“يا حفيدتي؛ الموهبة وحدها لا تكفي للجلوس على القمة، لا بد أن تُضحي بأشياء من أجل أخرى، لا تتركي نفسك في خانة الضحية، الضحية لا يمكنها الخلود فنيًّا، عليكِ أن تتخلي عن تلك المشاعر، وتتحركي حرة طليقة، كي تثبتي نجاحك وتكتبي خلودك، لا يمكنكِ القيادة وأنتِ تجلسين في الكنبة الخلفية”..
ربما كان ذلك تخيلي لأهم نصائح سعاد محمد للكثيرات من مطربات جيلنا. وهي النصائح التي لم تدركها سعاد في حياتها، بل كانت دائمًا في الجهة المعاكسة لها منذ ظهورها، حتى إنها لم تستطع أن تقدم لابنتها المطربة نهاد فتوح نصائح تحميها وتساعدها على الاستمرار والنجاح، بل كانت لا تريد لابنتها احتراف الغناء، لكن نهاد أصرت على الغناء واعتزلت بعد عدة سنوات فقط من ظهورها على الساحة الفنية بعد زواجها، مع أنها كانت تملك صوتًا جميلاً مثل أمها.
عند البحث عن لماذا لم تحقق سعاد نجاحًا بقدر موهبتها، ماذا حال بينها وبين القمة والشهرة، ماذا جعلها لا تملك زمام أمورها، وتجلس في المقعد الأمامي للقيادة، تجد الإجابة متفرقة على مدار مشوارها الفني، منذ بدايتها كطفلة في منتصف الأربعينيات وحتى رحيلها في عام 2011.
ولدت سعاد عام 1932، والدها الشيخ محمد أحمد فاضل، الملقب بمحمد المصري، الذي كان يعمل في صناعة كراسي الخيزران ويجيد الإنشاد الديني، ويعود أصله إلى صعيد مصر، فقد جاء جده الأزهري إلى لبنان مع الحملات التنويرية التي كان يرسلها محمد علي، ومكث في لبنان، لكنه توفي صغيرًا وترك زوجته حاملاً لتضع بعد وفاته أصغر بناتها ويصبح في رقبتها 7 أبناء «مصطفى وأحمد وشفيق ورضا وشفيقة وسعاد وهدية». وأحبت سعاد الغناء والموسيقى، تقول “كنت أتسلق سور بيتنا في منطقة تلة الخياط بيروت لأستمع إلى غناء وعزف جار لنا”، تختبئ في خزانة الملابس وتغني خوفًا من والدتها التي إذا استمعت إليها نهرتها بالصراخ والضرب أحيانًا، ومع وفاة والدها وشعورها بأنها لا تهوى الدراسة، شرعت في دراسة الموسيقى على يد عازف القانون محمود سبليني وعازف العود محمود الرشيدي، وتعلمت غناء الأدوار والموشحات من الملحن حبيب الدندشلي، وكان للملحنين توفيق باشا وحليم الرومي فيما بعد دورًا مهمًا في إتقانها الغناء بشكل سليم.
“وأهدتني الجمعية الخيرية التي أقيم الحفل لصالحها لعبة (عروسة) وكان هذا هو أول أجر تقاضيته.. ولم أكن أظهر على المسرح في تلك الفترة إلا إذا اشترى لي أخي مصطفى بالونا لألعب به قبل أن أغني وإذا نسي أخي إحضار البالون، كنت أبكي وأرفض الغناء أو الظهور على المسرح”، من تلك الذكريات التي تحكيها سعاد عن بدايتها، نرى كم كانت طفلة صغيرة تقف على مسرح دار سينما روكسي في بيروت لتغني أغنيات صعبة مثل “افرح يا قلبي”، تجلس في الكنبة الخلفية تلعب بالعروسة تاركة القيادة لشقيقها الأكبر وداعمها الوحيد في العائلة أمام أمها وشقيقها الآخر وأعمامها، التي تحكي عنهم سعاد “ذهب كل أعمامي إلى المحكمة، وأعلنوا تبرؤهم مني وبعدما تأكد لهم أنني قررت احتراف الغناء حاولوا قتلي عدة مرات لغسل عارهم”. أما أخوها فقد ترك عمله في تجارة الأثاث وبدأ يدير أعمال شقيقته الطفلة الصغيرة، فكان المتحكم والمسيطر والسند والأمان ضد الأهل من جهة، وضد أصحاب الصالات والملاهي ومنظمي الحفلات داخل لبنان وخارجها، فسعاد ما هي إلا طفلة تحب الغناء والجلوس بصحبة ألعابها.
