من الكويت جاءت “هند شهيد” إلى مصر في منتصف الثمانينيات. تعودت أن تأتي في الصيف هربًا من ارتفاع درجة الحرارة والرطوبة الخانقتين في الكويت، تقضي إجازتها في السباحة في حمام السباحة بفندق الماريوت، وركوب الحنطور، وحضور مسرحيات عادل إمام، وشراء الملابس من بوتيكات مصر الجديدة التي تبيع الملابس المستوردة، وزيارة خان الخليلي، وبالطبع حضور حفلات أحمد عدوية.
الله محبة يحب كل من أحبه. على مدار سنوات من المواظبة على حضور حفلات عدوية كان يحرص على توجيه التحية لها كلما حضرت، بلباقة وذوق بالطبع، فدائمًا ما كان يحرص على إشعار كل فرد يحضر لسماعه بأنه يغني له فقط، لكن دون تجاوز ودون إفراط في إبداء الإعجاب بشخص على حساب شخص.
هذه قواعد “الكار“. وكما قال في واحد من حواراته “مستحيل لو لقيت معجبة بتتجاوب مع اللي بقوله وأغنيه إني أغازلها أو أتصرف معاها أي تصرف مش مظبوط، لأن دا شيء يسيء لسمعة الفنان خصوصًا في الحفلات الخاصة.. وأي فنان بتطلع عليه سمعة زى دي كل الناس وكل المحلات والملاهي بتقاطعه وما بتتعاملش معاه لإنه بيبقى مصدر مشاكل“.
لقمة العيش لها آدابها واحترامها، ومن لا يحترم لقمة عيشه ويجرى وراء بتاعه لن يجد في النهاية كلا الاثنين. واللعب لعب والشغل شغل وحبة فوق وحبة تحت، وقدِّم السبت تلاقي الحد. إعجابًا بفنه وحضوره حرصت هند شهيد على دعوة أصدقائها لحضور حفلات أحمد عدوية، فمعرفة الناس كنوز في النهاية.
في 22 يونيو 1989 حضرت هند شهيد إلى القاهرة، هذه المرة كانت بصحبة أصدقاء جدد من الكويت؛ منهم الأمير طلال بن ناصر الصباح. ذهبت إلى حفلة أحمد عدوية في الماريوت حيث يؤدي فقرته في الليل الثاني، وحين ذهب لتحيتها، أخبرته بأن صديقها الأمير اشترى بيتًا فخمًا في مصر الجديدة، ويرغب في دعوة أحمد عدوية للغناء احتفالاً بانتقاله للإقامة فيه؛ أي ما يعرف هذه الأيام بالـ “House warming”. رحب عدوية بالرزق كما يجب أن يكون الترحيب، فأخبرته هند أن الأمير مقيم في الجناح 750 ويرغب في التعرف إليه. من العين دي قبل العين دي، حبًّا وكرامة، لكن يجب أن أذهب إلى الغناء في شيراتون مصر الجديدة، وبعدها سأعود إلى هنا ونلتقي بالأمير ابن الأمراء. كان ذلك في مساء يوم 28 يونيو 1989.
في محضر تحقيقات مباحث الجيزة الذي أشرف عليه العقيد إبراهيم بكير، سجل أحمد محمد موافي سكرتير عدوية تفاصيل تلك الليلة قائلاً “بعد إن أدى الأستاذ (عدوية يعني) نمرته في فندق ماريوت ذهبت معه إلى فندق شيراتون هليوبوليس ليؤدى نمرته هناك، وكانت بصحبتنا هند شهيد، وجلست على إحدى الموائد تنتظره حتى انتهى من الغناء، ثم عدنا إلى الماريوت وجلسنا في الحجرة التي يخصصها الفندق للأستاذ عدوية طول فترة غنائه بالفندق، وهي على حمام السباحة. وبعد دقائق انصرفت الفتاة الكويتية إلى حجرتها بنفس الفندق، ثم اتصل تليفونيَّا بعدوية وبعد أن انتهت المكالمة التفت عدوية لي وللسائق وقال: ممكن تنصرفوا، علشان رجل أعمال كويتي بالفندق عايز يتعرف عليا، بس سيبوا لي مفتاح الأودة”.
