ليجد أعدادًا ضخمة من رجال الأمن التابعين لأحمد عدوية، خضع الجميع للتفتيش والتدقيق في الدعوات التي يحملونها، وبعدما عبر البوابات إلى القاعة وجد أحد رجال الأمن يتناول منه الدعوة ويسأله عن اسمه، ثم يخرج ورقة من جيبه ويفردها فإذا هي خريطة لكل الطاولات في المكان وكل مدعوة تم تحديد الطاولة التي يُفترض أن يجلس عليها، أجلسه المسؤول على طاولة قائلاً إن هذه “ترابيزة السحفيين”.يعدد إسماعيل مذهولاً أسماء الحاضرين الذي كان أبرزهم عادل إمام، ونبيلة عبيد، ويسرا، وشهيرة، وشريفة فاضل، ونجاح سلام ولفيف من رجال الأعمال. وإلى جوار المسرح كان هناك بالون ضخم كتب عليه “ أهلاً بالمدعوين.. يا مرحب بيكم يا حلوين“. طبعًا بين وصفه يشير منتصر إلى وجود زجاجات صفراء وحمراء على موائد الفنانين. جلس منتصر في انتظار ظهور عدوية، لكن الوقت مر دون أن يصل النجم، بعد فترة جاء أحد المنظمين إلى طاولة منتصر وقال لهم “يلا يا أفندية كفاية كدا.. احنا سبناكم تقعدوا شويه.. أصحاب الترابيزة وصلوا”.  حاول منتصر الوقوف وسط الزحام، لكن بعد فترة وجد قدميه تقودانه إلى الخارج.

     لم يكن حفل عدوية احتفالاً بشفائه فقط، بل كان إعلان موقف وتحدٍ من قبل جزء من الجماعة الفنية ونخبة عالم المال ردًا على عقدين من التنكيل والنبذ والملاحقات القضائية والدعاوى الجنائية. كان ردًا  على ما وصفه عادل إمام وقتها “بمحاولة الاغتيال الخسيسة لأحمد عدوية”.

 

صورتان لعدوية مع عادل امام ويسرا ونجوم عصره في حفل شفائه- نشرت الصورتان في مجلة صباح الخير

 2-دو

    ظهر هذا الجيل مع تطورات سياسية وتكنولوجية حادة. كانت الأسطوانات تتوارى لصالح شرائط الكاسيت. وشرائط الكاسيت يمكن تشغيلها في السيارة، وعربات الأجرة، ومحلات العصير، بل كان من  الممكن أن تحمل “الكاسيت” على كتفك وتسير به في الشارع جاهرًا بأغاني عدوية . في واحدة من حواراته قال عدوية غاضبًا “أنا صوتي في كل مكان، لن أذهب إلى الإذاعة ولا أريد منها شيئًا“.

صوت الحب تروج لعدوية ببون خصم يوزع مع مجلة الكواكب يمكنك تقديم البون لأى بائع كاسيت وسيعطيك شريط كاسيت عدوية الجديد، مجلة الكواكب عدد 18مايو 1976

     كان السادات يحوِّل بوصلة البلاد من الشرق إلى الغرب. واشتراكية الحزب الواحد تتآكل لمصلحة المنابر والتعددية والديموقراطية ذات الأنياب. ووزارة الثقافة التي تحتكر أدوات إنتاج وتوزيع المنتجات الثقافية وتراقبها كذلك، تتوارى من المشهد وتتقلص ميزانيتها.

عدوية مرتديا الجلباب مقدما نفسه كمغنى يقدم الايجبيشان شعبي فلكلور

     في زمن ثروت عكاشة وعبد القادر حاتم وغيرهم من ضباط ومخبرين خُنق الإنتاج الثقافي والفني، أُحكمت السيطرة على كل المجالات حتى الأغاني الشعبية ومغنيي المواليد تم تكليف زكريا الحجاوي بجمعهم من الموالد وتعيينهم في وزارة الثقافة؛ حوَّل كل معلمين الغناء الشعبي من خضرة محمد خضر، وحفني أحمد حسن، وحتى شوقي القناوي إلى موظفين يوقعون حضورًا وانصرافًا، ليتركوا الأغاني التراثية الحرة التي تتحدث عن الزواج والفرح والحزن والسير الشعبية، وأصبح مطلوبًا منهم أن يغنوا لكيان “اسمه مصر”. وبدلاً عن غناء حفني أحمد حسن شفيقة ومتولي أصبح يغني “يا جمال يا بطل العروبة