وعلى مقربة من بيت سعاد، كان يسكن الصحفي والشاعر محمد علي فتوح، ومن باب الجيرة أصبح من أول سامعيها، وأعجبته الموهبة الفذة، ويقرر أن يساعدها بكل ما أوتي من قوة وعلاقات وأفكار، فكان سببًا في أن تغني في الإذاعة، وأن يأتي لها بأعمال في أماكن كثيرة داخل وخارج لبنان، وأن يستمع إليها الشيخ زكريا أحمد في منزل صباح، وعندما استمع لصوتها وقدرتها على غناء ألحانه لأم كلثوم بشكل صحيح وعذب، أمسك بعوده وعزف لها وهي تغني، لتخرج تلك الصبية بأول شهادة رسمية من أهم ملحني الموسيقى الشرقية بأنها موهبة قادرة على الوقوف أمام الميكروفون، حتى إنه طلب منها أن تأتي إلى مصر وتعيش مع بناته ليصنع منها مطربة يقدمها للساحة الغنائية بكل قوة، وبالفعل سافر شقيقها بها إلى الشيخ زكريا، لكنها أصيبت بمرض التيفود فأعادها شقيقها إلى بيتها في بيروت.
وعود وأحلام يقظة أكبر من مخيلة صبية صغيرة، ترى كل تلك الفرص والاهتمام والرعاية، وأيضا الخطر، أشخاص كثر يحاولون الاستفادة من تلك الموهبة التي يراهن الكثير أنه سيكون لها شأن كبير في تاريخ الغناء العربي، والأهم من ذلك أنها قادرة في تلك المرحلة على جذب الاهتمام والإعجاب من كل النوافذ التجارية للفن، الحقيقة المجردة أن تلك الفتاة تستطيع أن تجني مالاً كثيرًا. ومع نهاية الأربعينيات، كانت سعاد تسجل أول أسطواناتها مع شركة بيضا فون، بعدما ذهب ميشال بيضا إلى بيت سعاد واستمع لها، وقرر تقديم ذلك الصوت والموهبة للجمهور العربي، وكتب محمد علي فتوح “دمعة على خد الزمن” و”ليه يا زمن الوفا” و”مظلومة يا ناس” ولحنهم محمد محسن.
“مظلومة يا ناس مظلومة، وبريئة لكن متهومة، مظلومة وكاسي مليانة من دمع عيوني وحيرانة، قضيت شبابي غلبانة لا رحمة ولا أم حنونة، محسودة ليه ما تقولوا على إيه، وحقوقي ضايعة ومهضومة.” تلك الكلمات التي كتبها متبنيها محمد علي فتوح، معبرة بشكل خاص عن حياة سعاد، خاصة عندما تقرأ حوار فتوح مع مجلة الكواكب عام 1961، مشيرًا إلى احتماء سعاد به خوفًا من بطش أهلها، والتي طالت فتوح نفسه، الذي أصيب بطلق ناري عدة مرات، خاصة بعدما تحولت علاقة التبني والمساعدة الفنية لمشاعر حب تكللت بالزواج، ليستطيع حمايتها بشكل رسمي، مع أنه يكبرها بما يزيد عن 20 عامًا، ولديه أسرة وأطفال، ليبدأ شجار جديد بين فتوح وشقيق سعاد، فكلا منهما يرى أنه يحمي سعاد وأموالها. تلك الأحداث جعلت فتوح وسعاد يقرران القدوم للقاهرة خاصة وأنها ستبدأ تصوير فيلمها الجديد “أنا وحدي” 1952، وهو الفيلم الثاني لها بعد أنا قدمت ببطولة فيلم “فتاة من فلسطين” 1948 إخراج محمود ذو الفقار.
جاءت سعاد في وقت مثالي من ازدهار السينما المصرية، وبخاصة الأفلام الغنائية والاستعراضية، والاعتماد على المطربات في الأفلام بشكل كبير. وسعاد هي ثالث مطربة لبنانية تأتي إلى مصر بعد نور الهدى وصباح، وقبل نجاح سلام، وكلهن أتين جميعًا في نفس الفترة؛ في نهاية الأربعينيات، امتلكن أصوات غنائية جميلة ولكل منهن بصمتها الخاصة، وكان عليهن منافسة مطربات مصر الكبار مثل أم كلثوم وليلى مراد، بجانب المطربات الصغار مثل شادية، كانت الأمور صعبة في تلك المرحلة خاصة مع قيام ثورة 52، وتخبط الجميع من التغيرات الجذرية في مصر في كل المجالات، والتي كان يلزمها تفكير وتخطيط كي تنجو من تلك التغيرات، وقعت في أزمة كبيرة، عندما اتهمت بتهريب الذهب إلى خارج مصر، رغم إنه كان ذهبها، ومجوهراتها الخاصة، لكنها مُنعت من دخول مصر حتى بداية الستينيات. ورغم نجاحها وعلاقتها الطيبة بكل الوسط الفني، لم يتدخل أحد لوقف هذا المنع، والتي يقال إن أم كلثوم كانت وراءه، وهي الشائعة التي لازمت أم كلثوم أيضًا مع نور الهدى، فهما المطربتان القادرتان على الوقوف أمام أم كلثوم من حيث الصوت وعذوبته وقوته، خصوصًا بعد وفاة أسمهان واعتزال ليلى مراد المبكر. لكن الحقيقة أنها كانت صديقة لأم كلثوم، وفيما بعد كما يحكي ابنها رشاد فتوح “كانت أم كلثوم تتصل بوالدتي تليفونيًّا، وكنت أرد عليها فتقول لي: اوعى يا ولد تتعبوا أمكم.. وكانت تدعوها دائمًا لزيارتها وكانت أمي تلبي دعوتها وتزورها باستمرار”.