أتت هند بعد ذلك وصحبت عدوية إلى الغرفة 750
الأمير وعدوية والشيطان
لدينا الآن في الغرفة أربعة أشخاص، أحمد عدوية، وهند شهيد، والأمير طلال بن ناصر الصباح، ومضيفة طيران مغربية الجنسية تعمل في الخطوط السعودية اسمها حنان. وبالطبع كان الشيطان خامسهم، أم في هذه الحال يجب أن يوجد شيطانان؟ شيطان لكل رجل وامرأة. سينظر الخيال الشعبي بريبة إلى مثل هذا الموقف، ناهيك بأنه مخالف لقوانين الآداب وتعليمات شرطة السياحة التي تحظر استضافة الضيوف، خصوصًا من الجنس الآخر في الغرفة بعد منتصف الليل. ثم لدينا البيولوجيا والتاريخ، وكيف كان العالم ذات مرة غرفة فندق يشغلها رجلان وامرأتان، وانتهى الأمر بأن قتل قابيل أخاه هابيل، وكانا شقيقين.لكن إذا اجتمع مغني كباريهات بأمير وضابط في الجيش الكويتي فإن الخيال الشعبي سيتصور سيناريو أكثر دموية ودرامية.
القصة التي يرددها الجميع بمنتهى الإيمان والثقة حتى الآن، أن عدوية تعرض لعملية إخصاء على يد الأمير الخليجي في تلك الليلة بالغرفة 750. تتحدث الأسطورة عن مؤامرة انتقام قادها الأمير ثأرًا لشرفه، وذلك لوجود قصة حب بين أحمد عدوية وإحدى نساء الأمير.
أكد لي صحفي كبير ورئيس تحرير سابق ذات مرة بثقة أن أغنية “يا بنت السلطان” هي السبب في قطع بتاعه، لأنه غناها لأميرة خليجية، فانتقم أخوتها منه لتشويهه سمعة العائلة الملكية.
لكن الحياة مخيبة للآمال بشكل عام، تعطينا القليل من الدراما والكثير من التراجيديا والكوارث غير المبررة، ليت كل مصيبة تقع لنا لها سبب، على الأقل كنا سنتعلم من أخطائنا ونحرص على عدم تكرارها!
ينكر الاثنان؛ عدوية والأمير معرفتهما ببعضهما البعض قبل هذا اللقاء، وفي روايتيهما لما حدث في تلك الليلة لا يذكر أي شيء عن غيرة أو صراع أو إخصاء أو دماء. وقبل أن نسقط في بحر الروايات المختلفة لما حصل لنتمسك الآن بالحقائق؛ انصرفت هند شهيد من غرفة الأمير مبكرًا وذلك لأنها تحب الاستيقاظ مبكرًا للسباحة في حمام سباحة الفندق.
في الصباح اتجه محمد عبد الله إلى الفندق بصحبة محمد ووردة أبناء عدوية، حيث تعودا قضاء النهار في حمام السباحة.استيقظ أحمد موافي مساعد عدوية من نومه وبدأ في إعداد جدول اليوم، تأكد أولاً أن الفرقة قد تحركت في طريقها للإسكندرية حيث كان لديهم فرح مساء اليوم، ثم اتصل بنوسة زوجة عدوية في بيتهم في الهرم، فأخبرته إن أحمد لم يعد للمنزل منذ أمس. توجه موافي إلى غرفة عدوية في الفندق لكنه لم يجده في غرفته. ففكر في احتمال وجوده في حمام السباحة مع أولاده، لكنه لم يجده في حمام السباحة وإن وجد هند شهيد، وحينما سارع بسؤالها عن مكان عدوية ارتدت ملابسها وقررت اصطحابه إلى غرفة الأمير الكويتي.حينما وصل الاثنان للغرفة وجدا الأمير، الذي كان يجمع متعلقاته استعدادًا للانصراف، بينما كان عدوية مستلقيًا بكامل ملابسه وحذائه على الفراش، ورغاوي بيضاء تخرج من فمه. حاولت هند شهيد ومساعد عدوية إفاقته لكنه لم يستجب لمحاولاتهما فأسرعت بطلب طبيب الفندق الدكتور مصطفى الشقنقيري.
فحص الطبيب عدوية، ثم أخبرهما بضرورة نقله فورًا إلى المستشفى. نزلت هند شهيد إلى استقبال الفندق وهناك شاهدت الأمير الكويتي يوشك على الانصراف، وحسب شهادة مدير الفندق المناوب يسري إبراهيم فقد صرخت ما إن شاهد الأمير ينصرف وقالت “لا تتركوه ينصرف بهذه الحقيبة.. إن بداخلها نفس الأشياء التي أعطاها لعدوية“. لكن في النهاية انصرف الأمير فلم يكن هناك أي مانع قانوني يقتضي احتجازه، لم يتم إبلاغ الشرطة، ولم يكن أحد يعرف ما الذي حدث لعدوية، والأهم أن الأمير كان يحمل جواز سفر دبلوماسي وينتسب للعائلة الحاكمة الكويتية.