    حين ظهر أحمد عدوية كان للغناء الشعبي فقرة ثابتة في التلفزيون؛ يظهر فيها المغني الشعبي مرتديًا الجلباب الصعيدي أو الفلاحي، وخلفه يرقص راقصو فرقة رضا للفنون الشعبية، وهو يغني للرئيس ولمصر ولمكافحة دودة القطن. لذا حين ظهر أحمد عدوية من المعادي، ومن مدينة القاهرة ذات البنية التحتية المتهالكة لزمن ما بعد الحرب، وقال أنا مغني شعبي، أو كما قال في أحد حواراته “إيجيبشان شعبي فلكلور” أنكره الجميع، حتى حينما صاح الديك ثلاث مرات، قالوا هذه نهاية زمن، وبداية زمن لا يعجبنا. وبينما كانت الأضواء تنحسر عن الضباط والمخبرين وتابعيهم من مثقفين كانت نجوم جديدة تولد؛ عادل إمام في السينما، وعدوية في الموسيقى، وإسماعيل ولي الدين في الأدب والسيناريو، وطائفة من رجال الأعمال لم يأتوا من خلفية إقطاعية مثل من دهستهم ثورة يوليو.لم يكونوا من دراويش جمهورية ناصر بالتأكيد، بل فهلوية، يلعبون بالأفاعي والبيضة والحجر، بعضهم لم يكمل تعليمه، والبعض الآخر تعلم في أرقى الجامعات الأمريكية وعاد ليعين السادات على تغيير دفة سفينة الوطن.

 

جريدة المساء ترصد ثروة عدوية، لكن في الوقت ذاته تكشف لنا أن عدوية قبل دوره في فيلم محمد شبل “أنياب” بسبب حاجته إلي المال، وعلى الرغم من أن عادل إمام نصحه بعدم قبول الدور

 

 

كان الرخاء القادم شعار المرحلة، لكن أبناء اشتراكية الدولة المهزومة والمثقفين الذين وجدوا أنفسهم في الشارع بعد إغلاق حظيرة وزارة الثقافة نظروا حولهم فلم يجدوا سوى عدوية رمزًا لهزيمتهم، فقال بعضهم لبعض قوم نحرق هالمدينة ونعمر واحدة أشرف، كان هذا في 18 يناير 1977.

3-سه

     راع السادات الخدم القديم في عملية تحول سياسيات الدولة. ومنح عبد القادر حاتم وزير الثقافة والإرشاد القومي في العهد الناصري منصبًا شرفيًّا هو “رئيس المجالس القومية المتخصصة“. وعلى ما يبدو  اتخذ حاتم -الذي كان يشهد تحلل الأحلام والكوابيس التي شيدها مع رفاقه الضباط- من عدوية رمزًا يسهل مهاجمته بدلاً عن مهاجمة المسؤولين عن تلك السياسيات، فقد كان حاتم هو أول من أعلن أن عدوية يمثل “خطرًا” وأمر بصفته رئيسًا للمجالس القومية المتخصصة بتشكيل لجنة لدراسة “ظاهرة عدوية” على أن تنتهي اللجنة بوضع خطة عمل لمكافحة تلك “الظاهرة”.

