4-جُهار
لم يكن عدوية وحيدًا، ولم تكن مبيعات ألبوماته هي ما دعم بقاءه على الساحة. بل رأى السادات وفريقه في عدوية وسيلة لاستفزاز المثقفين “والأفندية” ففي الحفلات العائلية لأسرة الرئيس المؤمن كان عدوية ضيفًا دائمًا، غنى في عيد ميلاد أخت السادات، وغنى في أعياد أبناء الرئيس شخصيًّا. حين حاور أيمن الحكيم عدوية مسجلاً ما يشبه المذكرات، واجهه بهجوم وانتقادات المثقفين وهو ما اعتبره عدوية إهانة ليس له فقط، بل للشعب المصري وذوقه. دافعًا تهمة انحطاط الذوق عنه قال عدوية لأيمن “هل الرئيس السادات كان ذوقه هابط لما اختارني أنا بالذات علشان أغني في فرح بنت أخته في ميت أبو الكوم.. وغنيت قدامه أكثر من مرة وكان في غاية الإعجاب بي وبأغنياتي.. دا اتهام سخيف”.
لم يرفض كتاب اليسار والمدافعين عن مشروع دولة يوليو الغناء الشعبي، لكنهم رفضوا عدوية تحديدًا، متمسكين بصوت آخر هو محمد رشدي معبرًا حقيقيًّا عن الغناء الشعبي. تحول الأمر إلى معركة سياسية ظاهرها خلاف فني.فقد هاجم أنيس منصور محمد رشدي أكثر من مرة، وكتب عن أول مرة قابله “لم يعجبني شكله، ولا ابتسامته البلهاء، ولا كرافتته ولا الأغنية التي اشتهر بها (تحت الشجر يا وهيبة ياما أكلنا برتقال) لأن البرتقال الذي يُأكل تحت الشجر لا بد أن يكون مسروقاً“.
الأمر الذي دفع بكاتب آخر من كتيبة يسار رشدي هو صلاح حافظ أن يرد على أنيس قائلاً “كنت أتمنى أن أتابع لسان أنيس الساخر وهو يلدغ الذين يستحقون اللدغ، وكنت أتمنى قبل أن تسوءه الدعاية المجانية لمحمد رشدي أن تسوءه الدعاية المدفوعة الثمن لبعض ملوك البورصة الفنية، فقد يكون هؤلاء الملوك وجهاء وابتسامتهم ذكية وكرفتاتهم تلائم البدلة، ولكن أنيس يعلم أنهم يسبحون في محيط الفن بوسائل غير فنية، وأنهم أدخلوا إلى حياتنا الفنية عقلية وكالة البلح ونزلوا بالإنتاج الفني إلى سوق التوفيقية واشتروا وباعوا وسرقوا واحتكروا، وكان أول ما احتكروه وأهم ما احتكروه هو الدعاية لأنفسهم“. بالطبع كان حافظ يقصد أحمد عدوية.
تجاهل أنيس منصور الرد على صلاح حافظ، لكن واظب على مديح أحمد عدوية الذي وصفه بالأعجوبة بين المطربين. أما سبب هذا الإعجاب فيفسره أنيس منصور قائلاً “أحمد عدوية له صوت قوي رغم أنه لا يرعاه رعاية كاملة، فهو يغني في الكباريهات حيث الجو ملوث بالدخان، ثم يخرج من الكباريه إلى الهواء البارد ليدخل كباريه آخر، ومن حار إلى بارد إلى حار إلى بارد، ومع ذلك فصوته قوى لم يتأثر بشيء“.
يا له من سبب فريد من نوعه للإعجاب بعدوية، لكنه يتناسب مع فيلسوف الوجودية المصري ورسول الكائنات الفضائية التي هبطت من السماء!
لكن الاعتراض لم يكن قط على صوت عدوية، فباستثناء تعليق مصطفى محمود الذي وصف صوت عدوية بأنه صوت فحيح دكر البط، فكل التعليقات التي هاجمت عدوية لم تتناول صوته أو قدرته على الغناء. بل أشد منتقديه أعربوا عن تقديرهم لصوته، لكن الاعتراض كان دائمًا ما يطول أغانيه والكلام الذي يغنيه. لذا فحينما تم اعتماد صوت عدوية للغناء في الإذاعة المصرية عام 1977 برر رئيس لجنة الاستماع منير الوسيمي قراره بأنه اعتمد أحمد كصوت أما الكلمات التي يغنيها فهي مسؤولية لجنة النصوص. لكن حتى بعد اعتماده كمغن في الإذاعة لم تذع الإذاعة أغانيه. في حوار لعدوية مع مفيد فوزي قال “ماحبتش أغني الكلام اللي بيعرضوه عليَّ في الإذاعة.كلام تقليدي جدًا وكله عن الحب والهجر.. كلام ميعجبنيش. أنا بغني اللي بحبه واللي بختاره”.
