يوم لطيف في منتصف شهر مارس – والربيع على الأبواب. صحوت مبكرًا في السادسة كعادتي وكنت في الدكان في السادسة والنصف. أما صاحبيّ الدكان، جهاد ويعيل، فقد تغيبا كلّ لأسبابه الخاصة، جهاد لأنه يكره أن يصحو مبكرًا، ويعيل لأن عندها محاضرات في الجامعة.
في الغرفة الخلفية للدكان أجدد المياه في الزهريات وأغسل بعضها بالصابون لإزالة الرواسب الداكنة من عليها. ثم أعد كوبًا من القهوة الألمانية الثقيلة وأشربه على مهل. من موقعي خلف الطاولة الكبيرة التي نضع عليها آلة الكاشير ونعد عليها الباقات أرى خيوط الشمس تتسلل عبر الفاترينة، وعبر فتحة الباب التي تحجبها أثناء ساعات العمل ستارة من خيوط الخرز الملون. ينكسر الضوء عليها فيصنع ظلالاً حمراء وزرقاء متراقصة على الأرضية. تحدث خريرًا لطيفًا عندما يعبرها الزبائن.
أتأمل أيضًا الدكان من الداخل، وهو مكان صغير نسبيًّا، قد لا يزيد على العشرين مترًا المربعة. الزهور معروضة على الجانبين الأيمن والأيسر في فازات زجاجية كبيرة، مرصوصة على الأرض وعلى طاولات خشبية مختلفة الأحجام.
لكن، لأن هذه هي برلين، النجم الصاعد من بين عواصم أوروبا، واليوم الكل يريد أن يكون في برلين، فالزهور هي ربما المكون الأقل أهمية حتى في دكان لبيع زهور، أما الأهم فهي كل التفاصيل الأخرى التي يسعى بها أصحاب الدكان إلى التميُّز عن غيرهم.
فالطاولات التي تحمل الزهور، وكلها قديمة كأن مصدرها دكان أنتيكات، اندست فيما بينها أيضًا صناديق خشبية كتلك المستخدمة في شحن الخضروات والفاكهة، إضافة إلى طاولات شاي بعجلات أربع كما كانت منتشرة في بدايات القرن الماضي. من السقف العالي – سمة رئيسية لبنايات برلين القديمة – تأتي الإضاءة عبر نجفة كريستال ضخمة، وتنعكس على مجموعة من المرايا البيضاوية بأحجام مختلفة تملأ الحائط الأيسر كله، لها أُطر ضخمة مزخرفة ومطلية بلون الذهب، وعلى الجهة المقابلة يضم إطار شبيه لوحة كبيرة لامرأة عارية مستلقية على جانبها، يحاوطها من ناحية ملاك مجنح على هيئة طفل أشقر، ومن ناحية أخرى رجل داكن البشرة يحمل ملامح شيطانية، أرجل ماعز وقرنين صغيرين في مقدمة رأسه.
وأخيرًا على يمين الباب كرسيان وثيران أشبه بالكراسي الأسيوطي القديمة لدينا، عليهما كسوة من القماش الأخضر، وتتوسطهما طاولة خشبية مستديرة عليها زجاجة نبيذ فارغة غُرست في فتحتها شمعة قطَّر شمعها مع الاستخدام على جانبي الزجاجة فصنع أشكالاً كالتكوينات الصخرية في الكهوف. على الطاولة أيضًا لافتة تُقرأ بالألمانية “البيت بيتك – خذ معنا فنجان شاي”، وقائمة طويلة بأنواع شاي لم أسمع عنها في حياتي قط.
* * *
يظهر جهاد في السابعة والنصف.
“يا هلا!”
يلقي عليّ تحية ناعسة. يقف في وسط الدكان بقامته الطويلة. رجل وسيم، بشرته داكنة، ذو شعر أسود طويل معقوص ذيل حصان ولحية خفيفة. عندما يضحك ترج ضحكته المكان، ويظهر صفا أسنان صفراء مكركبة في فمه. عيناه نادرًا ما تضحك، بل تحمل دائما نظرة متأهبة ثاقبة.
ثم يأتي موعد شحنة الزهور التي تأتي من إيطاليا وهولندا – وأحيانًا من كينيا – في عربة نقل كبيرة مكيفة.