1989
كنت قد أتممت ثلاث سنوات، استولى البشير على الحكم في السودان. وأرسل الخميني رسالة إلى جورباتشوف يدعوه فيها إلى التخلي عن العقيدة الشيوعية واللحاق بالإسلام، كما أطلق فتوى أُحلَّ فيها دم سلمان رشدي، وأمر الملك فهد بن عبد العزيز بإعدام عشرين حاجًا كويتيًّا على خلفية اتهامهم بتنفيذ التفجير الذي وقع على مسافة قريبة من الحرم المكي، وبدأ صدام حسين بمطالبة الكويت والسعودية بجدولة الديون العراقية للكويت أو إلغائها، بحجة أن العراق كان يدافع عن بوابة العرب الشرقية. وفي تمام الساعة الرابعة والنصف ليوم الخميس 29 يونيو 1989، وصل إلى مستشفى مصر الدولي بالدقي أحمد عدوية بصحبة سائقه الشخصي ومدير أعماله وهند شهيد.
وفقًا للتقرير المبدئي كان عدوية في حالة غيبوبة، ويعاني من هبوط حاد في الدورة الدموية والتنفسية، وخلل بوظائف الكبد والكلى واضطراب في الأعصاب. لم يعلم الأطباء ما الذي حدث، فلم يكن هناك أثر لأي جرح ظاهري، فحاولوا إعادة الاستقرار إلى الحالة، وأرسلوا عينات من البول والدم إلى مركز السموم بالعباسية لتحليلها.
في اليوم التالي جاءت نتائج التحاليل لتثبيت وجود آثار بكميات كبيرة من الهيروين، والمورفين والكودايين. على الفور أبلغت المستشفى قسم الدقي بالأمر، فحرر المحضر رقم 185 أحوال الدقي بتاريخ الأول من يوليو.
بالنسبة للعالم كانت سنة 1989 هي سنة النار الهادئة، تمهيدًا لسنة الانقلابات التالية، حيث بعدها لن يعود العالم كما عرفناه. وبالنسبة لعدوية كان الماضي ينتهي، وعالم كامل يرحل. في غيبوبته انهار جهازه العصبي تمامًا واستمرت الغيبوبة لأيام دون أن يعرف أحد حقيقة ما حصل، وفي غياب الحقائق تكاثرت الأقوال والأساطير، وولدت أسطورة إخصاء عدوية.
وصبحت أنا المغلوب
لا تركز دراسة الطب في مصر على الجانب الأخلاقي كثيرًا، بل يندهش بعض الأطباء حينما تحدثهم عن خصوصية المريض؛ تمتلئ صحف سنوات 1989 و 1990 بعشرات الصور التي التقطت لأحمد عدوية بإذن منه ودون إذن، حيث كان لشهور طويلة في غيبوبة عاجزًا عن الحركة والكلام. نشر الأطباء والعاملون في مستشفى مصر الدولي كل شيء عن أحمد عدوية، وتسابق الفريق المسؤول عن علاجه للظهور في الصحف والمجلات والإدلاء بالأحاديث والتصاريح الصحفية. تولى د.خيري السمرة عميد كلية طب قصر العيني الإشراف على الفريق المعالج لعدوية والذي ضم د.يحيي خاطر ود.رشاد شحاتة.
شخَّص الفريق المعالج حالة عدوية بأنه يعاني الغيبوبة نتيجة اضطرابات في الجهاز العصبي وخلل في وظائف الكبد والكلي، كل هذا بسبب جرعة مخدرات زائدة متضاربة التأثير وهي (المورفين، والكودايين، والهيروين، والويسكي) قضى عدوية في الغيبوبة أسبوعين، حينما أفاق استغرقت استجابته للمؤثرات الخارجية ثلاثة أشهر أخرى. لكن د.خيري السمرة، الذي كان مثل أي طبيب، يسعى لترسيخ صورته وقدرته سارع بعد أسبوعين حينما أفاق عدوية بالتصريح للصحافة بأن عدوية قد استعاد وعيه، فسارعت نيابة المخدرات بالحضور إلى المستشفى، مصرة على استجواب عدوية، لكن لم يجدوا أمامهم سوى جسد يتصل به أنبوب للتنفس وأنبوب للتغذية من الفم، حيث لم يكن قادرًا على تحريك فكه لمضغ الطعام أو البلع. تراجعت النيابة عن استجواب عدوية، لكن المحامي العام أصدر قرارًا بالتحفظ عليه في المستشفى وتشديد الحراسة على غرفته منعًا لهروبه.
موقف متوقع من بلدنا الحبيبة مصر ومؤسساتها القضائية، يتحول الضحية إلى متهم، والمتهم سيهرب طبعًا. تقدمت أسرة عدوية ببلاغ تتهم فيه الأمير طلال بمحاولة اغتيال أحمد عدوية، لكن نيابة قصر النيل حفظت البلاغ، بحجة عدم وجود دليل على محاولة الأمير اغتيال عدوية، وهو القرار الذي أغضب لا العائلة فقط، بل أغضب عددًا من الفنانين كذلك، على رأسهم عادل إمام الذي كرر في أكثر من مناسبة إدانته لما وصفه بـ “محاولة الاغتيال الحقيرة”.
