على مدار قرن، وأكثر، كانت السينما أكثر الفنون انتشارًا وشعبية، وتحوَّلت، خلال هذا القرن إلى الفن الشعبي، الفولكلوري، الأول، بعد تراجع أشكال الفلكلور القديم من حكي وخيال ظل وخلافه. حافظت السينما، كفرجة شعبية جماعية، على مكانتها في مواجهة منافسين عتاة مثل التليفزيون والفيديو، وحتى سنوات قليلة مضت لم يكن يتصور أحد أن تصبح مهددة بالهبوط من عرشها لصالح وسائط أخرى.. لكن جاءت قنوات الأفلام المدفوعة مثل “شوتايم”، وأعقبها هجوم منصات العرض على الإنترنت مثل نتفليكس، مصحوبًا بالتطور المتصاعد في جودة شاشات المنازل، وميل الناس المتزايد للعزلة الجسدية والاكتفاء بالتواصل الاجتماعي الافتراضي، ثم هجمت علينا الكورونا فوجدت الساحة مهيأة لمزيد من العزلة ومقاطعة الذهاب إلى دور العرض السينمائي قسرًا أو طوعًا!
شهور طويلة من البيات الشتوي والربيعي والصيفي قضاها العالم مختبئا من الفيروس القاتل، أدرك خلالها نعمة التقارب الاجتماعي، ونعمة التجمع داخل دور العرض، ومناقشة الأفلام معا، وهو الطقس الذي يتجلى كأفضل ما يكون خلال المهرجانات السينمائية.
من هنا جاء إعلان مهرجان الجونة السينمائي عن انعقاده نوعا من التحدي لحالة الحصار المحلية والدولية، غير أن المهرجان اضطر إلى تعديل موعده وتحريكه من سبتمبر إلى نهاية أكتوبر تكيفًا مع الظروف، وبالفعل انعقد خلال الفترة من 23 إلى 31 أكتوبر، ليصبح أول مهرجان سينمائي ينعقد في مصر منذ قرار رئيس الوزراء بإيقاف النشاطات والفعاليات الثقافية التي تضم تجمعات في منتصف مارس 2020.
قلق مشوب بالفرح، أو فرح مشوب بالقلق. هكذا كان شعور معظم الذين ذهبوا إلى منتجع الجونة لحضور فعاليات المهرجان في دورته الرابعة. فرح، ليس فقط بالعودة إلى مشاهدة الأفلام في دور العرض، أو بأنهم سيشاهدون أفلامًا حديثة حصدت بعضها جوائز قيمة قبل مجيئها للجونة، ولكن فرح بكسر العزلة والتباعد الاجتماعي، ولقاء الأصدقاء والزملاء، والأكثر من ذلك العودة إلى ممارسة طقس السينما الجماعية مرة أخرى.
في المطار، التاسعة صباحًا، لم يشبع الكثيرون من النوم، وبعضهم لم ينم قط كي لا تفوته الطائرة، من خلف العيون الناعسة يطل ترقب غير معتاد، كإحساس السفر للمرة الأولى. لقاء الأصدقاء يبدد القلق، لكنه يثير قلقًا آخر: هل نتبادل العناق؟ السلام بالأيدي فقط، أم الاكتفاء بالتحية من بعيد.
مع بداية الوصول إلى مقر حفل الافتتاح بدأ الوضع أفضل. ها هي الفساتين المكشوفة تتبختر فوق السجادة الحمراء، والمصورون يتهافتون ويهتفون للنجمات والنجوم. يبدو أن الأمور رجعت لطبيعتها وكأن كورونا لم تكن. الإجراءات الاحترازية مشددة على الأبواب، لكن في الداخل، الكثيرون يخلعون القناع الواقي، يشربون ويأكلون ويتحدثون في وجوه أصحابهم. الطقس المعتدل، والمكان المكشوف يساعد على الشعور بالراحة. العطور والشراب يثيران إحساسًا خفيفًا بالدوار، والألوان وصخب الثرثرة يزيدان من الحماس.