الإتحاد الاشتراكى يعلن الحرب على ظاهرة أحمد عدوية في هام 1976

    لم يكن الهجوم على عدوية منبعه تفضيلات شخصية قط، بل كان هناك تنظيم وتنسيق واضح نلمس رائحته في الأرشيف الصحفي الباقي عن هذا الزمن، كان الأمر حملة منظمة من ضحايا سياسات السادات ومعارضيه. لم يتوقف الأمر عند لجنة عبد القادر حاتم. ففي عدد 13-8-1976 نشرت صحيفة الأخبار خبرًا صغيرًا في باب أخبار الناس؛ مفاده أن منظمة الشباب بالاتحاد الاشتراكي توزع منشورات على أعضائها تهاجم فيها أحمد عدوية وأغانيه وتتهم كلماته بالإسفاف. ومن تلك الهيئات انطلقت المدافع ضد عدوية، وكان يُكرم ويُحتفى بكل من تطاول ونقد عدوية. على سبيل المثال حينما كتب عبد العال الحمامصي مجموعته القصصية “أحمد عدوية.. وأشياء أخرى” منتقدًا زمن عدوية فازت المجموعة بجائزة الدولة التشجيعية، وعلَّق عدوية على الأمر “أرزاق والله.. الراجل حط اسمي على كتاب أخد جايزة”.

    لم يقتصر العداء لعدوية على تشكيل اللجان ومقالات وقصص المثقفين، فالإذاعة حاربت بث أغانيه. والرقابة اعترضت على الكثير منها، لكنه في كل مرة كان يجد طريقة للنفاذ من الحصار. فحينما اعترضت الرقابة على أغنية “كركشندي” سافر عدوية إلى لندن وسجلها هناك. ومن خلال تكنولوجيا شرائط الكاسيت الجديدة وقتها تسربت الأغنية إلى داخل مصر لتحتل المرتبة الأولى في محلات العصير وسيارات الأجرة.

4-جُهار

     لم يكن عدوية وحيدًا، ولم تكن مبيعات ألبوماته هي ما دعم بقاءه على الساحة. بل رأى السادات وفريقه في عدوية وسيلة لاستفزاز المثقفين “والأفندية” ففي الحفلات العائلية لأسرة الرئيس المؤمن كان عدوية ضيفًا دائمًا، غنى في عيد ميلاد أخت السادات، وغنى في أعياد أبناء الرئيس شخصيًّا. حين حاور أيمن الحكيم عدوية مسجلاً ما يشبه المذكرات، واجهه بهجوم وانتقادات المثقفين وهو ما اعتبره عدوية إهانة ليس له فقط، بل للشعب المصري وذوقه. دافعًا تهمة انحطاط الذوق عنه قال عدوية لأيمن “هل الرئيس السادات كان ذوقه هابط لما اختارني أنا بالذات علشان أغني في فرح بنت أخته في ميت أبو الكوم.. وغنيت قدامه أكثر من مرة وكان في غاية الإعجاب بي وبأغنياتي.. دا اتهام سخيف”.

    لم يرفض كتاب اليسار والمدافعين عن مشروع دولة يوليو الغناء الشعبي، لكنهم رفضوا عدوية تحديدًا، متمسكين بصوت آخر هو محمد رشدي معبرًا حقيقيًّا عن الغناء الشعبي. تحول الأمر إلى معركة سياسية ظاهرها خلاف فني.فقد هاجم أنيس منصور محمد رشدي أكثر من مرة، وكتب عن أول مرة قابله “لم يعجبني شكله، ولا ابتسامته البلهاء، ولا كرافتته ولا الأغنية التي اشتهر بها (تحت الشجر يا وهيبة ياما أكلنا برتقال) لأن البرتقال الذي يُأكل تحت الشجر لا بد أن يكون مسروقاً“.

    الأمر الذي دفع بكاتب آخر من كتيبة يسار رشدي هو صلاح حافظ أن يرد على أنيس قائلاً “كنت أتمنى أن أتابع لسان أنيس الساخر وهو يلدغ الذين يستحقون اللدغ، وكنت أتمنى قبل أن تسوءه الدعاية المجانية لمحمد رشدي أن تسوءه الدعاية المدفوعة الثمن لبعض ملوك البورصة الفنية، فقد يكون هؤلاء الملوك وجهاء وابتسامتهم ذكية وكرفتاتهم تلائم البدلة، ولكن أنيس يعلم أنهم يسبحون في محيط الفن بوسائل غير فنية، وأنهم أدخلوا إلى حياتنا الفنية عقلية وكالة البلح ونزلوا بالإنتاج الفني إلى سوق التوفيقية واشتروا وباعوا وسرقوا واحتكروا، وكان أول ما احتكروه وأهم ما احتكروه هو الدعاية لأنفسهم“. بالطبع كان حافظ يقصد أحمد عدوية.