ظل عدوية يتلقى العلاج في مستشفي مصر لمدة خمسة أسابيع تحت رقابة الشرطة والنيابة والصحافة. وأمامهم جميعًا وقفت زوجته نوسة، التي كانت تدير المعركة؛ وتتابع مع المحامين، وترد على الصحفيين، وتشكو إلى الله الشائعات التي تطالها وزوجها، وتبحث مع الأطباء خطط العلاج. لكن بسبب تصريح د.خيري السمرة الذي استدعى النيابة وحراسها للمستشفى، شعرت نوسة بأن الحصار يضيق عليهم، فاقترحت سفره إلى باريس لاستكمال العلاج، وهو ما تحقق بعد موافقة د.خيري السمرة، الذي صرح بمنتهى البرود لمحمد حنفي في حوار بمجلة آخر ساعة بأنه سمح بسفر أحمد عدوية “رحمة ورأفة به وبأسرته التي انتابتها حالة من الذعر والخوف نتيجة ما تقرؤه كل يوم في الصحف“. كانت الصحف تتغذى طول أسابيع على تصريحات د.خيري، الذي سمح أيضًا لمصوري الصحف بتصوير عدوية عاجزًا ومشلولاً ومريضًا.
كانت السلطة الطبية هي الأخرى تساهم في مُحَاولة حصار وتدجين واستغلال أحمد عدوية، مثلما واظبت كل السلطات طول سنوات ومنذ ظهوره على الساحة. استمر التنافس بين الأطباء للتعليق على حالة عدوية وكشف تفاصيله الصحية دون مراعاة لأي خصوصية، حتى بعد سفره لتلقي العلاج في باريس، فمن هناك أكد الدكتور عبد المنعم الدمرداش المستشار الطبي للسفارة المصرية أنه اطلع على تقارير أحمد عدوية الطبية، وأن شفاءه التام مستحيل، لأن جرعة المخدرات الزائدة التي تلقاها تسببت في تسمم الجدار الخارجي للمخ الذي تلف وأصبح في حكم الخلايا الميتة.
عند هذه المرحلة بدأت مقالات ومتابعات الصحافة لقضية عدوية تأخذ منحى متعاطفًا، وللمرة الأولى طول تاريخه يجد عدوية الصحافة في صفه، وهي التي سخرت لعقدين منه ونكَّلت به واتهمته بنشر الجهل والتخلف، واتخذته رمزًا لحقبة الانفتاح بكل سيئاتها، ودليلاً على ضياع قيمة العلم، كان هذا موقف تيار كبير من الناصريين واليساريين، بينما كانت صحف السلطة تراه صورة مُشوهة لحداثتها المتوهمة، صورة يجب إخفاؤها ومنع ظهورها. لكن بداية من عام 1989 بعد الحادثة تراجعت نبرة الهجوم على أحمد عدوية في الصحافة القومية.
كانت إشارة البدء من موسى صبري؛ الذي كتب في مقاله اليومي بالأخبار بتاريخ 10-9-1989 تحت عنوان “كيف اختفى المتهم الأول؟” مدافعًا عن عدوية.بدأ موسي مقالة قائلاً إن الحادث البشع الذي تعرض له عدوية كشف عن رصيد كبير من الحب في قلوب الناس، وكيف فاقت شهرته حدود مصر لتصل إلى مجتمعات لم يكن يتصور – موسى- أنها تسمع عدوية، وهو ما يؤكد من وجهة نظره “أن المجتمع المصري ليس طبقيًّا في التأثر بالكلمة الشعبية واللحن الراقص“! عدَّد رئيس تحرير صحيفة الأخبار السابق مزايا عدوية؛ منها أنه بار بوالديه وبأهله، وهو في رأيه مصري طيب موهوب. ثم يتساءل “لماذا لم تنشر الصحف اسم هذا الجاني؟ ولماذا يشار إليه بعبارات غامضة، مما أتاح الفرصة لانتشار شائعات عديدة عن جنسيته وعن مكانته الاجتماعية. نحن نعيش في بلد يحترم سيادة القانون. فكيف يهرب متهم بارتكاب جريمة” يبدي موسى صبري اندهاشه؛ كيف حفظت النيابة التحقيقات واتهمت عدوية بتعاطي المخدرات. يختم صاحب كتاب “السادات الحقيقة والأسطورة” مقاله “أقامت صحافة المعارضة الدنيا وأقعدتها، لأن ضابطًا بالسجون اعتدى بالضرب والشتائم على صحفي، والحال هنا مختلف، إنها جريمة شروع في قتل مع سبق الإصرار، هرب فيها الجاني معروف الشخصية، ولكن حتى صحف المعارضة التزمت بحكمة أن السكوت من ذهب“.
