1
انتهى فيلم “ورد مسموم” فجأة! ربما لأن المخرج شعر بالضجر. أو انتهت طاقته. أو أن فريق العمل اكتفى من الغطس خلف ما لا يدرك تمامًا. وهناك احتمال رابع؛ وهو أن قانون التكثيف استسلم لهذه الوقفة الخاطفة الغامضة، وكأنها علامة، أو نداء يصدر من فجوة، فلا يسمعه سوى المتورطون في صناعة هذا الفيلم.
2
هناك نوع من هذا النداء يأتي غامضًا؛ كالقدر السعيد، أو بعد عناد مع “قدرات” أو “الجدل الداخلي” بين فريق العمل وبين نفسه، أو في الشوارع والغرف حيث يتناقشون ماذا فعلنا؟ ما العمل؟ لماذا نصنع سينما؟ هل ما نصنعه سينما؟ أسئلة تنفي اليقين والجاهز والحتمي لصالح ذبذبات شخصية، تجرب نفسها خارج دائرة انتظار الحكاية أو الفيلم على طريقة نحبها، وربما تذهب إلى مناطق جديدة. أو لا تذهب.. لا شيء مؤكد، ولا نتيجة مضمونة. إنها رغبة في التفكيك واكتشاف طاقات جديدة في السينما عبر التلقائية والحدس. وهذه طريقة يمكن أن نستعير لها من المسرح تسمية “الكتابة على الخشبة” أو “كتابة على الركح” -كما تسمى في المسرح التونسي) -. النص هنا لا ينتهي على الورق، تظل طزاجته محل اختبار، وتضاف إليها الإبداعات التلقائية، والحوارات المستمرة بين الفكرة والواقع. بين النظرية واللقاء المتوحش مع الشارع. والإنصات لهذا الصوت فن مستقل عن البراعة في الصنعة أو الخبرة مع التقنية أو حتى عن برهان الموهبة الحارق. صوت يبدأ مشوشًا بكل فيض النقاش حول جماليات السينما، وتشوش يأتي من الكتب والمشاهدات والادعاءات التي تكبر داخل صانع السينما عن دوره وفعاليته وقدراته، وفي تجارب قليلة قد ينتهي كل هذا بمحاولة ناجحة للحفر في المجال الذي يبدو أنه انتهى داخل علب الجماليات المحفوظة.
3
يكبر هذا الصوت/النداء مع كل خيبة أو فشل، لكن عند القليلين تنمو أدوات من مزيج الفشل والاكتشاف، لا ينتبه إليها الباحث عن إنجاز. لكن أحمد فوزي صالح في فيلمه الأول تمسك بحماقاته وظل هو وشركاء التجربة يلهثون وراء فيلم في خيالهم، تتصارع معه عادات المشاهدة وتصنيفاتها (جمهور ومثقفين/ تجاري ومهرجانات/غامض وتافه/ابن الغرفة الضيفة أو ابن تيار السينما البديلة). وإذا لم يكن تعبير الغرفة الضيقة مفهومًا، فهو يعني أن الفيلم ابن سرد وقلق فرد واحد، قد يتواصل أوسع من الغرفة، وقد ينتهي على بابها. الرهان هنا على “طاقة غامضة” تجعل قلق الغرفة سينما (دون مرجعيات) أو نتاج هروب متواصل من الصيغ الجاهزة والقوالب (الاستمبه) حتى تلك التي ينتمي إليها الشخص. وكما حدث مع قصيدة النثر يمكن لسينما من هذا النوع أن يستفز أعداءً من كل الأطراف؛ الكلاسيكي والمنفتح والطليعي… ويمكنه أيضًا أن يكون مغناطيسًا للهراء النرجسي. كل تصنيف له تاريخ، وديناميك للحضور، وهيراركية اعتادت أن تتلقي فنًّا يعيش بيننا منذ أكثر من مئة عام. وبدأ مع الإبهار وعبر إلى مراحل يبني فيها مسارًا للتسلية والحكاية والحكمة وتجارب التطهر والطمأنينة. وفي هذه المسارات العمومية تراكمت تجارب فتحت أمام السينما أبوابًا واسعة؛ تحررت عبرها من الانتظار والقواعد والأحكام المعتمدة على المقاييس العامة. هذه الأبواب يمكنها أن تجعل للفيلم أسلوبًا خاصًا يزعج المتحمسون لما يتخيلونه “سينما راقية”، ويطرح أسئلة على الفن وإمكاناته التي لم تعد رهن التقنية أو الصنعة ولا حتى الحبكة سابقة التجهيز. هذه أبواب اللا طمأنينة“.
