تتيح لنا السينما التأمل في العديد من الأفكار ومشاهدة الكثير من العوالم والوجوه التي قد تشبهنا أحيانًا، وربما تختلف عننا في كثير من الأحيان. لكن التجارب الحياتية التي يخلقها صناع السينما تصبح محل الاهتمام وبناء الخبرات. مهرجانات السينما تخلق فرص مثالية للتعرض لعدد كبير من تلك القصص في جرعة مكثفة في أيام قليلة. ومؤخرًا خلقت الدورة الخامسة لمهرجان الجونة السينمائي على مدار ١٠ أيام فرصة مثالية لمشاهدة عشرات التجارب السينمائية والفنية المختلفة، ومن ثَم الكثير من القصص والدراما الجميلة والقاسية والمضحكة، والأهم من ذلك أنها أتاحت مجالاً للتأمل وربما الجدل.
عندما وصف أرسطو الإنسان بأنه حيوان اجتماعي، أراد أن يلخص في تعبير واحد رغبة البشر في التواصل، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من ماهية الحياة بسعادتها وشقائها. وظل علم الاجتماع يدرس تفاصيل هذا المركب الناشئ من تواصل البشر وبعضهم بعضًا، ومن ثم أخذت العلوم الانسانية تنقسم وتتشعب بحثًا عن إجابات لتساؤلات حول تركيب علاقة الفرد بمن حوله وتأثيرها على نفسه. وتصبح تلك العلاقة حجر الزاوية التي إما أن تستقيم معها حياته أو تصبح مستحيلة، فتتحول كل طاقة الفرد نحو الابتعاد بحثًا عن شيء آخر.
الكثير من صناع الدراما والأفلام على وجه الخصوص، بنوا قصصهم على تلك المعادلة الحرجة من علاقة الفرد بمجتمعه وارتباطها بذاته حتى أصبحت نقطة التحول الأساسية تلك التي تدفع بطل القصة نحو إنهاء علاقته بمجتمعه وماضيه. بناء السيناريو التقليدي قد يخلق تصورًا تمهيديًّا للمتفرج في كثير من الأحيان يشرح طبيعة بطله وتفاصيل مجتمعه من حوله؛ راصدًا الضغط النفسي الكبير الذي يحدثه هذا المجتمع إلى أن يصل إلى ذروة الدراما عندما ينفجر البطل، وينهي علاقته بمجتمعه، أو في القصص الأكثر تراجيدية ينهي حياته أو حياة من يضغط عليه.
الماضي وراءنا الآن
وفي أحيان أخرى يرصد صناع الأفلام والدراما التحول في شخصية البطل عندما يتصادم مع مجتمعه لتصبح رغبة المبدع رسم تفاصيل الرحلة التي يهرب فيها البطل من مجتمعه محاولاً الابتعاد عن مصدر الشقاء والإرباك. لعل واحدًا من تلك الأفلام التي تناولت تلك الشخصية بكثير من الارتباك فيلم المخرج المكسيكي ميكيل فرانكو “غروب” Sundown الذي كان عرضه الأول في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا، وحصل في مهرجان الجونة السينمائي على نجمة الجونة الفضية. من المعروف أن المخرج المكسيكي قدم العام الماضي فيلمًا متميزًا بعنوان “نظام جديد” New Order، ونال به جائزة الأسد الفضي للجنة التحكيم الكبرى في مهرجان فينيسيا ٢٠٢٠، ضمن عدد كبير من الجوائز المهمة التي حصدها المخرج في أفلامه الروائية السابقة.