يفسر تعليق موسى صبري لماذا التزمت الصحافة الحزبية الصمت، وخففت فجأة من نبرتها السلبية في التعليقات على أغاني عدوية وما يقدمه، وإن ظلت أوهامها عن تمثيل عدوية لكل شرور مشاريع السادات السياسية والاجتماعية قائمة. حينما سمحت النيابة لعدوية بالسفر لتلقي العلاج في باريس نشرت صحيفة الأحرار بتاريخ 21-8-1989 الخبر بصيغة مدهشة؛ وهي أن عدوية حينما أفاق من الغيبوبة في باريس سأل زوجته عن موقفه في القضية فأخبرته بأن التحقيق حُفظ وأنه متهم بتعاطي المخدرات. ثم ختمت الصحيفة الخبر، الذي نُشر دون توقيع، بأن عدوية يملك شقة في باريس وناديًا ليليًّا يشاركه فيه الموسيقار حسن أبو السعود. حتى في مرضه تذكرنا الصحيفة المعارضة أن عدوية سافر على الرغم من أنه متهم، وأنه في باريس يمتلك بيتًا وعملاً.
احتاج الأمر لسنوات، حتى بداية الألفية، ليحصل عدوية على التقدير الذي يستحقه، ولكي تقبل إذاعة وقنوات الدولة بث أغانيه. لم يتأثر موقف الإذاعة والتليفزيون من عدوية حتى بعد الحادثة، ففي سبتمبر 1989 حينما عاد من رحلة العلاج في فرنسا إلى بيته في المعادي، أجرى التلفزيون المصري الرسمي–أصلاً لم يكن هناك غيره وقتها- معه حوارًا طويلاً بمقاييس ذلك العصر (نصف الساعة) لكن سميحة جبريل مديرة رقابة التلفزيون تدخلت لمنع إذاعة الحلقة، لأن عدوية ليس قدوة للشباب. وفي حوار محمد محمود ريان مع نوسة وعدوية لصحيفة الحياة في عدد 24-9-1989 ردت نوسة على سميحة قائلة “حزنت لرفض سميحة إذاعة الحلقة، وأنا أسألها “كيف عرفت إن أحمد ليس قدوة؟ هل لأنك لا تحبينه؟”.
قليل الأصل عمل فيَّ فصل جنني
تطلب الأمر من أحمد عدوية سنوات طويلة من العلاج الطبيعي لاستعادة قدرته على الحركة والتحكم في عضلات فكه. إنها رحلة شبيهة برحلة نجيب محفوظ لإعادة تعلم الكتابة بعد محاولة اغتياله. لم يكن نجيب وقتها حاقدًا على من حاول قتله في حواراته عن الحادثة، بل وصفه بالضحية، فقد كان محفوظ متفهمًا للصراع القائم، وأن محاولة اغتياله ليست إلا أثر جانبي لصراع سياسي وأيديولوجي قائم، كان هناك منطق فيما حدث لمحفوظ، أما مع عدوية فقد جعله غياب المنطق والدافع غاضبًا وعاجزًا عن فهم ما حصل. قضى عدوية شهورًا في شبه غيبوبة، يفيق للحظات ثم يغيب ثانية. في صحيفة الوفد عدد 16 -8-1989 روى ابن شقيقته الذي كان بصحبته في باريس أنه سأل عدوية في واحدة من إفاقاته “الراجل دا عمل فيك كده ليه؟ فأجابه الله يسامحه“.
بعد شهور في باريس للعلاج استعاد عدوية جزءًا من قدرته على الكلام، وعاد إلى منزله في المعادي، فسارعت نيابة المخدرات بالانتقال إلى منزله للتحقيق معه. عندها روى للنيابة أن الفتاة الكويتية هند عرضت عليه إحياء حفل لأحد الأثرياء العرب، بمناسبة شرائه شقة جديدة في مصر الجديدة، وصحبته إلى جناح الأمير للاتفاق معه، وهناك عزم عليه الأمير بكأس ويسكي فشربه، ثم لم يشعر بالدنيا من حوله وغاب عن الوعي.
أنكر عدوية دائمًا معرفته بالرجل قبل هذا اللقاء. وحينما اكتمل شفاؤه نسبيًّا، وكانوا يسألونه عن سبب ما جري، أحيانًا كان يصمت، لكنه ذات مرة انفعل على مدحت السباعي، الصحفي في روز اليوسف قائلاً “مش عارف.. والله العظيم مش عارف.. دا أنا نفسي تقبضوا عليه بس عشان يقرروه ويعرفو منه هو عمل معايا كده ليه.. دا أنا عمري ما أذيت حد ولا عمر كان فيه عداوة بيني وبين حد”.