4
“صُنع بالتورط..”
إن أردت الخوض بعيدًا عن الطمأنينة المعتادة في السينما، فلن تتم المشاهدة إلا بالتورط. ليس لأنه تحفة التحف السينمائية. ولا لأنه “أعجوبة الأفلام الحديثة”، ولكن لارتباكه أمام الكتل الكبيرة: السوق والفن.. ومحاولته لأن يصنع فيلمًا يخصه دون خجل من الارتباك ولا ثقة في غير الحدس الذي يجعله يختار دون أية ضمانات نجاح. بل إنه ينجح حين يدرك أن رحلته في الفيلم انتهت هنا. وأن عليه التخلص منه. الرحلة هنا أهم من الفيلم نفسه غالبًا. تغادر كل شيء؛ منطقة أمانك الشخصي (مكانك الأول بورسعيد وصراعاتك معها) وتنقل الصراع إلى منطقة أخرى في المدينة القديمة (مصر عتيقة…كما يسمها القاهريون). كيف تنقل جروحك السرية دون تحويلها إلى استعراض عاهات وحفر اجتماعية. كيف تهرب من جماليات وضعتها في مصاف التقديس. كيف ترتحل وتتحد في الوقت نفسه. كيف تغوص وأنت تتعلم الطفو؟ وأخيرًا: كيف تهرب من سؤال عنيف مثل: “وكيف تساهم السينما في تغيير أوضاع الناس؟“.
5
“ورد مسموم” فيلم مقلق. من السهل أن تعلن رأيك فيه قبل أن تصدمك النهاية؛ وهذا قلق لم يسلم منه صُنَّاعه. بداية من المخرج- أحمد فوزي صالح- مرورًا بفرق الإنتاج المتغيرة وطبعا بالممثلين، وطبعًا بمدير التصوير -ماجد نادر- أكثر شركاء المخرج تورطًا في “اللعب الخطر” لاكتشاف ماذا تعني السينما.. الفيلم ابن القلق؛ لا يفترق خطوة عن الأسئلة المربكة، ولا يمكن مشاهدته خارج التململ من الجلوس طويلًا داخل التعريفات الكبيرة والراسخة للسينما.
6
لم يكتب “ورد مسموم” مرة واحدة. ليس من قبيل تجويد العمل الروائي الأول لمخرجه ولأغلب فريقه، ولكن تعدد الكتابة نوع من التورط فيما تعنيه السينما بعد أكثر من مئة عام.. أهو الخيال الصرف أم الحرفة أم الحكاية أم السرد أم اللغة؟ إنه حوار عنيف مع التراكم الذي تعانقت فيه السينما مع نتاجها الضخم والمؤثر، ومع توقعاتها جماهيرها الواسعة، وما يرتبط بهذا العناق العميق من شبكة واسعة من فنون وأفكار وتقنيات ووعي يمكنك أن تتركه في غرفتك وأنت تقدم فيلمك الأول، لتعود إليه مستمتعًا بالخيبات، أو لتكسب جمهورًا يحب الإعادة والهدهدة، أو مهتمين بفيض العشق المتيم للأفلام الكبيرة أو المتوسطة، ويجعلون من المديح لهذه الروائع فنًّا ونظرية ومسطرة لقياس الجمال النائم في الوعي والذاكرة.
7
هذه سينما لا تسقط من خبرة متينة مقدسة. وتبحث عن جمهور من النوعية نفسها. لها مرجعيات وأيقونات وإطارات للحركة، لكنها تتفاعل معها، لهذا كانت كتابة الفيلم تتم مع التصوير؛ المخرج وفريقه الأساسي يشاهدون ويلقون ما صوروه في ذاكرة لن ترى. هذا ما تتيحه تقنيات الديجيتال بحرية أكثر من الـ35 مللي. وكمسرحي يكتب على الخشبة لا يسقط النص من مؤلف إله، ولا يقوده مخرج إله، لكنه نص يتشكل بالتفاعل والتجربة والحدس المطعم بالوعي القلق.