لكن هل كان الكلام الذي يُعرض على عدوية للغناء في الإذاعة عن الحب والهجر فقط؟ لماذا مثلاً لم يغن أغاني وطنية وقد كانت وسيلة مضمونة بالتأكيد للوصول إلى الإذاعة؟ والسؤال الأهم كيف يعاصر فنان شعبي مرارة الهزيمة، وأفراح النصر، ثم زهور ورخاء السلام، ثم اغتيال الرئيس وصعود رئيس جديد يحرر سيناء مرة أخرى دون أن يغني عدوية احتفالاً بأي حدث من تلك الأحداث الوطنية الشعبية؟ لا أجد تفسيرًا، وقد تهرَّب عدوية دائمًا من إجابة هذا السؤال أو رد مؤولاً بعض أغانيه بصفتها أغان وطنية، فأم حسن هي مصر، ولذا غنى لها “سلامتها أم حسن.. من العين والحسد”. أو يصر على تفسير أغنية “سيب وأنا أسيب” بأنها أغنية عن مفاوضات السلام مع إسرائيل، وهو الأمر الذي إن صح سيحول الأغنية التي كتبها مأمون الشناوي لغزًا سورياليًّا:
“علمته التُقل لكن
سبقني بمية سنة
ودا عز علينا بحره
وسقانا من الهنا
دا الحب دنيا حلوة
ما هو كورة مدورة (!)
بتلف علينا لفة ما هي دنيا صغيرة
دا القرب نصيب
والبعد نصيب
والأمر خطير..
وتقول لي سيب/ طيب سيب وأنا أسيب“
يسأله مفيد فوزي في الحوار ذاته، لماذا إذًا يصر على غناء كلمات جنسية وأشياء غريبة. بحدة يرد عدوية “ليست غريبة لكن تعبر عن الحاجات اللي كلنا بنعيشها”.
أنا شخصيًّا عجزت عن فهم اتهام أغاني أحمد عدوية بأنها أغاني جنسية، لكن مثلما علمنا فرويد فكل شيء في الحياة يمكن أن يكون عن الجنس.
في الأول من ديسمبر عام 1985 تحولت التأويلات إلى وقائع مثبتة بأمر القانون؛ تلقى عدوية طلبًا بالحضور لمباحث الآداب للتحقيق معه. ذهب لأنه كما قال ظن أنهم يريدونه الغناء في فرح لهم، لكن دون تحذير تم إلقاء القبض عليه واحتجازه، حيث بات عدوية في قسم الشرطة، وأحيل في صباح اليوم التالي إلى نيابة بولاق الدكرور بتهمة خدش الحياء العام والجهر بكلام خارج.

اهتم محرر الجمهورية بمعرفة المحامين والإشارة إلى أن أحدهم، أرسلته “الراقصة سحر حمدى مجاملة مع المطرب. في إشارة واضحة لطبيعة الجمهور ومن يقفون مع عدوية. عدد 4-12-1985 جريدة الجمهورية
شريفة فاضل التي غنت قبل ذلك “طبعًا ما أنا أم البطل” ذهبت إلى النيابة بصحبة 7 محامين. بعد ساعات أمرت النيابة بالإفراج عنه بكفالة قدرها 500 جنيه. وأصرت شريفة فاضل بعد الإفراج عن عدوية أن يحي فقرته المعتادة في الكباريه في الثالثة ونصف صباحًا من الليلة ذاتها.
العلاقة بين شريفة وعدوية أقدم علاقة فنية وإنسانية حافظ عليها عدوية دائمًا. تروي شريفة فاضل أنها التقت أحمد عدوية لأول مرة في لبنان بعد هزيمة 1967، وكان يعمل “مزهرجي” مع راقصة مصرية هناك، وعلى ما يبدو لم يكن وضعه مريحًا، ولم يكن يملك المال للعودة، وطلب منها أن تشتري له تذكرة ليعود إلى مصر. وهو ما فعلته شريفة فصحبته معها حينما عادت إلى القاهرة. وكانت هي من قدمه لأمين سامي مدير ملهى الأريزونا ليغني هناك للمرة الأولي. بعد ذلك حين فتحت شريفة كباريه “الليل” كان لعدوية فقرة ثابتة هناك.
تجاوزت العلاقة بين الاثنين العمل الفني، وامتلأت دائمًا بمواقف الجدعنة من الطرفين؛ بعد انتفاضة 18 و19 يناير سنة 1977 تعرض كباريه الليل للتدمير والحرق مثلما طالت أعمال الشغب والتخريب معظم كباريهات شارع الهرم، لكن أحمد عدوية رفض السفر للغناء في لندن، وقرر البقاء مع شريفة فاضل والمساعدة في إعادة ترميم المكان أو على حد تعبير محرر مجلة الموعد “ليساهم في بعث الحياة الفنية من جديد”.

لاحظ في نهاية الخبر يشير المحرر إلى إن أحمد عدوية يبحث مع شريفة فاضل موضوع “النقطة” التي يقدمها الجمهور لهما على المسرح، ويبحثان تنظيمها بطريقة لا تثير الانتقادات” في إشارة إلى سعيهم لتفهم الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي أدت إلى 18 و 19 يناير. مجلة الموعد عدد 3-2-1977