نشر هذا الحوار في مجلة صباح الخير عدد 18-1-1990، وفيه واجه السباعي عدوية بالأسطورة التي كانت قد اكتسبت قوة الحقيقة في الشارع المصر حينما سأله:
“أصل فيه كلام بيقول إن المليونير العربي إياه كان على علاقة بواحدة ست من الموجودين، أو بالتحديد الست اللي دعتك للحفلة، وأنه لاحظ أثناء السهرة إن صديقته هذه معجبة بك جدًا، وأنها كانت تصفق وتهلل لك بشكل مبالغ فيه جعل جميع الحاضرين يتصورون إن هناك علاقة سابقة بينك وبينها، وهذا ما جعل المليونير يقرر الانتقام منك بهذه الصورة ليرد اعتباره أمام ضيوفه”.
أنكر عدوية بالطبع كل هذا. ووصف مثل ذلك الكلام بالظلم والافتراء، ثم انفعل على محاوره قائلاً “وبعدين لنفترض إن الراجل دا شاف إن الست بتاعته أظهرت إعجابها بيا بشكل ضايقه، مالي أنا بحاجة زي دي؟ ما يقوم بسلامته يلمها ويوقفها هي عند حدها، أو يلغي الحفلة خالص ويمشي كل الناس.. صدقني الحكاية دي متوضبة ومترتبة من الأول، ونية الغدر والأذية عندهم من ساعة ما بعتوا الست إياها تعزمني على الحفلة، وأكبر دليل على كده أنهم بعدما سموني وعملوا عملتهم كانت شنطهم جاهزة ومتوضبة قدام باب الأوضة، وطلعوا من الفندق على المطار طوالي.. يعني كانوا حاجزين تذاكر السفر ومرتبين لكل حاجة قبل حتى ما أروح لهم.. وبعدين دا اتضح كمان أنهم أخدوا فلوسي وساعتي وكل اللي كان في جيوبي عشان يبان إن القتل بقصد السرقة ويتبرأوا خالص من الجناية، لأن ماحدش حيقول إن المليونيرات الكبار دول قتلوا عدوية عشان يسرقوه“.
حديث عدوية عن السرقة أكده تقرير منشور في صحيفة الجمهورية بتاريخ 9-7-1989. نقل التقرير عن العقيد إبراهيم بكير رئيس وحدة المال، أنه عقد مواجهة بين الفتاة الكويتية هند رشيد ومحمد موافي سائق زوجة عدوية، الذي اعترف أنه استرد من الثري الكويتي مبلغ ألف دولار وخمسمئة فرنك وساعة ألماس وخاتم ألماس، كان الثري يحتفظ بهم بعد دخول عدوية في الغيبوبة، وأنه كان ينوي تسليمها لإدارة الفندق عند مغادرته خوفًا من أن يستولى عليها أحد، واعترف السائق بأنه سلَّم المبالغ والساعة والخاتم لزوجة عدوية.
التفت مدحت السباعي في الحوار ذاته إلى نوسة، وأعاد طرح السؤال عليها مرة أخرى”طب تفتكري إيه السبب وإيه الدافع اللي خلى الناس دول يحاولوا يقتلوا أحمد؟
-لأنهم جبارين مفترين.. مستقويين على الناس والدنيا بفلوسهم وجاههم ومناصبهم.. وبعدين ما تنساش إن دول مدمنين مخدرات وشمامين، والناس المستقويين النابهين اللي زى دول ممكن يعملوا أي حاجة من غير سبب لأنهم على طول مش في وعيهم ولأن كل حاجة عندهم بتهون حتى أرواح الناس“.
1990/1991
عاد عمي الذي كان يعيش في الكويت منذ سنوات طويلة بصحبة عائلته، يخيم الوجوم والغربة على وجوههم، شرح لي جدي، الذي كان يتابع أنباء وفيديوهات الحرب في نشرة التاسعة على القناة الأولى، أن عمي قد عاد بسبب الحرب، وأخبرتني جدتي أن البرد القارس هذا الشتاء والمطر الشديد سببه النفط الذي أحرقوه في الحرب. لم تثبت في ذاكرتي من صور حرب الخليج الأولى سوى فيديو قصير لنورس أبيض عالق على الشاطئ الذي غطاه البترول، وريشه مغطى بخام النفط، عاجزًا عن الطيران، يفتح منقاره ويخرج أصوات صراخ مؤلمة. حتى الآن حينما أسمع كلمة الحرب تكون هذه الصورة أول ما أراه في ذهني.
في هذا الفصل الدراسي أرسلوني إلى ما يعرف بـKG1، وكان هناك سائق تاكسي يقلني أنا ومجموعة من أطفال الجيران من وإلى المدرسة. في الصباح كان يشغل الراديو على إذاعة الشرق الأوسط، وعند العودة إلى المنزل كان يشغل أغنية “زحمة” لأحمد عدوية.