8
كل شيء مشبع في المدابغ. أنت هناك في عالم الموت والكيمياء. ترى كيف تحيل الكيمياء الجلد الحي إلى الميت ليكون متعة للناظرين. وفي هذه الرحلة تنمو أجساد مشبعة كأنها ستمطر عليك حكايات وحكمة وهذيان وغرائز.. لذلك فهي تحتاج منك، لا محالة، إلى قليل أو كثير من التورط الذي احدثك عنه من بداية هذا النص.
9
كيف سنرى عالم تحية؟ هل سنسلمها إلى المآسي المصورة كما تقدمها السينما التجارية، بدموعها وميلودراميتها التي تدغدغ المشاعر المرهفة، ونعود بعد حفلة التطهر إلى نوم مريح؟ أم سنجعل منها أيقونة العذاب الجميل، الوحيدة الممزقة بين مشاعر فقدان الأب والعالم الخرافي للساحر الذكر المرح الخفيف، وبينهما الذكر المأزوم كما تقول كتب الثقافة، المتأرجح بين كتب مرصوصة وأبراج تأكل الروح والجسد. يحلم بالهروب والهجرة كالطيور، وتعيده أخته؛ ساحرته الشخصية بحذاء جميل لا يلمس الأرض اللزجة، لكنه يمنح الذكر الشارد بديلًا لأجنحة الهروب، على الأرض، يحميه بالكيس البلاستيك، لكنه يشعره بالفخر والتميز مثل ريش طاووس صناعي..
10
الفيلم عن عالمها الصامت، أو الذي لا يكاد تسمع. ليس هناك قصة بمعناها اللذيذ المُسلي؛ ولا حبكة تضم الحياة بين جناحيها. قصتها تقريبًا تكثيف لمشاعر؛ نوع من التقطير؛ كأنها بخار على شاشة. بخار يأتي من أعماق غائرة، وغليانه أسطوري. هل يمكن أن تصنع فيلمًا عن تلك الأحزان المكثفة دون قصص تخطف الدموع والتصفيق والتعاطف؟ هل يُصنع من البخار سينما؟
11
يبدأ الفيلم بمشوار تحية اليومي؛ بالسير في نهر المدابغ؛ بالماء الملوث بالألوان وبقايا الحيوانات المذبوحة. مسارها يتوازى ويدور مع مسار شارع الماء، كما يطلقون عليه في حي المدابغ الذي اختفى الآن. هناك حيث تُصنَع المتعة من الموت، وتخلق القطع الجلدية الأنيقة من جثة حيوان وأجزاء من “الجلد الحي” لسكان المدابغ. كل شيء واقعي وميتافيزيقي/ صناعي وفانتازي. الواقع في الفيلم ليس مادة خام للسرد، لكنه مادة وعي جمالي: ألوان، وتفاصيل، وشخصيات، وعلاقات، وحساسية للعالم يمكنها أن تبني قطعة سينمائية لا تقدم الواقع لكنها مصنوعة من الواقع. والمكان مع واقعيته المفرطة إلا أنه يتوحش ويلتهم الفيلم ليصير الفيلم في النهاية جزءًا من الواقع. لم تعتمد السينوجرافيا على إعادة تمثيل الواقع ببناء مكان داخل استوديو، لكنها مع ذلك قامت ببناء مكان (حجرة تحية وصقر والأم) ليكون مكانًا سينمائيًّا داخل الواقع نفسه.