الأفلام قد تكون أهم ما في المهرجانات السينمائية، لكن المهرجان ليس مجرد أفلام. للمهرجان حياة أخرى خارج دار العرض، تغوي وتفتن ومن لا ينتبه قد ينسى الهدف الأساسي لأي مهرجان، وهو الثقافة السينمائية. كلمة ثقافة وقعها غريب في الأذن حين تأتي بجوار أسماء بعض المهرجانات.
يحاول الجونة أن يوفق بين الاثنين، ويخلق هذا تنافسًا وصراعًا مكتومًا داخل هيئة تنظيمه وضيوفه. فريق منهم لا يشغله سوى السجادة الحمراء والليالي الحمراء خارج دور العرض، وفريق يركز على متابعة الأفلام والجري وراءها من قاعة لأخرى من الصباح حتى الليل، وبينهما يسعى فريق آخر للتوفيق بين الأفلام والحفلات!
الأحاديث الجانبية تراوحت بين الاطمئنان على الصحة والعمل والأحوال العامة خلال شهور البيات، إلى تكريم الفرنسي جيرار دي بارديو، الذي أثار عاصفة قبيل انعقاد المهرجان، بين المعترضين على استضافة رجل زار إسرائيل وأدلى ببعض التصريحات المؤيدة للكيان الصهيوني، وبين من يرون أن مقاطعة التطبيع لا تعني إطلاقًا مقاطعة من يزور إسرائيل أو يدلي بتصريحات مستفزة، وأن ديبارديو تحديدًا رجل مرتبك لا يرسى على بر، وهو يغير آراءه وانتماءاته كل يوم، حتى إنه اعتنق الإسلام لفترة عقب سماعه لصوت أم كلثوم، وأن الحكمة تقتضي دعوة هؤلاء والحديث معهم لإقناعهم بوجهات النظر والمواقف العربية.
هاهي النميمة تعاود الاطلال بوجهها العجوز، والحكايات والتعليقات الساخرة تتهادى على الشفاه، وكل عشر دقائق تقريبا يأتي صوت على الميكروفون الداخلي مقاطعًا يطلب من الجميع الدخول إلى القاعة لبدء مراسم الافتتاح، لكن الناس فرحة بالقرب، بالثرثرة، باللقاء بعد طول حَجْر!
مع بداية عرض أول فيلم، “الرجل الذي باع ظهره” للتونسية كوثر بن هنية، عقب المراسم والفقرات الطويلة لفيلم الافتتاح، لم يبق في القاعة، كعادة المهرجانات المصرية، سوى عدد قليل جدًا من الذين يصرون على مشاهدة الأفلام قبل أي شيء. إنهم يتوقون للحديث عن الأفلام، جيدة أم سيئة. تبادل الآراء ومحاولة إقناع الطرف الآخر بوجهة نظرك منتهى متعتهم. لم يخيب “الرجل الذي باع ظهره” ظنهم، فهو فيلم جيد، لكنه يحوي الكثير من الملاحظات المثيرة للخلاف، ولذلك ظل الفيلم محورًا للنقاشات حتى نهاية المهرجان.
الأفلام في المهرجانات تتواصل مع بعضها، تتناقش فيما بينها، تتفق، وتختلف، وتتكامل أو تتعارض.
في الجونة على سبيل المثال لا يمكن فصل رد الفعل الرائع على الفيلم الفلسطيني “200 متر” عن زوبعة التطبيع وجيرار دي بارديو. الفيلم الذي شارك المهرجان نفسه في إنتاجه عبر منصة دعم، كان استفتاءً مباشرًا على أن فلسطين في القلب، وأن القضية الفلسطينية لم، ولن، تمت، مهما جرت رياح السياسة بما لا تشتهي السفن.
“200 متر” حصل على جائزة الجمهور كأفضل فيلم في المهرجان، وهذه الجائزة تحديدًا كانت بمثابة استفتاء على رأي المهرجان وجمهوره.