    تجاهل أنيس منصور الرد على صلاح حافظ، لكن واظب على مديح أحمد عدوية الذي وصفه بالأعجوبة بين المطربين. أما سبب هذا الإعجاب فيفسره أنيس منصور قائلاً “أحمد عدوية له صوت قوي رغم أنه لا يرعاه رعاية كاملة، فهو يغني في الكباريهات حيث الجو ملوث بالدخان، ثم يخرج من الكباريه إلى الهواء البارد ليدخل كباريه آخر، ومن حار إلى بارد إلى حار إلى بارد، ومع ذلك فصوته قوى لم يتأثر بشيء“.

     يا له من سبب فريد من نوعه للإعجاب بعدوية، لكنه يتناسب مع فيلسوف الوجودية المصري ورسول الكائنات الفضائية التي هبطت من السماء!

    لكن الاعتراض لم يكن قط على صوت عدوية، فباستثناء تعليق مصطفى محمود الذي وصف صوت عدوية بأنه صوت فحيح دكر البط، فكل التعليقات التي هاجمت عدوية لم تتناول صوته أو قدرته على الغناء. بل أشد منتقديه أعربوا عن تقديرهم لصوته، لكن الاعتراض كان دائمًا ما يطول أغانيه والكلام الذي يغنيه. لذا فحينما تم اعتماد صوت عدوية للغناء في الإذاعة المصرية عام 1977 برر رئيس لجنة الاستماع منير الوسيمي قراره بأنه اعتمد أحمد كصوت أما الكلمات التي يغنيها فهي مسؤولية لجنة النصوص. لكن حتى بعد اعتماده كمغن في الإذاعة لم تذع الإذاعة أغانيه. في حوار لعدوية مع مفيد فوزي قال “ماحبتش أغني الكلام اللي بيعرضوه عليَّ في الإذاعة.كلام تقليدي جدًا وكله عن الحب والهجر.. كلام ميعجبنيش. أنا بغني اللي بحبه واللي بختاره”.

     لكن هل كان الكلام الذي يُعرض على عدوية للغناء في الإذاعة عن الحب والهجر فقط؟ لماذا مثلاً لم يغن أغاني وطنية وقد كانت وسيلة مضمونة بالتأكيد للوصول إلى الإذاعة؟ والسؤال الأهم كيف يعاصر فنان شعبي مرارة الهزيمة، وأفراح النصر، ثم زهور ورخاء السلام، ثم اغتيال الرئيس وصعود رئيس جديد يحرر سيناء مرة أخرى دون أن يغني عدوية احتفالاً بأي حدث من تلك الأحداث الوطنية الشعبية؟ لا أجد تفسيرًا، وقد تهرَّب عدوية دائمًا من إجابة هذا السؤال أو رد مؤولاً بعض أغانيه بصفتها أغان وطنية،  فأم حسن هي مصر، ولذا غنى لها “سلامتها أم حسن.. من العين والحسد”. أو يصر على تفسير أغنية “سيب وأنا أسيب” بأنها أغنية عن مفاوضات السلام مع إسرائيل، وهو الأمر الذي إن صح سيحول الأغنية التي كتبها مأمون الشناوي لغزًا سورياليًّا:

علمته التُقل لكن

سبقني بمية سنة

ودا عز علينا بحره

وسقانا من الهنا

دا الحب دنيا حلوة

ما هو كورة مدورة (!)

بتلف علينا لفة ما هي دنيا صغيرة

دا القرب نصيب

والبعد نصيب

والأمر خطير..

وتقول لي سيب/ طيب سيب وأنا أسيب

    يسأله مفيد فوزي في الحوار ذاته، لماذا إذًا يصر على غناء كلمات جنسية وأشياء غريبة. بحدة يرد عدوية “ليست غريبة لكن تعبر عن الحاجات اللي كلنا بنعيشها”.