يفتتح صانع الفيلم المشهد الأول على بطل الفيلم نيل (تيم روث) وهو يشاهد الأسماك وهي تموت في منتجع سياحي، على شاطئ فاخر على المحيط الهادئ في مدينة أكابولكو المكسيكية. ويسعى السيناريو الذي كتبه فرانكو لأن يربك المتفرج في المقطع الأول للفيلم؛ فلا يوضح علاقة بطل الفيلم بعائلته. فهو موجود في تلك الإجازة مع سيدة تدعى أليس وابنين، فتى وفتاة في سن المراهقة. توحي اللقطات الأولى للمشاهد بأنهم أسرة مكونة من أب وأم وابنيهما، ويبدو من تعبير البطل وتفاعله مع السيدة أن العلاقة بينهما ليست على ما يرام. ترصد المشاهد الأولى تفاصيل الحياة الرغدة في تلك البقعة الغنية من المنتجع السياحي، حيث تقضي العائلة عطلة بين الشمس والشاطئ في حالة من الاسترخاء، وبعد عدة دقائق تعكر تلك الحالة الهادئة مكالمة تلقتها السيدة وتفيد بأن هناك حالة وفاة، نعرف من الحوار أن والدة أليس قد ماتت. لحظة الارتباك تستدعي أن يقوم الجميع بالتحضير للعودة إلى بيتهم في لندن.
يستمر السيناريو في عدم توضيح العلاقة بين أفراد العائلة، حتى في لحظة الحدث الذي يفجر الدراما في الفيلم عندما يدعى نيل داخل المطار بأنه فقد جواز سفره، مما يلزمه أن يعود إلى المنتجع للبحث عنه تاركًا السيدة وابنيها في طريقهم إلى لندن، في حين يعود هو ويستأجر غرفة في فندق فقير في المدينة ويذهب ويستمتع بأشعة الشمس والبحر في شاطئ ينتمي للطبقات الفقيرة وبعض من أبناء المدينة.
هنا يبدأ الفيلم في رصد الحالة العدمية التي يعيشها ويسعى إليها بطل القصة، ليكشف السيناريو شيئًا فشيئا عن أن نيل هو شقيق أليس، وأنهما أبناء عائلة كونت ثروة طائلة من تربية الخنازير وتجارة لحومها في إنجلترا.
يحاول المخرج في تلك المشاهد تكثيف الحالة الشعورية الخالصة والهادئة التي يسعى إليها نيل على الرغم من الاتصالات المستمرة التي تقوم بها شقيقته. مفردات متعته في تلك الأيام التي يهرب فيها من مجتمعه فاحش الثراء هي مقعد تحت أشعة الشمس أمام البحر ودلو به ثلج بداخله عدد كبير من زجاجات البيرة، والمجهود الوحيد الذي يقوم به هو احتساء البيرة والتمدد تحت أشعة الشمس. نشوة لحظية تلك التي تحدث بسبب تساقط أشعة الشمس القوية على جلد نيل. لكن على المستوى النفسي لا يبدو أنه يريد العودة إلى عائلته وميراثه. يضيف المخرج عنصرًا جديدًا لتلك الحياة الهادئة التي يتخذها البطل كملجأ؛ وهي علاقة بحسناء مكسيكية ذات جمال لاتيني أخاذ لتكتمل جنته المنشودة: شمس وبيرة مثلجة وشاطئ وأنثى سمراء.
ينتظر المتفرج الحدث التالي في الفيلم الذي سوف يربك هذا الرجل العدمي في جنته المتواضعة. وكانت الذروة التالية في الفيلم عندما عادت شقيقته بعد أن توقف عن استقبال مكالماتها لتكتشف أنه تركها في لحظة احتياج عندما توفيت والدتهما، وأنه ليس لديه أي سبب مقنع لتركها في تلك الأزمة، فتتركه بعد أن يوقع إقرارًا بحضور محامي العائلة يتنازل فيه عن كل ميراثه، مقابل مرتب شهري بسيط يكفل له حياة مستقرة في أكابولكو. كان السيناريو قد مهد في مشهدين سابقين إلى أن هناك في تلك الأحياء الفقيرة انتشار للسلاح الناري والعصابات الصغيرة. وفي أثناء عودة السيدة إلى المطار تقوم سيارة بإطلاق الرصاص عليها وحارسها فتقتل في الحال، ويسجن نيل لأنه المستفيد من موتها. يظل في السجن عدة أيام إلى أن تنجح جهود المحامين والاتصالات الدبلوماسية في إخراجه من السجن. وفور خروجه يوقع تنازلاً مشابها عن نصيبه في الميراث لأبناء شقيقته.