لكن هذا المنع حرم سعاد من بطولات سينمائية كثيرة، وتقديم أغنيات خفيفة كانت من أهم المتطلبات لنجاح الفنان في تلك المرحلة، وكانت سعاد ترى نفسها غير موهوبة في التمثيل، وأن عليها التركيز في الغناء فقط، وكان قرارها حتى بعد العودة إلى مصر أن تكتفي بظهور صوتها فقط في عدة أفلام مثل “رابعة العدوية: شهيدة الحب الإلهي”، و“الشيماء”، وهي قرارات خاطئة أقدمت عليها سعاد، وهو الأمر الذي يحيلنا إلى فكرة الإدارة الفنية والتي لم تكن تجيدها بشكل كافٍ. وقد أكدت ابنتها “إن السبب في ذلك عدم قدرة والدتها على إدارة موهبتها والتعامل مع الشللية، وعدم وجود فريق يخطط لها ويدير موهبتها كغيرها من المطربات اللاتي حققن شهرة ومكانة أكبر”.
جمعت سعاد كل طرق تشتت الفنان عن طريقه، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره، كانت الخلافات بين زوجها وشقيقها كثيرة مما أدى إلى خلافات بينهما بالطبع، وكذلك الحمل والولادة بشكل متكرر، فسعاد أم لعشرة أبناء، ست أطفال من فتوح خلال عشر سنوات فقط، أهم عشر سنوات في حياة الفنان، أكثر فترات عطاء وقوة وانطلاق الموهبة، بددته سعاد في أشياء أخرى. وعلى الرغم من تعاملها مع كل ملحني الصف الأول في تاريخ الموسيقى المصرية، فإنها لم تغن من ألحان محمد عبد الوهاب، مع ثنائه على صوتها دائمًا. فعندما غنت أنا هويت لسيد درويش، اتصل بها تليفونيًّا ودار بينهما ذلك الحديث “ايه اللي عملتيه في دور أنا هويت يا ظالمة، حد يغني كده! فردت سعاد محمد: ليه يا أستاذ، هو أنا ما غنتش كويس؟ يجيبها عبد الوهاب: أنتي مش عارفه عملتي إيه، أنت قضيتي على الغنوة دي علشان ماحدش هيقدر يغنيها بعدك، أنتي كنتي هايلة”. ويفسر البعض رفض عبد الوهاب التلحين لسعاد بأنه خوف من أن يغطي ذلك اللحن على حلمه بالتلحين لأم كلثوم. يحكي ابنها رشاد فتوح إنه كان مع والدته في ماسبيرو، وقابلت عبد الوهاب فقالت له “مش هتدينى لحن يا أستاذ، فرد: أنتي جبتي كلمات وأنا ملحنتهاش يا سعاد.. هاتي كلمات وأنا ألحن لك”، مؤكدًا أن موسيقار الأجيال كان دائم الاتصال بوالدته إذا ما تأخرت في تقديم عمل جديد، وكان يسألها “فينك، صوتك ده مايتسبش يا سعاد”.