    أنا شخصيًّا عجزت عن فهم اتهام أغاني أحمد عدوية بأنها أغاني جنسية، لكن مثلما علمنا فرويد فكل شيء في الحياة يمكن أن يكون عن الجنس. 

    في الأول من ديسمبر عام 1985 تحولت التأويلات إلى وقائع مثبتة بأمر القانون؛  تلقى عدوية طلبًا بالحضور لمباحث الآداب للتحقيق معه. ذهب لأنه كما قال ظن أنهم يريدونه الغناء في فرح لهم، لكن دون تحذير تم إلقاء القبض عليه واحتجازه، حيث بات عدوية في قسم الشرطة، وأحيل في صباح اليوم التالي إلى نيابة بولاق الدكرور بتهمة خدش الحياء العام والجهر بكلام خارج.

اهتم محرر الجمهورية بمعرفة المحامين والإشارة إلى أن أحدهم، أرسلته “الراقصة سحر حمدى مجاملة مع المطرب. في إشارة واضحة لطبيعة الجمهور ومن يقفون مع عدوية. عدد 4-12-1985 جريدة الجمهورية

    شريفة فاضل التي غنت قبل ذلك “طبعًا ما أنا أم البطل” ذهبت إلى النيابة بصحبة 7 محامين. بعد ساعات أمرت النيابة بالإفراج عنه بكفالة قدرها 500 جنيه. وأصرت شريفة فاضل بعد الإفراج عن عدوية أن يحي فقرته المعتادة في الكباريه في الثالثة ونصف صباحًا من الليلة ذاتها.

    العلاقة بين شريفة وعدوية أقدم علاقة فنية وإنسانية حافظ عليها عدوية دائمًا. تروي شريفة فاضل أنها التقت أحمد عدوية لأول مرة في لبنان بعد هزيمة 1967، وكان يعمل “مزهرجي” مع راقصة مصرية هناك، وعلى ما يبدو لم يكن وضعه مريحًا، ولم يكن يملك المال للعودة، وطلب منها أن تشتري له تذكرة ليعود إلى مصر. وهو ما فعلته شريفة فصحبته معها حينما عادت إلى القاهرة. وكانت هي من قدمه لأمين سامي مدير ملهى الأريزونا ليغني هناك للمرة الأولي. بعد ذلك حين فتحت شريفة كباريه “الليل” كان لعدوية فقرة ثابتة هناك.

     تجاوزت العلاقة بين الاثنين العمل الفني، وامتلأت دائمًا بمواقف الجدعنة من الطرفين؛ بعد انتفاضة 18 و19 يناير سنة 1977 تعرض كباريه الليل للتدمير والحرق مثلما طالت أعمال الشغب والتخريب معظم كباريهات شارع الهرم، لكن أحمد عدوية رفض السفر للغناء في لندن، وقرر البقاء مع شريفة فاضل والمساعدة في إعادة ترميم المكان أو على حد تعبير محرر مجلة الموعد “ليساهم في بعث الحياة الفنية من جديد”.

لاحظ في نهاية الخبر يشير المحرر إلى إن أحمد عدوية يبحث مع شريفة فاضل موضوع “النقطة” التي يقدمها الجمهور لهما على المسرح، ويبحثان تنظيمها بطريقة لا تثير الانتقادات” في إشارة إلى سعيهم لتفهم الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي أدت إلى 18 و 19 يناير. مجلة الموعد عدد 3-2-1977

 5-بَنج

   تعاملت الشرطة والأجهزة القضائية مع أحمد عدوية بعنف في تلك القضية. حتى إن العقيد محمود قريطم مفتش مباحث الآداب بالجيزة أجري حوارًا مع صحيفة الأخبار في عدد 7-12-1985. شرح فيه تفاصيل العملية الدقيقة للقبض على عدوية. فقد وصلت لهم أولاً معلومات بأن بعض الفنانين في شارع الهرم دأبوا على الخروج عن حدود اللياقة والعادات، ولأن الفنان يجب أن يكون قدوة فقد تحركوا لحماية الفن والأخلاق لمطاردة هؤلاء الفنانين. ذهب العقيد مع النقيب أمين أبو طالب بنفسيهما وجلسا في انتظار طلوع عدوية على خشبة المسرح ممسكًا في يده كأس خمر وبدأ يغني أغنية بذيئة.