يمزج الفيلم بين الواقع وبعض الهلاوس البصرية لدى بطل الفيلم، وذلك عندما نشاهد خنزيرًا بين المساجين، أو خنزيرًا مقتولاً في صالة منزله فور خروجه من السجن. ليكشف لنا السيناريو أن حالة العدمية التي يعانيها بطل الفيلم لم تكن فقط بسبب ملله وكراهيته لنمط الحياة التي كان يعيشها، بل أيضًا بسبب علمه بأنه يعاني من سرطان في المخ في مرحلة متقدمة. كان يهرب من قدر محتم باحثًا عن أيام معدودات يستمتع فيها بحياة بسيطة بين الشمس والحب والبحر. وينهي المخرج فيلمه بلقطة لكرسي بطل الفيلم على الشاطئ وقد ترك خاويًا إلا من قميصه الملقى على الكرسي، في إشارة إلى نزوله البحر ربما للمرة الأخيرة. ما يهم المخرج في هذا الفيلم هو رصد تفاصيل تلك الحالة التي يواجهها البطل بعد أن ترك كل شيء من أجل أيام أخيرة يعيشها في هدوء قبل أن تنتهي حياته.
بحثًا عن المغفرة
فيلم آخر في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في مهرجان الجونة وهو فيلم “هروب الرقيب ڤولكونوجوف” الذي حصل على نجمة الجونة البرونزية وجائزة نيتباك (شبكة النهوض بالسينما الآسيوية) الفيلم من إخراج الزوجين أليكسي شوبوف وناتاشا ميركولوفا. التقارب بين فيلم “غروب” وفيلم “هروب الرقيب ڤولكونوجوف” هو رحلة البطل: الأولى كانت رحلة عدمية ترك فيها مجتمعه الثري بحثًا عن جنة متواضعة ومؤقتة، أما في الثاني كانت رحلة البطل رحلة خلاص، بحثًا عن المغفرة من كل من تأذوا بسببه أو بسبب الجهة التي يعمل بها. الفيلم عرض للمرة الأولى أيضًا ضمن المسابقة الرسمية في مهرجان فينيسيا السينمائي.
سبق أن قدم الزوجان فيلما بديعا بعنوان “الرجل الذي أدهش الجميع” وحصل على العديد من الجوائز في المهرجانات العالمية، منها جائزة أفضل ممثل في مسابقة آفاق في مهرجان فينيسيا في عام ٢٠١٩، وكذلك شهادة تقدير من لجنة التحكيم في مهرجان الجونة السينمائي في نفس العام. ولا شك أن هذا الفيلم يضاف إلى سلسلة طويلة من إسهامات السينما الروسية في التاريخ الممتد لما يزيد على قرن من السينما العالمية. إذ تزخر كتب تاريخ الفن السابع بمخرجين روس عظام أمثال سيرجي آيزنشتاين في الربع الأول من القرن العشرين. ثم التحول في الزمن والإيقاع والخيال الذي أحدثه المخرج أندريه تاركوفسكي، في أفلام مثل “أندريه روبليف” (١٩٦٦)، و”سولاريس” (١٩٧٢) و”ستوكر” (١٩٧٩)، ثم يليه نيكيتا ميخالكوف صاحب “الشمس المخادعة” (١٩٩٤). ومن ثم شقيقه أندريه كونشالوفسكي صاحب “بيت المجانين” (٢٠٠٢)، وصولاً إلى أندريه زياجنتسيف الذي أخرج فيلم “العائد” (٢٠٠٣) و”لفيثيان” (٢٠١٤).
من المؤكد أن العديد من الأفلام الروسية تستحق أن يقال عنها إنها سينما أدهشت الجميع. هذا العام قدم الزوجان الروسيان فيلمًا جديدًا هو “هروب الرقيب ڤولكونوجوف” الذي حصل على جائزة نجمة الجونة البرونزية وجائزة نيتباك (شبكة النهوض بالسينما الآسيوية) عند عرضه في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في مهرجان الجونة في دورته الخامسة. كان العرض الأول للفيلم في سبتمبر في مهرجان فينيسيا السينمائي.