الغريب حقًّا أن أغلب ما قدمته سعاد فيه جمال وعذوبة متكاملة الأركان، من كلمات ولحن وأداء، وكأنك تكتشف أغنية جديدة لمطربك المفضل، إلا أن أغلب أغانيها غير مكتشفة أو معروفة، باستثناء القليل، حتى عندما قدمت قصيدة انتظار مع رياض السنباطي، والتي كانت معدة لأم كلثوم لكنها رحلت قبل غنائها، نجد السنباطي لا يعرف سبب عدم نجاح القصيدة، مع أن سعاد غنتها بشكل جيد، ويلقي بالسبب على الحظ، وأن سعاد لا حظ لها، إلا أني أراه سوء إدارة ودعاية من سعاد نفسها، أو القائم على أعمالها، بجانب اختياراتها الفنية التي كانت تعتمد على التطريب وقوة الصوت، وهو الأمر الذي أضاع كثيرًا من نجاحها رغم جودة المنتج، فهي لم تقدم أغنيات خفيفة وبسيطة تجذب الجمهور وتعلق في الأذن، ما كانت تصنعه أم كلثوم صعب أن يصنعه أحد غيرها، خصوصًا إذا لم يكن يملك نفس أسطول الصحافة والعلاقات والهيبة والسيطرة على الإذاعة والإعلام بشكل كامل. حتى إن عبد الحليم قال عنها “هو ده الصوت لكن فيه حلقة مفقودة.. فيه حاجه ناقصاه أنا مش عارف إيه هي، صوتها فيه إحساس لكن فيه حاجة، هل مفيش جاذبية مع الناس، ما أعرفش، مش قادر أحط إيدي على الشيء المفقود لحد دلوقتي”!
الأمر الذي أضرٌها كذلك هو غنائها المستمر لأغنيات قديمة، فعلى سبيل المثال غنائها أنا هويت لسيد درويش رغم عظمة الأداء، ومع أنه الأقرب إلى الكمال من كل التسجيلات الأخرى، فقد أدخلها في قضايا مع ورثة سيد درويش. وكذلك تكرار غنائها لأم كلثوم ليس في الجلسات الخاصة فقط بل وفي الحفلات أيضا والتسجيلات التليفزيونية، أو غنائها أغنية فريد الأطرش “بقى عايز تنساني”. وقد أخذ ذلك كثيرًا من نجاح أغنياتها.
بعد تفاقم الخلافات بين سعاد وفتوح، كان قرار الطلاق هو الأنسب لهما، وبعد الطلاق لم تقف سعاد لتلتقط أنفاسها وتعيد قراءة مشوارها الفني وما الخطوة المناسبة في تلك الفترة مع بداية الستينيات، فقررت الدخول في قصة حب جديدة والزواج للمرة الثانية من المهندس المصري محمد بيبرس، لتنتقل من زوج يكبرها بأكثر من 20 سنة، لزوج أصغر منها بأكثر من عشر سنوات، وتنجب منه أربع أطفال لتكمل العشرة أبناء. لم تعش سعاد فترة في حياتها كانت متفرغة فيها للفن تمامًا، وكان يعيش معها أطفالها العشرة، وهي بالتأكيد أجواء من من الازدحام والضوضاء لا تساعد أبدًا على الإبداع والغناء، لكنها مع كل ذلك استمرت في الغناء وتقديم الأغنيات والحفلات، وربما آخر فترات مشوارها الفني هي أنجح فترة بشكل جماهيري، وحققت لها بقاءً في ذاكرة أجيال، وخصوصًا تجربتها مع مجدي نجيب ومحمد سلطان في أغنية “أوعدك”، وتجربتها مع صلاح فايز وخالد الأمير في “وحشتني”، التي أعاد خالد عجاج تقديمها ، وساعد في انتشارها بين الأجيال الجديدة، لكن الكثير من أغنيات ضاع سعاد محمد دون إعادة استماع واكتشاف.
مع سنواتها الأخيرة، عادت سعاد محمد إلى المسرح للمرة الأخيرة، على ال من رغم سنها وإصابتها بأمراض القلب، حتى إن عربة الإسعاف وطبيب القلب كانا يلازمانها تحسبًا لأن تصيبها أي مضاعفات إثر الغنا لكنها وقفت على مسرح الأوبرا وكأنها ما زالت طفلة تمسك بالبالونة وتنتظر صندوق اللعب أجرها في الحفل.. لقد استمرت في حبها للغناء أكثر من حبها للنجاح أو الشهرة أو تذكير الناس بها، كل ما يهمها أن تشعر بالسعادة، فتغني أغنيات الآخرين بكل حب وإتقان وموهبة، وكأنها لا تملك أغنيات وقصائد على نفس القدر من الجمال والجودة.. كانت سعاد تحب الغناء فقط لا غير، غير مكترثة بكل ما يحدث حولها، ومن يتولى القيادة، تاركة كل هذه الصراعات تشتعل من حولها وبها أحيانًا، لتجلس في الكنبة الخلفية تغني، وهو المهم بالنسبة لها، وليحترق العالم من حولها.
مصادر
- *أخبار ومقابلات صحفية مع سعاد محمد وأخرى مع زوجها محمد على فتوح في مجلات الموعد والكواكب ضمن أرشيف الأستاذ نعيم المأمون.
- **تصريحات لأبنائها إيمان بيبرس ورشاد فتوح، وابن زوجها الكاتب الصحفي عماد فتوح في صحيفة اليوم السابع عام .2011