زحمة ولا عادش رحمة، لا في الشارع ولا في الحروب، فما بالنا بأغبى الحروب، أم المعارك كما أسماها صدام حسين وعاصفة الصحراء كما أسماها الأمريكان! لم يهرب عمي والمصريون والجاليات العربية من الحرب، بل شردت الحرب الكويتيين أنفسهم. في تعليق صحفي له قال عدوية عن الحرب “إنني مثل كل الشعب المصري متعاطف مع الكويت وشعبها وأطفالها الأبرياء“، كان عدوية لا يزال يتلقى العلاج بينما كان الأمير طلال آل صباح قد هرب من الكويت ويقيم بين مصر وسوريا وأحيانًا إنجلترا؛ حيث تعيش زوجته وأبناؤه.
انتهت الحرب وتحررت الكويت في 26 فبراير 1991، بينما الشيخ طلال آل صباح مقيمًا معظم الوقت في شقته التي استأجرها بمنشية البكري في مصر الجديدة. الشقة ذاتها التي كانت منذ عام سببًا في استدعائه أحمد عدوية ليغني احتفالاً بانتقاله إليها.حفظت النيابة جميع البلاغات التي تقدم بها عدوية ضد الشيخ متهمًا إياه بمحاولة اغتياله، وبالتالي كان الرجل يعيش في مصر فردًا من العائلة الحاكمة التي جاء الكثير من أفرادها إلى مصر في أثناء الغزو.
في بداية أبريل 1991، تلقى العقيد محمد محمد فرحات المفتش بمباحث المخدرات معلومات سرية بأن الشيخ طلال الصباح يتاجر في المخدرات، وأنه مؤخرًا جلب صفقة هيروين خام من سوريا، بمساعدة صديق سوري الجنسية. وسيقابل أحد الموزعين الذي عرض عليه شراء البضاعة، وفور إبلاغه بهذه المعلومات استأذن أحمد مصطفى رئيس النيابة لضبطه، وتم إعداد كمين متخفٍ له وبالفعل ألقوا القبض عليه بجوار محل “ومبي” للوجبات السريعة وبتفتيشه عثر بحوزته على 600 جرام هيروين، وبحوزة رفيقه السوري ثلاث لفافات تزن كل منها 50 جرامًا.
أعاد خبر القبض على الشيخ التذكير بحادثة عدوية، وبدا الأمر عدالة إلهية، أو ارتدادًا للكارما، وكما نعرف فـ “كارما إز بيتش“. لكن في أول تصريح لأحمد عدوية بعد القبض على طلال قال لصحيفة المساء في عدد 15-4-1991 “لم تكن جريمة طلال الصباح سببًا في أن تجعلني أحقد على الكويت أو الكويتيين ولا أشمت فيهم أثناء محنة الغزو العراقي لبلدهم، ونحن كمصريين شعب مسالم لا نحب الظلم، وقد عبر الرئيس مبارك عن مشاعر الشعب المصري في الوقوف إلى جانب العدل والحق حتى استرد الشعب الكويتي حريته وعاد إلى وطنه مرة أخرى وتحرر ترابه، وشعوري بعد العودة فخر واعتزاز، فالشعب والجيش المصري وقفا وساهما في تحرير الكويت. لقد كان ينتابني شعور أثناء الحرب أنني أحارب بجانبهم، لأنني عملت في الكويت ولا أنكر أن لي جمهورًا كبيرًا من الكويتيين يعشق فني ويحبني جدًا.. ولكن هذا لا يمنعني من أن أطالب بأن يأخذ المجرم عقابه كاملاً“.
لم يكتف عدوية بالتصريحات الصحفية، بل أرسل برقية إلى اللواء عبد الحليم موسى -وزير الداخلية آنذاك- ورجال مكافحة المخدرات هنأهم فيها على جهودهم، وطلب من الحكومة أن تقتص من المتهم، كما كلَّف محامية فاروق عبد الله بتقديم بلاغ جديد إلى النيابة.
صحيفة الوفد التي كانت تتسابق مع صحيفة المساء على تقديم أكثر تغطية موسعة لقضية الشيخ الكويتي، نشرت في عدد 15-4- 1991 صورة للمتهم الكويتي جالسًا أمام مدير النيابة في أثناء التحقيق معه، فسبحان مغير الأحوال! الشيخ الكويتي الذي لم يكن مسموحًا بذكر اسمه منذ بضعة أشهر، يُقبض عليه بكيلو مخدرات وينشر اسمه وصورته، بالتأكيد لعب غزو الكويت دورًا في تغير الميزان؛ فالشيخ أفصح في تحقيقات النيابة أنه لا يمتلك جواز سفر لأنه فقد أوراقه في أثناء غزو الكويت، وبالتالي فهو يتحرك بوثيقة سفر اضطرارية تفيد أنه من الأسرة المالكة الكويتية. علقت الوفد أيضًا أن المتهم في أثناء تحقيق النيابة معه أصيب بـ”رعشة وهياج وتشنج لعدم تناوله جرعة الهيروين في موعدها”.