نخرج إلى الشارع فتلفحنا نسمة هواء باردة. نتبادل التحيات مع السائق الشاب. أصعد أنا الدرج الصغير إلى بطن العربة، بينما يدخل جهاد في حوار ضاحك مع السائق. البرودة داخل العربة لا تختلف كثيرًا عن درجة الحرارة بالخارج في هذا الوقت من النهار. أمشي جيئةً وذهابًا في ممر صغير تتراص الزهور على جانبيه من الأرض إلى السقف – وكأنني أشق طريقي عبر أدغال استوائية. أبحث بين الحزم الملونة عن تلك التي تحمل ملصقًا صغيرًا عليه اسم جهاد. أفكر: ماذا يدور في ذهن مورِّد الشحنة عندما يرفق حزمة ورد أحمر، ربما من ذلك النوع ذي البتلات الضخمة والعود الطويل الذي يحمل اللقب التجاري “أمور”، بكلمة جهاد، تلك الكلمة التي تتلخص فيها كل كوابيس أوروبا وهواجسها؟
ألتقط شذرات من حوار جهاد والسائق. جهاد يتلذذ دائمًا بالتهكم على نحافة الشاب، على ظهره الأحدب، وتعبيرات وجهه الكئيبة. عندما أخرج بالبضاعة يطلب جهاد من السائق الشاب أن يحملها معي إلى الغرفة الخلفية داخل الدكان. بطريقته المسرحية المعتادة لا يكف عن دفع الشاب إلى المزيد من النشاط بصيحات عسكرية، “هيا،” يزعق “إذا بقيت كسولاً هكذا لن تحصل على امرأة أبدًا قبل أن تموت، أأنت مدرك لذلك؟” يستسلم الشاب لطلبات جهاد، وإن كان بامتعاض واضح.
لا أحد يعرف بالضبط كيف تحول جهاد إلى بائع للزهور. هناك الكثير من الشائعات حول الأمر، أكثرها انتشارًا هو أن هذا الدكان كان ملكًا لزوجته، امرأة ألمانية في الخمسينيات من عمرها ماتت بالسرطان، وتركت لجهاد كل شيء. أما الحكاية التي كان يحكيها جهاد فكانت أكثر درامية، كما أنها تشبه قصتي أنا إلى حد كبير. فبحسب جهاد ما حدث هو أنه عاش في ألمانيا فقيرًا مُعدمًا لمدة عامل كامل، يعيش على فضلات مطاعم الشاورما، إلى أن عطفت عليه بائعة الورد الروسية أولجا جاروخوف. أصبح ذراعها الأيمن، وكان يبيت في الدكان. كانت أولجا قد انتقلت إلى برلين منذ أكثر من عشرين عامًا، برلين الشرقية آنذاك، عندما كانت المدينة لا تزال مقسمة إلى مدينتين. جاءت مع زوجها الألماني، الطيار العسكري، بعد أن أنهى دراساته في الأكاديمية العسكرية في موسكو. تركت مستقبلاً كممثلة على مسرح سيفريمينيك المرموق من أجل الحب. ثم، بعد عشرين عامًا، وقد زاد وزنها بمعدل كيلو لكل عام، كانت تكتفي بتقمص شخصيات بوشكين وتشيخوف ولوركا في شطحات قصيرة عندما يخلو الدكان من الزبائن. كانت تقول: “هذا الدكان هو خشبة مسرحي”.
جهاد أيضًا كثيرًا ما يتصرف وكأنه ممثل على خشبة مسرح، يتكلم مع زبائنه وكأنه يؤدي أحد مونولوجات شكسبير التراجيدية الرنانة. ثم يقول لي: أليست الحياة خشبة مسرح كبيرة؟ ألسنا كلنا ممثلين؟
أعتقد أنه على حق. لكننا بالتأكيد لا نؤدي دائما أدوارًا نختارها بكامل حريتنا. وأي الأدوار سيكتب علىَّ أنا تقمصها، يا ترى؟
* * *
هناك أُناس، وأعتقد أن جهاد منهم، يستطيعون أن يقولوا عن أنفسهم بكل ثقة: “أنا هكذا، طبعي هكذا، خلقت هكذا”.
هؤلاء البشر يدهشونني كثيرًا. تينا، صديقتي، هكذا. عندما نتعارك عادة ما تقول: أنا هكذا ولن أتغير. بالتأكيد عندما نهدأ تصبح الأمور أكثر بساطة، وتبدأ المساومة على الطباع، على ما هو متأصل في الذات وما هو قابل للتفاوض.
ربما أصل إلى مستويات شبيهة للثقة بالنفس يومًا ما. لكنني حاليًا لا يحدث أن يثير إعجابي شخص ما إلَّا وأتمنى أن أكون مثله، مثله تمامًا. هذا يحدث أحيانًا، لكن الأكثر شيوعًا أن أقع في غرام إحدى الخصال الخاصة بأحد الأصدقاء أو المعارف، أو الأغراب حتى، فأقرر أن أجعلها من خصالي أنا أيضًا: الطريقة التي يضحك بها فلان، الطريقة التي تطفئ بها فلانة سيجارتها، الطريقة التي يهز بها فلان رأسه إيجابًا عند الاستماع ويقول “أوكيه” بنبرة تنم عن الاهتمام. القائمة لا تنتهي.
أنا أعرف مثلاً عن يقين أنني نقلت الطريقة التي أضحك بها عن هاني، زميل الدراسة في المرحلة الثانوية. أما الطريقة التي ألقي بها التحية على الناس، أقول “هاي” أو “مساء الخير” بنبرة هادئة متزنة تداري حيائي، بينما لا أحاول في الوقت ذاته أن أثبت للعالم كم أنا شخص اجتماعي بأن أحمِّلها جرعة حماس وترحاب مبالغ فيهما – هذه كانت في الأصل تخص يارا، بنت الجيران والتي كانت قريبة مني في السن.