الفيلم يرصد رحلة نحو الخلاص والمغفرة يقوم بها بطل الفيلم الضابط في المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية (الشرطة السرية) (NKVD) في عام 1938 في لينينجراد (سانت بطرسبرج الآن)، عندما كانت تلك الجهة البوليسية تستخدم أساليب وحشية لاستجواب المعارضين وربما إعدامهم خارج نطاق المحاكمة، وقت أن كان الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين يبسط سيطرته على الحكم بعد أن قام بتطهير الحزب الشيوعي طيلة عقد الثلاثينيات خاصة من كل المنتمين لأفكار عدوه ليون تروتسكى.
يرصد صانعا الفيلم تفاصيل الارتباك الحادث على الشاب الكابتن ڤولكونوجوف بعد أن شاهد بعينيه كيف انتحر قائده بالقفز من نافذة مكتبه ليسقط ميتًا في الشارع. تلهث الكاميرا خلف البطل في رحلته وهو يحمل ملف به بعض الوثائق الخاصة ببعض من عذبوا وفقدوا حياتهم خلال عمليات الاستجوابات العدوانية أو عمليات الإعدام المباشرة.
في البداية الفيلم يرصد رغبة الضابط الشاب في الهروب وترك وظيفته لتتحول تلك الرغبة لاحقًا إلى محاولة لطلب الغفران من أهالي ضحايا الشرطة السرية، بعد أن تكون عمليات التعذيب والاستجواب قد طالت صديق ڤولكونوجوف وزميله في الشرطة.
يمزج الزوجان تشوبوف وميركولوفا في فيلمهما بين الصورة المتميزة التي تستخدم كل تفاصيل تلك الحقبة من الأزياء إلى الهندسة المعمارية بهدف خلق حالة من الاندماج يعيشها المشاهد مع قصة الفيلم، بالإضافة لاستخدامهما بعض من الفانتازيا عندما يشاهد بطل الفيلم صديقه المقتول وهو يخرج من القبر ليؤكد له أنهم سوف يذهبون جميعًا إلى الجحيم بسبب ما فعلوه من تعذيب وقتل ما لم يحصلوا على مغفرة الأهالي. وجاء مشهد المقابلة في القبر مشهدًا مسرحيًّا هاملتيًّا.
يتسارع إيقاع الفيلم، فيتحرك البطل بحثًا عن المغفرة بينما يحاول قائد NKVD ومعه قوة من الجنود القبض عليه. ويلمِّح الفيلم لأن تلك المطاردة ليس هدفها سوى الانتقام من الكابتن، باعتباره يسعى للغفران من شيء في صميم عمل الشرطة السرية. يرسم السيناريو شخصية القائد الذي يعاني من التهاب مزمن أنهك رئتيه تمامًا ويبدو أنه في أيامه الأخيرة. لا يبدو الكابتن ناجحًا في مهمته نحو الحصول على المغفرة؛ فكل من يذهب إليهم يرفضون بطريقتهم ومنهم من ينتحر أمامه.
يقدم المخرجان خليطًا من العنف وبعضًا من السخرية في إطار مشوق لتلك الحقبة السوداء من تاريخ الاتحاد السوفيتي. وربما نجحا من المشهد الأول في التعبير عن ميلهما المباشر لنقد هذه الحقبة عندما افتتح الفيلم أمام الكاميرا بظهور مجموعة من شباب الضباط وهم يلعبون الكرة الطائرة داخل قاعة جميلة لقصر ملكي من العصور الوسطى والذي يتضح أنه المقر الرئيسي لشركة NKVD في لينينجراد، حيث يرى المشاهد في لقطات قريبة للكرة وهي تضرب ثريا فاخرة، وسرعان ما تتعثر بين كريستالاتها، هذا المشهد هو إشارة واضحة إلى مدى إهمال السلطة في ذلك الوقت لكل ما يمثل تراث الملكية السابق مهما كان جماله.
رحلتا البطلين في الفيلمين تتحركان نحو الفناء؛ الأولى بالاستمتاع باللحظات الخاطفة المتبقية في الحياة، والثانية الاستفادة من اللحظات تلك بحثًا عن المغفرة بمعناها الديني. لكن تبقى القيمة الفنية في اللغة السينمائية في الرحلتين وليس في غايتيهما المتناقضتين.