كان الهيروين وحش ذاك الزمان، تغطية الصحافة لقضايا المخدرات تركز على انتشاره الكاسح في كل طبقات المجتمع وفي كل الفئات، خصصت سينما تلك الفترة عشرات الأفلام التي ركزت على خطورة الهيروين وإدمانه، كان هناك الكثير من قضايا “البودرة” تورط فيها نجوم من عالم الفن، ومشاهير المجتمع، وقد استخدمت قضية الشيخ للتأكيد على النهاية التي تنتظر من يسقط في عالم البودرة.
اعترف الأمير أمام النيابة بأن الهيروين ملكه ولا دخل لصديقه السوري في الأمر، وأنه جلب الهيروين معه من سوريا للاستخدام الشخصي، لأنه يتعاطى يوميًّا 50 جرام هيروين بما يوازى 15 ألف جنية، لكنه أكد أنه ليس مدمن وكشف عن ذراعيه ليريهم أنها لا تحمل آثارًا لأي حقن، وذلك لأنه يتناول الهيروين بطريقة مختلفة وهي “رقصة التنين” حيث يقوم بإحراق الهيروين في “منقد” داخل غرفة مغلقة ويستنشق الدخان، ولذا فهو ليس مدمنًا، بل كما قال يستحيل أن يكون مدمنًا، لأنه عقيد في الجيش الكويتي وشارك في الحرب ضد صدام، ثم هرب عن طريق السعودية إلى مصر.
لكننا لن نرى رواية الشيخ طلال الصباح لما حدث مع أحمد عدوية إلا في عدد 18-4-1991 لصحيفة المساء؛ وذلك حينما نجحت لمياء عبد الحميد في إجراء حوار معه وهو يرتدى البدلة البيضاء للمحبوسين احتياطيًّا. أكد الشيخ أنه برئ “من دم” أحمد عدوية، ونفى بشدة محاولة قتله، بل قال “إنني في منتهى الشوق لرؤية عدوية بعد العيد.. لأبرئ نفسي أمامه..وأهلاً وسهلاً بفتح باب التحقيق في هذه القضية مرة أخرى“.
حكى الأمير أنه كان يقيم في جناحه في الفندق حينما اتصلت به سيدة صديقة لعدوية، وطلبت منه زيارته في جناحه فوافق، وقال إنه حينما حضر عدوية وشاهده “كان خلصان..مسطول جدًا.. ومرهق، وتظهر عليه علامات تناول المخدرات بكميات كبيرة، وفجأة سقط على الأرض فأسرعت بطلب الطبيب“.
حينما أعادت النيابة فتح التحقيقات في بلاغ عدوية بمحاولة الشيخ الكويتي اغتياله، اختفت هند شهيد، وبالتالي كان لدينا رواية عدوية في مقابل رواية الأمير. وفي يوم 20-7-1991 نشرت صحيفة الجمهورية خبرًا صغيرًا عن قرار المستشار هاني خليل المحامي العام لنيابات وسط القاهرة بحفظ التحقيق مع ضابط شرطة السياحة الذي أهمل في التحفظ على الكويتي طلال ناصر الصباح المتهم بالشروع في قتل عدوية بالغرفة 750 بفندق ماريوت. وعلى الرغم من حفظ النيابة للتحقيقات فإن إدارة شئون الضباط بوزارة الداخلية حاكمته أمام مجلس تأديب قرر مجازاته بخصم يومين من راتبه ونقله إلى مديرية أمن المنيا.
بهذا انتهت رسميًّا أمام القضاء المصري قضية أحمد عدوية. حُكم على الشيخ بالسجن في قضية المخدرات، وقضى في السجون المصرية سبع سنوات قبل أن يتم ترحيله إلى الكويت بناءً على وساطة من شخصيات من العائلة المالكة في الكويت.
على عكس مووايل عدوية التي تتحدث عن خلل في ميزان الدنيا اللي بتذل الأصيل وبترفع الخسيس، فقد تحقق لعدوية في النهاية إحساس الانتصار وتحقق العدالة. ففي عام 2006 ألقت شرطة الكويت القبض على الأمير ووجهت له تهم متعددة؛ منها الاتجار في المخدرات على نطاق واسع وتشكيل عصابي، وحيازة أسلحة، وحيازة مخدرات، وغسيل أموال إلى آخر القائمة، وتمت إدانته وحكم عليه عام 2007 بالإعدام شنقًا، وفي 2008 تم تأكيد الحكم ضده، ولكنه قدم التماسًا من أمير البلاد بالعفو عنه. لكن لم يُرد على التماسه حتى توفي عام 2014 في السجن المركزي بالكويت.