* * *
الزهور تأتي في العادة مُغلَّفة بورق سيلوفان شفاف يحمل اسم الشركة المصدرة ولوجو كبير يتضمن إشارة لونية إلى علم بلد المنبع. زهرة وحيدة تأتي معبأة بشكل مختلف، ربما لذلك كانت أول إضافة إلى قاموسي النباتي شديد المحدودية: الجيربيرا.
لم أكن قد رأيتها من قبل. ولأن رؤوسها شديدة الهشاشة وتنفصل بسهولة عن عودها فهي تأتي في صناديق كرتونية مستطيلة، تذكرني ببوكيهات الزهور في علب بلاستيكية كما تظهر في الأفلام العربية القديمة. ربما لذلك نشأت بيني وبينها علاقة خاصة، مع أنها لم تكن الأكثر مبيعًا، بل بالعكس يعتبرها الألمان عادية.
في الغرفة الخلفية، نضع الزهور في دلاء ملأتها مسبقًا بالماء، ثم أشرع في تجهيزها للعرض، بسكين صغير أقطع أسفل العنق بشكل موارب، ثم أزيل الأوراق من أعناقها باستثناء الثلث الأخير قبل الرأس. بعد عام من العمل كبائع ورد أصبحت أنفذ كل هذه المهام بسرعة وبروتينية لا بأس بهما. وعندما أنتهي تكون قدماي غارقتين في حفنة من الأوراق وبقايا الأعناق، كبركة خضراء صغيرة.
بعد دقائق سنفتح الدكان للزبائن. جهاد يسترخي على أحد الكراسي، ثم يصفق ويقول بمسرحية، مُحاكيًا اللهجة المصرية: “الشاي والشيشة يا واد يا حسين!”
أتحرك صاغيًا، أقوم بتسخين الفحم على “سبرتاية” صغيرة في الغرفة الخلفية، ومن ثم رص حجر معسل التفاح المخلوط بالحشيش وإعداد الشاي.
أحملهما له، يسحب نفسا عميقًا يخرجه على مهل، فتختفي الزهور للحظات في شبورة كثيفة برائحة التفاح. يربت جهاد راضيًا على كرشه الصغير، وتكتسي عيناه بلمعة شاردة.
“مبسوط هون يا حسين؟” يقول.
أغمغم: الحمد لله.
يضحك جهاد ضحكة عالية، ويقول وكأنه يُحدِّث نفسه: “بتتمسخر عليا، إيه؟ بتيجي ألمانيا تدرس هندسة وهلا بتبيع ورد، وتقولي مبسوط؟ لكن ما عندك موهبة، شو راح تعمل. تع، تع، خدلك نفس حشيش”.
أنزل على ركبتي إلى جانبه وأسحب نفسًا عميقًا من الشيشة. أكتمه ثم أفرغه على مهل. يربت على كتفي ويقول: “هيك راح تكون أحسن. ياللا هلا روح شوف شغلك يا زلمة”.
أذهب أنا إلى باب الدكان وأفتحه، فتلفحني نسمة باردة. يبدأ على الفور كونشيرتو الأصوات في مساحتنا الصغيرة. يظهر رأس امرأة من الباب ويسأل: “عندكم بالخارج قصرية تحمل زهور أقحوان وردية، ما سعرها؟”
“3.90 يورو”.
شاب يطلب المساعدة في اختيار باقة صغيرة، فأقول: “لزهرية كبيرة أم صغيرة؟ وكم تريد أن تنفق عليها؟”، ثم أقترح عليه باقة من الحوذان، ربما مع بعض الخضرة، الليمونيوم مثلاً.
يطلب أحدهم باقة جيربيرا فأقوم بتجهيزها. أولاً يجب معالجة عيدان الجيربيرا كي لا تنكسر رؤوسها الهشة بسهولة. آتي
بسلك معدني رفيع، أغرس طرفه أسفل الرأس، ثم ألفه حول كل عود بشكل حلزوني حتى آخره.
“أريد باقة بـ 10 يورو”.
“أتريد أن نضيف إليها زهور التيوليب أم لا؟ هو موسمها على أي حال”.
“وأنا سآخذ بعضًا من عيدان عيد القيامة”.
“عيدان الكرز أم القضبان؟ ولا تنسي أن تضعيها في زهرية في مكان مشمس حتى تخرج براعمها”.
“جميلة جدًّا هذه الباقة، خاصة زهرة الكلا كانت فكرة رائعة، أية نصائح كي تعيش أطول؟”
“أكيد، ابعديها عن تيار الهواء وغيِّري المياه كل يومين، ولا تضعيها على مقربة من التفاح”.
* * *
*الصور: محمود توفيق
** النص ضمن باقة اختارها وحررها: وائل عشري