الأفلام في المهرجانات تتقاطع فيما بينها: على سبيل المثال، ثلاثة أفلام إيطالية، مرة واحدة، شاركت في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة هي “رباط” (أو “روابط”) إخراج دانيلا لوشيتي، و”حكايات رديئة” إخراج الأخوين دونسينزو، و”لا مكان مميز” للمخرج أمبرتو بازوليني، والأخير تدور أحداثه في المملكة المتحدة. الأفلام الثلاثة تدور حول العائلة. “لا مكان مميز” ميلودراما مؤثرة حد البكاء على حال أب وحيد يحتضر يبحث عن عائل لولده الوحيد بعد موته. “روابط” يتتبع حياة أسرة على مدار عقود، ويركز على علاقة الأب والابن، التي انقطعت برحيل الأب، لكن أواصر الدم والجينات تجمعهما مجددًا من خلال تشابهات بسيطة مثل طريقة ربطهما للحذاء الغريبة (هذه الفكرة قدمها يسري نصر الله في فيلمه “جنينة الأسماك”2008!).
الفيلم الثالث “حكايات رديئة” يهدم كل هذه المثاليات عن العائلة ويقدم ثلاث حكايات منسوجة ببراعة حول ثلاث أسر خلال إجازة صيف، تنتهي حياة أسرتين منهم بمأساة مروعة، بسبب نظام العائلة الفاشي في حالة منهما، والظروف الاقتصادية السيئة في الحالة الأخرى.
الأفلام في المهرجانات لها حياتها الخاصة، إذ تعيش من خلال ذائقة المتلقين ونوع ومستوى ثقافتهم، ولكل مهرجان وجمهور مهرجان خصوصية وطعم. جمهور الجونة على سبيل المثال، يتكون بالأساس من الطبقة الوسطى العليا ونجوم صناعة السينما المصرية والنقاد المصريين والعرب. وتتباين أذواق هذه الفئات أو تتقارب وفقًا لنوع الفيلم الذي يشاهدونه. فيلم مثل “برلين ألكسندر بلاتز” للمخرج برهان قرباني هو إعادة صنع لرائعة الأديب ألفريد دوبلن المكتوبة عام 1929، والتي حولها الألماني راينر فاسبندر إلى مسلسل تليفزيوني في أوائل الثمانينيات يعد أحد روائع المسلسلات التليفزيونية على الاطلاق، وهو عمل جريء وحشي من النوع الذي يغضب ويستفز جمهورنا المحافظ. هذا الفيلم ربما يحظى بترحيب ومناقشات كثيرة في بلد أوروبي، لكنه مر مرور الكرام في الجونة.
مشكلة المهرجانات الفخمة، بالنسبة لي على الأقل، أنها تثير إحساسًا بالذنب، أحيانًا، عندما تعرض أفلامًا تصور البؤس الإنساني، وسط حضور ومناخ عام برجوازي، ينفق في ليلة واحدة ما يكفي لإطعام ألف أسرة من التي نراها في الأفلام على مدار شهر كامل. تخلق مشاهدة هذه الأفلام في تلك المهرجانات إحساسًا غير مريح، ينتج تعكيرًا في المزاج بسبب التناقض الحاد ما بين الشاشة وما حولها، أو انفجارات بكاء تطهرية جماعية. هذه الأفلام تضعنا أمام أنفسنا بشكل مزعج، لكنه مهم.
باختصار: يتجلى معنى السينما كفن شعبي جماهيري يتم تلقيه وفقًا لطقوس وشعائر وثقافة عامة في دور العرض العامة التجارية، كما يتجلى في المهرجانات تعبيرًا عن النخبة، وهذان الطقسان، المشاهدة الجماعية في دار العرض، وحضور المهرجانات السينمائية، يختلفان كلية عن المشاهدة عبر التليفزيون أو الدي ڤي دي أو المنصات؛ الأولى تعزز المشاركة وتقوي الاحساس بالجماعة والثانية تزيد من العزلة والانقسام والتطرف، هذه الأمراض التي نشرتها التكنولوجيا الحديثة وتفاقمت في زمن الكورورنا!