12
لم توحِ لنا تحية وهي تصعد برج المدبغة بالصعود إلى قمة حسيَّة. لكنها كانت تطارد القرب من أخيها. في علاقة متعددة الاحتمالات؛ ربما تريده ذكرًا للعائلة؛ أو بديلًا للأب، أو حبيبًا في علاقة محرمة. لكنه الذكر، المُطارد بالخرافة (نصائح الحاوي) و(الحاجات) الطعام والملابس حتى يظل فراقه عن عالم المدابغ ناقصًا. غادر صقر هذا العالم نفسيًّا وروحيًّا عبر الثقافة والكتب، ولم يثر مخاوف تحية سوى هجرته عبر الحب (الحبيبة التي لم نرها) أو السفر في السفن الخطرة، أرادته أن يعود إلى حيزها، ولو ميتًا. تبحث تحية عن الاكتمال عند صقر؛ بالمعني الغريزي لا الجنسي (لم نرَ مشهدًا جنسيًّا واحدًا بين صقر وتحية)؛ مع أن كل اللقاءات بينهما حسيَّة (أكل.. ملابس.. حمام.. تلامس).. حياة حسيَّة لا تخفى خشونتها ولا توحشها ولا وقوفها عند حدود التوتر. كانت تحية تريد عودة الذكر، من أجل الاكتمال “الغريزي” لا العائلي.. وبين الغريزة والعائلة يمكننا أن نرى الورد المسموم أقرب إلى “وشم” التشبع.
13
اختار الفيلم أن يكون السرد حول المُقيمة (تحية)، لا المغادر/المهاجر /النافر (صقر)، وعلى عكس الرواية التي بدأت منها النسخ الأولى من السيناريو (ورود سامة لصقر لأحمد زغلول الشيطي، دار ميريت، 1990)، لم يكن موت صقر مركز السرد تراجيديًّا؛ فالمكان في الرواية (دمياط) ميناء مفتوح على السفر، بينما الأشخاص المشبعون في المدابغ لا تستقر إلا باندماج الأحباب، ولو كان ذلك مثل إلقاء القراميط في بحيرة عين الصيرة المشبعة بالكبريت والفرجة باستمتاع على حياتها الجنسية التي لا تتم أبدًا.
14
هل كان من الممكن أن نسمع موسيقى في هذا الفيلم؟ لم يرد الفيلم شرحًا، بل أراد حفرًا في المشاعر، لهذا كان الصوت شريكًا داخليًّا، في إطار جماليات تعتمد التقشف لا الإبهار، كما يحدث عندما تبرع راقصة في مساحة نصف المتر، لتحمل كل حركة وهمسة من جسدها جزءًا من الأثر الذي تتركه تحية وعالمها. المُشاهد ليس أمام حكاية تحية التي تحتاج إلى مؤثرات من الخارج لحكيها، لكنه أمام تحية ذاتها، وهذا ما كان صعبًا على كوكي/ ميريهان مجدي، التي اضطرت غالبًا إلى التخلي عن حِليات التمثيل المبهرة، واستدعت قدرات خفية في جسدها الذي تغطيه الملابس من الرأس إلى الكعب، وبكلمات مقتضبة، لتمنحنا نحن المشاهدين طرفًا من “تحية“.
15
تشبه تحية في الحياة ألافًا غيرها. لكن تحية في الفيلم ليس لها شبيهات. وهذا ما تفعله سينما لا تريد أن تبهرك بالغريب والعجيب وتصنع من العادي قطعة خشنة، تظل معك بعد أن تغادر ولو كرهتها. فالتصوير لم يعتمد على الزوايا الهندسية المجربة والشطارة المتوقعة لتوزيع الإضاءة. التصوير تم بملاحقة ما لا يمكن السيطرة عليه؛ الناس والطبيعة. وأدخلت الخشونة المشاهد إلى أجواء الفيلم دون استئذان. افتح قلبك لترى حكاية تحية؛ فهي لن تستدر عطفك لكنها عبر لقطات وزوايا ابنة اللحظة، ستترك أثرًا للحزن الكامن هنا دون ابتذال التعاطف.. ستفترسك هذه الشحنة، وربما تتململ في مقعدك طلبًا للهروب.. أو انحيازًا لما تحب من منتوجات السينما المتنوعة. أو لأن محمود حميدة خذلك ولم يحتل الشاشة بطلاً أوحد لأنه لم يقدم لك شفرة تفهم بها الدور الصغير الذي لعبه. إنها غوايته في الرحلة والاكتشاف بعد النجاح. فعلها من قبل أكثر من مرة؛ أشهرها حين ظهر في “جنة الشياطين” (المؤلف مصطفى ذكري والمخرج أسامة فوزي، إنتاج 2000) ميتًا طول الفيلم يلف به صعاليك المدينة بين دروب الليل السرية.. وكان محمود حميدة هو المنتج، كما تكرر مع ورد مسموم.. إنها نزوات الغاوي المثيرة للتأمل!