    المدهش أن العقيد لم يجد حرجًا في ترديد كلمات الأغنية البذيئة، وكذلك صحيفة الأخبار التي نشرتها، وحسب شهادة العقيد كان عدوية يغني “لابس جبة وقفطان/ وعامل بتاع نسوان/ وماسك في إيده سبحة حب الرمان/ تطول حبة/ تقصر حبة/ تدخل حبة، وتطلع حبة“.

    من جانبه  أنكر عدوية كل الاتهامات، وقال إنه كان يغني أغنية “عيلة تايهة يا ولاد الحلال” وهي على وزن الأغنية التي يغنيها الضابط لذلك ربما اختلط عليه الأمر.

عدوية يشرب القهوة ويدخن أثناء التحقيق معه في النيابة

   في أثناء احتجازه في القسم وقبل الإفراج عنه، أجرى محرر الأخبار ذلك الحوار مع عدوية، سأله:

تعرف حاجة عن المادة 178 من قانون العقوبات؟

-لأ.. يعنى إيه؟

-هذه المادة تقول: كل من يجهر علانية بخطب أو عبارات مخالفة للآداب العامة يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنتين ولا تقل عن 6 شهور. وبكفالة لا تقل عن 200 جنية ولا تزيد عن ألف جنيه.

ضرب عدوية كفًّا بكف، ثم قال:

-ودا عدل!”

   تابعت الصحافة تفاصيل المحكمة، وعلى حد وصف محرر صحيفة الجمهورية في عدد 10-12-1985 امتلأت قاعة محكمة جنح بولاق الدكرور منذ الصباح الباكر ببعض طلبة المرحلتين الإعدادية والثانوية، وعدد من أصدقاء الفنان الذين التفوا حوله وهددوا المصورين الذين حاولوا التقاط صور لعدوية. في هذه الجلسة تقدم دفاع عدوية بطلب إلى المحكمة باستدعاء عروسين كانا في الصالة يومها لسماع شهادتهما، فهما من طلب الأغنية من عدوية احتفالاً بزفافهما، لكن المحكمة رفضت طلبات هيئة الدفاع.

    في 14-1-1986 نشرت صحيفة الأخبار صورة لعدوية مرتديًا نظارة شمس تغطي عينيه، أرفقت بخبر أن محكمة جنح بولاق الدكرور عاقبت أحمد عدوية بغرامة 200 جنيه بتهمة خدش الحياء العام.

عدوية أثناء خروجه من المحكمة بعدم الحكم عليه بغرامة 200 جنيه بتهمة خدش الحياء العام

6-شيش

    من ضمن الدفوع التي استخدمها عدوية إنكار غنائه للأغنية المنسوبة له أن قال إنه كان يغني أغنية أخرى من كلمات صلاح جاهين وألحان سيد مكاوي؛ وقتها كان الاثنان  الفنانان المكرسان للدولة وسلطتها، فسيد مكاوي كان يرتدي البدلة البيضاء ويجلس أمام مبارك يدندن ويغنيمصر.. مصر و”الأرض بتتكلم عربي”. حاول عدوية الذي لم يغن قط لمصر الاحتماء بمؤلف كلمات وملحن ترضى عنهم السلطة ويهز الرئيس رأسه استمتاعًا بفنهم. لم يكن عدوية يكذب حيث عمل الاثنان معه في مشاريع مختلفة ولحن له سيد مكاوي أكثر من عمل، فلم يكن لدى عدوية أغنية وطنية واحدة يختبئ خلفها ويدَّعي أنه كان يغنيها.

