في الساعات الأولى من عام 2018، قابلت أحمد عدوية للمرة الأولى، بعد سنوات من الشغف بجمع الحكايات والتسجيل والشهادات والأساطير. كان أمامي مباشرة، والمسافة بيني وبينه لا تتجاوز الشبر ونص. هو أمامي وأنا خلفه، يسنده ثلاثة مُسَاعدين. ينزل سلالم المكان ببطء. كل خطوة تستنزف طاقته مُقَاومًا إرهاق وعناد ماكينة الجسد. توقف لالتقاط أنفاسه ثم رفع رأسه مُخاطبًا أحد الشباب الذين يسندونه “أنت عارف أنا نزلت وطلعت السلالم دي كم مرة؟”
أجبته “ربنا يديك الصحة من سنة 71”.
علَّق قائلاً: أنا السلالم دي خدت مني راقات.
كنا في ملهى شهرزاد بشارع الألفي بك في وسط البلد، وهو المقابل لملهى الأريزونا حيث صعد عدوية المسرح للمرة الأولى عام 1971. يبلغ عدوية هذا العام 73 عامًا، منهم أكثر من 45 عامًا من الغناء والموسيقى.
بدت رؤيته في حفل رأس السنة في المكان ذاته الذي بدأ فيه الهوى، كأنها عودة مؤقتة لبداية الدائرة. توهمتها لحظة تاريخية، علامة لا تكشف معناها وإن طالبتني بشيء ما. في تلك الليلة غنى عدوية لنحو 45 دقيقة. ثم انصرف ليحي حفلاً آخر بينما كان قادمًا من حفلين سابقًا. أربعة حفلات في ليلة واحدة، محاطًا بدراويشه ومحبيه، مطلوبًا مبجلاً يتحرك عدوية محاطًا بهالة النجم الجماهيري التي لم تغادره قط.
روى عدوية سيرته الذاتية ومقتطفات منها في أكثر من موضع ولقاء إذاعي وتليفزيوني، وكتبها أكثر من كاتب، وليس الغرض من هذه السلسلة إعادة رواية السيرة المُحَاطة بعشرات الأساطير والادعاءات التي تمتلك قوة أكثر من الحقائق، بل جولة دافعها الحب لمقتنيات عدوية وزمنه.
يعتمد هذا الملف على الأرشيف الصحفي الذي تابع وغطى أخبار عدوية خلال نصف القرن. ما جذبني للتعامل مع مادة هذا الأرشيف، هو مقدار النقد السلبي والسب والتجريح الذي طال عدوية بشكل مكثف حتى التسعينيات، حين وقعت له الحادثة الشهيرة الغامضة، حينها خف النقد والهجوم على عدوية وإن لم يتوقف.
يكشف هذا الأرشيف عن شبكات من علاقات القوة ترسم في مواقفها المتغيرة خلال الربع قرن الأخير صورة لبيئة الإنتاج الفني، وكيف تتشكل القيم والمثل العليا، وتُسم أخرى بأنها هابطة وخطر على المجتمع والأمن العام. يجعلنا هذا الأرشيف كذلك نتساءل عن سر التباين الشَاسع في سيرة عدوية بين الوقائع والأساطير، وكيف اكتسبت تلك الأساطير سلطة الحقائق بل وغيَّبتها. وفي القلب من كل هذا عدوية نفسه مقاومًا ولاعبًا قادرًا على المناورة وتحدى كل الضربات والصعود مرة أخرى حتى وإن أصابته الضربة بالشلل. مسيرة من العناد والمحبة والسلطنة..