يبدو أن تحطيم اليقين كان من أهم سمات هذه السنة المرتبكة، فقد جاءنا فيروس من حيث لا ندري، ليحطم الأحلام والترتيبات، ويجعلها سنة الكارما وانكشاف الحقائق. وأصبحت كل خطوة وليدة اللحظة، وفي حلٍّ من أي خطط مسبقة لكنها رهن الإلغاء في أي لحظة.. في تلك المنطقة الرمادية ازدادت الاحتمالات وتطوَّرت حلول جديدة ليتعامل الإنسان مع ذاته، الأمر الذي جعلها أيضًا سنة الشك. ولأني أكره اليقين في العموم وأحب مساحة الاحتمالات التي يضفيها الشك على الأشياء فقد ارتحت لهذا الجانب منها.
سنة الشكوك هذه تأرجح عليها مصير مهرجان الجونة، لفترة ليست بالقصيرة، وعندما تأكد انطلاق المهرجان متأخرًا عن موعده بشهر كامل، وعلى الرغم من المخاوف، تحمستُ لحضور حدث على أرض الواقع، والخروج من الحالة الافتراضية التي ألمت بكل شيء بداية من اجتماعات العمل وليس انتهاءً بمقابلات الأصدقاء عبر زووم، ما جعلك على المسافة نفسها من صديق في المعادي وآخر في كندا!
كان مهرجان الجونة هذه السنة هو الأهم على الإطلاق، ليس فنيًّا فقط بل إنسانيًّا، نتيجة حنين الناس لأن يلتقوا من جديد، أن يحضروا فعليًّا وجسديًّا في المكان نفسه وأن يشغلوا قاعات السينما. وكنت أتساءل عن اللقاء بالأصدقاء “هل حنسلم؟ من بعيد ولا من قريب؟ وهل الناس حتتردد من الكسوف؟ فأصبح السؤال المبدئي عن بُعد: كورونا ولا إيه؟”.. لكن ما تلبث الحالة الإنسانية أن تنتصر ليسود عناق بديل عن القبلات لأن القبلات أكثر خطرًا أو هكذا يقال.
هكذا تراجعت مخاوف الكورونا لتحل محلها مخاوف الأفلام! فبرنامج هذه السنة كفيل بأن يجعل الكورونا أمرًا تافهًا. الفيلم البوسني “إلى أين تذهبين يا عايدة؟” الذي حصل على النجمة الذهبية لأفضل فيلم روائي طويل، إخراج جاسميلا زبانيتش، على سبيل المثال: تدور أحداثه عام 1995 في سربرنيتشا؛ حيث البطلة مترجمة بالأمم المتحدة تشهد الاحتلال الصربي لمدينتها حين يهرب الآلاف للاحتماء بمعسكر بعثة المنظمة الدولية، ومن بين هذه الجموع أسرتها التي تحاول أن تحمي أفرادها من الموت… ليس في الفيلم نقطة دم واحدة لكنه يترك المشاهد في حالة نفسية ثقيلة، خصوصًا خلال المشهد الذي تصعد فيه عايدة لمشاهدة جموع ضخمة تنتظر الحماية من فوق مبنى صغير أعلى بوابة المعسكر.
طرح المشهد عليَّ تساؤلًا ربما عبثيًّا: ماذا لو أنفق العالم ربع الجهد والقلق الذي أنفقه على الكورونا في سربرنيتشا؟ ألم يكن لينقذ كل أولئك الذين قتلوا بدم بارد؟ ماذا عن غير ذلك من المآسي اليومية الأبشع ألف مرة من كورونا؟ أظن أن خلق مساحة رقيقة من الأحلام بهدف تسليط الضوء على الإنسان الفرد هو من أهم وظائف الفن، وهو ما يفرِّق السينما عن الأخبار كما يميِّز النوعية عن الكمية…
طرحت أفلام هذه الدورة أيضًا إشكالية الحدود في أعمال مثل الفيلم الفلسطيني “200 متر” إخراج أمين نايفة، الذي حصد خمسة جوائز في الجونة منها جائزة الجمهور، ومن أهم ما يميِّز هذا الفيلم هو بساطة الطرح في مقابل تعقيد الوضع داخل فلسطين إلى الحد الذي تعبر معه كل تفصيله يومية عادية عن أزمة اجتماعية في واقع مجحف. إنه لا يكترث للقضايا الكبرى والشعارات في عرضه لأزمة تجاوز الجدار بالنسبة لأب يعيش على مسافة ٢٠٠ متر من أولاده وزوجته ولكن خارج حدود الدولة. كذلك فيلم التحريك الفرنسي “جوسيب” المعروض خارج المسابقة الرسمية؛ من خلال صداقة غير عادية تنشأ بين فنان الكاريكاتير الإسباني جوسيب بارتولي وأحد الحراس الفرنسيين على الحدود، يتناول الفيلم أزمة الحدود سنة ١٩٣٩؛ عندما فر الجمهوريون الإسبان إلى جنوب فرنسا على خلفية انتصار فرانكو في الحرب الأهلية…
ووسط تشكيلة أوسع تتضمن أفلامًا حقَّقت الخلطة السحرية للجوائز العالمية مثل “الرجل الذي باع ظهره” إخراج التونسية كوثر بن هنية، وهو يقرن الأزمة السورية بعالم الفن المعاصر والمتاحف وفي أكثر من لقطة يبدو أنه يستدعي الفيلم السويدي “المربع” (٢٠١٧)؛ كان من المبهج، بل ومن الضروري، أن يقام الحدث وسط التحديات والإحباطات… والشكوك..
لا أظن أنني سأنسى أبدًا غرابة وصعوبة حضور الأفلام بالكمامة، الأمر الذي لم يكن ليخطر ببالي أبدًا..
…
صورة الغلاف من فيلم التحريك الفرنسي “جوسيب”