    لم يغن عدوية لمصر، وإن ذكرها في مواضع مختلفة ضمن سياق أغانية. الأغنية الوحيدة التي غناها وكانت ذات توجه سياسي مباشر جاءت بعد ثورة 25 يناير، قبل انتخابات مجلس النواب في 2011  غنى الغايب ملوش نايب في مبادرة لحث المصريين على المشاركة في العملية الانتخابية.

    في قمة مجده، أدين أحمد عدوية بخدش الحياء العام.وبعدها تعرض لمحاولة اغتيال نتج عنها تدمير جهازه العصبي. ومن وسط هذا الرماد نهض عدوية. واظب على إنتاج الألبومات، والغناء في الملاهي طول فترة التسعينيات، وأنتج لابنه محمد عدوية في محاولة لتوريثه. لم تحقق ألبومات التسعينيات نجاح ألبومات السبعينيات والثمانينيات. ليس بسبب الحادثة فقط وأثرها على حركة أحمد، بل لأن العصر تغيَّر، غزت موسيقى جديدة سوق الكاسيت والحفلات والقنوات الفضائية. لم يعد السوق مغلقًا على الموسيقى المصرية الشعبية أو تلك الشرقية، بل انفتحت مصر على موسيقى الراي، وتدفقت التيارات الموسيقية من الغرب ومن شمال المتوسط. خلق جيل حميد الشاعري وعمرو دياب ومنير إيقاعًا جديدًا، وحتى الموسيقى الشعبية أخذت إيقاعًا غير عالم الحارة وكوبري أبو العباس والمعادي. لم تعد الكباريهات والملاهي الليلية هي أماكن الخروج والسهر والفرفشة؛ فقد ظهر الديسكو، وتبعه النايت كلوب. وما تبقى من كباريهات تكاثر عليه الزبائن العرب، لكنهم أتوا بموسيقاهم الهندية التي يدعون أنها خليجية وبالإيقاعات اليمنية ثم أتى المغنون الخلايجة بأنفسهم ليحلوا محل المصريين في الكباريهات. نافس الغناء الخليجي الغناء الشعبي في الكباريهات والملاهي. وسط كل هذه الأمواج حافظ عدوية على وجوده؛ لم يعتزل ولم يقبل تقلبات السوق، وأنتج عدة ألبومات خلال التسعينيات لكنها لم تكن بقوة أعماله السابقة، وحينما وصلنا إلى الألفية لم يعد عدوية المغني الشعبي الأول في المبيعات أو الأفراح والحفلات، بل تحول إلى أسطورة حية مكانها محفوظ في الذاكرة الجماعية.

     في السنوات الأخيرة، وبسبب دخول رأس المال الإعلاني سوق إنتاج الموسيقى، جرت إعادة الاكتشاف الأخير كعدوية كأيقونة لعصر ولنوع خاص من الموسيقى والغناء يحمل اسمه. تسابق المغنون الشباب على إعادة اكتشاف هذا التراث والغناء مع أحمد عدوية، لتظهر أغاني السبعينيات والثمانينيات في توزيعات جديدة وبمواد بصرية معاصرة.

    انتصر عدوية في كل المعارك التي لم يختر خوضها. واليوم لا يتحدث أحد اليوم عنه بصفته رمزًا للإسفاف، بل أصبحت مووايله وأغانيه جزءًا من الكلاسيكيات الغنائية، وركنًا أساسيًّا في التراث الموسيقي المصري. لم يعد أحد يذكر من وصفه بالإسفاف والانحطاط، ولا القضايا التي خسرها والضربات المتتالية التي تلقاها من الإعلام أو من مؤسسات الدولة. وحتى الموجع من تلك الضربات كحادثة عام 1989 صار جزءًا من الأسطورة. المغني الذي عاد من الموت وانتصر على جنون الشيخ الخليجي، وعلى القضاء الذي أدانه بخدش الحياء، وعلى التقلبات العنيفة لسوق الإنتاج الموسيقي على مدار خمسة عقود. وظل لنصف قرن سلطانًا لأهل الهوى.

تصميم بوستر عدوية والشمس والقمر والأفلاك إهداء من المصمم سولمان. لمزيد من تصميماته: https://www.facebook.com/mahmoudsoliiman1