“هل تعرفني؟!”..
سألني يوسف درويش فجأةً.. كنتُ أجلسُ بالقرب منه على كرسي بلاستيك أبيض، في صالة الشقة رقم 44 بالعمارة رقم 5 بشارع يوسف الجندي؛ في باب اللوق.. حيث كان يعيش لمدة خمسين سنة.. والكرسي الأبيض هو أحدث شيء أضيف إلى موديل الأثاث؛ الذي بدا لي أنه اختير منذ ثلاثين عامًا مثلاً ليناسب ذوق أصحاب البيت الأنيق والبسيط بلا فخامة مزعجة.. لم ينتظر إجابتي.. أكمل معي الحوار، وعندما تكلمت توقَّف عند إشارات ذكرتها له من معلومات سابقة عن حياته.. فقال بدهشة اجتهد في أن يخفيها “أنتَ تعرفني إذن”.
في المرات التالية، سألني السؤال نفسه، وأجاب على طريقته “أنا سألت نفسي لماذا فجأة صارت الناس تهتم بي، وعثرتُ على إجابة.. الحقيقة أنهم يقولون إن هذا رجل عمره ٩٥ سنة.. ولهذا تأتون وتستمعون إليَّ.. وتسألونني عن رأيي وملاحظاتي.. وتعرفوا حكايات عن تاريخي” وابتسم أكثر “وأنا فعلاً رجل مروَّح”.
يوم الأحد 5 أكتوبر 2005..الساعة السادسة احتفل يوسف درويش بعيد ميلاده.. وصلت متأخرًا كالعادة.. وبعد أقل من خمس دقائق التقطت صوت رنَّة موبايل، بحثت عن صاحبه.. لم يهتم أحد سوى يوسف درويش.. يده تحاول العثور على الشيء الصغير.. حاول أن يرد، ثم طلب مساعدة حفيدته بسمة.. وظل مرتبكًا حتى وصله صوت الطرف الثاني.. الموبايل هدية بسمة.. وعلى الطرف الثاني جويل؛ حفيدته من ابنه مجاهد؛ مهندس الإلكترونيات الدقيقة الذي يدير 5 مصانع في شركة سواتش السويسرية الشهيرة، وفي الوقت نفسه عضو أكاديمية العلوم هناك، وبعد دقائق اتصل سامي؛ الحفيد الثاني(من الفرع السويسري).. نولة ابنة يوسف درويش علقت بجمل قصيرة توازت مع مشاغبات بسمة.
كنت أقفُ على الباب المؤدي إلى غرفة المكتب، واكتشفت أن هذه هي المرة الأولى التي أتامل فيها يوسف درويش بعيدا عن مقعده.. وأنني الآن في قلب عائلة يوسف درويش.
مجاهد ابنه من زوجته الأولى.. يحكي عنه بفخر شديد “وُلد سنة ١٩٤٢.. في مستشفى في شارع فيني على يد طبيب شهير وقتها اسمه إبراهيم باشا.. خرجتُ من المستشفى منتعشًا جدًا.. قابلت سعيد خيَّال المحامي المعروف، فسألني عن سر سعادتي، أخبرته فقال لي سمِّه مجاهد لأنك أنت مجاهد فعلاً”..
نولة؛ لم تكن تسميتها بعيدة عن مزاج الحياة المختلفة للأب؛ ولدت وهو في السجن ١٩٤٩.. من زوجته إقبال حاسين، ذات الأصول المغربية، والتي عاشت معه أكثر من ٥٠ عامًا.. صورها في أماكن كثيرة على الحوائط، أو بجوار مقعده الدائم.. وهو يتحدث عنها بصيغة تبجيل “كانت رائعة جدًا”.
في الزيارة رأى يوسف درويش طفلته.. وعرف أن اسمها جاء نتيجة مصادفة عجيبة؛ فالأم لا تجيد العربية، وبحثت في القاموس الفرنسي عن معنى كلمة هدية.. ووجدت في الشرح أنها “نولة”.. وكانت هي هدية يوسف لإقبال. يخلط يوسف بين بسمة ونولة؛ يقول لي “نولة كانت في التليفزيون” وهو يقصد حوارًا تليفزيونيًّا مع بسمة.. وينادي على نولة أحيانا باسم شقيقته “نيللي” المهاجرة في آمريكا…هي أخطاء تعبِّر عن محبة ممتدة من الأخت إلى الحفيدة ؛وتتركز على البنت التي ما يزال الأب يتحدث عنها بفخر وانحياز ، لا يعلنه أمامها.