هكذا يصف مخرج الأفلام الفذ في حوار له حول ما يشعر به تجاه أعماله، أحلامه، ما تم منها، وما قيد الخيال الحر. وهو كذلك يصلح عنونة جيدة لما هو قادم من حديث، عفوي تمامًا، طفولي ربما، وخائف، مرتبك في معظم الأحيان. ليس ضمن مساحة التخييل التي شملت ما همس به في رسائله إلى البحر، لكن بالأحرى المقابلة لها، ضمن خيالات النوم وأحلام اليقظة، الهلوسات بين الصحو والغرق. في اليوم الأول كان بحال جيدة، بعض الأعراض فحسب. اليوم الثاني لم يستطع أن يُكمل عمله، عاد إلى البيت، أخذ كل ما يمكن أن أخذه من أدوية يمكنها تهدئة الأعراض بعض الوقت، وبالطبع لم ينس دواء السعال الجميل، وهو جميل لأنه يذهب بك بعيدًا بعيدًا، وتهيأ لاستقبال ساعات من الخدر اللذيذ، ونام.
كنتُ طفلاً يُربي الأحلام
مع القطط
متشبثًا بالأمل في الغدِ
ويد أمي
استيقظ بعد أقل من نصف الساعة والليل لم ينتصف، على حمى كاملة نزلت به، حرارة عالية بشكل لم يختبره قبلاً، ثقيلة، موجعة لأبعد حد، ألم عجيب يُلم بكل شيء، رأسه ستنفجر حالاً وكل جسده يصارع الموت الفجائي. لم يستطع التحرك ولم يستطع النداء على أي من إخوته الذين يبعدون عنه فقط بضع سنوات أقل وباب خشبي واحد، هكذا بقي على حالته حتى الصباح. يتصبب عرقًا، يرتعش، ويُحصي عدد الأنفاس التي تخرج دون حشرجة تنسل من الصدر شرائح، تمزقه قطعة قطعة، برئة أشبه ببركان سُدت فوهته، لا أنفاس تستطيع التحرك صعودًا أو هبوطًا، وحجر ثقيل يقبع على صدره دون قدرة على زحزحته قليلاً، بدا كل شيء رماديًا وفاقدًا لكل ميزة، عدا أمر واحد، أن يمد يده لزجاجة المياه بجانبه فيطفئ هذا البركان الخامد، وتلك النيران التي تشتعل فتأكل كل شيء في صمت تام. بينما يقطع سكون الليل صوت السعال الحاد، وصوت آخر يفيد بأن في الكون شيئًا غير السعال، بائع فاكهة يمر يوميًّا في الثانية صباحًا، لا أعلم لمن يبيع فاكهة بهذا الوقت، الأرجح أنه يبيع دواءً للسعال! يُشاهد الحفل كثلاثة رجال في واحد، كلهم مهزومون هذه الليلة أنكر الهزائم وأشدها وسمًا بالخيبة والمعاناة، مفاصل جسده ترتعد رغبة في التفكك من حمل هذا الجسد المنهك، ورأسه يشتعل فيحيله إلى مزيج غير متجانس من الألم والدموع التي تسقط ليس لبكائه، لكن لأنها خرجت تؤنسه بين ظلام الغرفة وظلام الليل، ولأنه لا حيلة أخرى سوى أن تحول الدمعات بينه وبين الجسد، بينه وبين أن يرى نفسه بهذا الشكل البائس. وحيث قبعتُ وحيدًا حتى الصباح، ومع أولى أشعة للشمس، وجدني أبي ملقى على الأرض دون حراك تقريبًا -هذا ما عرفته بعدها- فانتهى كل شيء وذهب كل الألم بعيدًا، خائفًا مذعورًا.
المدهش واللافت في هذه الحكاية هو مقدار الأحلام التي دارت بخياله في كل مرة ينعس فيها، والتي لم تزد في كل مرة عن بضع دقائق قليلة جدًا، كأحد عوارض الهذيان من الحمى والهلوسة من دواء السعال، خلطة مدمرة وتجربة شيقة مع ذلك.
مشهد ١
في خضم الألم، بشعور لازمه حتى في ثواني الصحو القليلة، أنه ليس شخصًا واحدًا، بل ثلاثة؛ كل منهم له بين الساعتين والساعتين إلا الثلث في مناوبة الشعور بالألم والحرارة العالية، كل منهم كان يأخذ دوره بانتظام دون أن يرهق البقية في إيقاظه، كما كان يحدث بخدمات الكتيبة في فترة الخدمة العسكرية، لم يتذمر أحد على الإطلاق، الغريب أني كنت أشارك الثلاثة في الألم وبعض الأحاديث، كان منها ما جرى بنهار اليوم السابق كاملاً، حيث مقابلة عمل في مكان بعيد موحش، حضرت إلى هناك كمندوب مبيعات، كل ما رأيت هناك من سلع، كانت تسعى بنهم إلى خلق الحاجة إليها ومن ثم تلبيتها، لأنها تعرف مصلحتك أكثر منك، لم أقل ذلك بالطبع، ربما كنت أعاقب بالحبس داخل المخزن القبيح إلى الأبد، أنا الذي لم أكره في حياتي شيئًا مثل تلك الوظيفة سيئة السمعة، لكن ذهبت إلى هناك مهزومًا تمامًا، أبحث عن خلاص، بين حر الحياة وحر اليوم والصحراء القاحلة، وجدتني أقول في لحظة ضعف قاسية: اللهم بلغنا ديسمبر! مثلما تقول ثورة، صديقة تونسية لصديقة أخرى بهية الطلة، دعتها الحياة نور الهدى. أنا الذي لم يُفرط في يوم من أيام الشتاء الماضي دون أن يبحث عن مأواه الصيفي. هكذا لم تمهلني شمس ذلك اليوم وربما هي السبب في الحمى التي ضربتني، هكذا كنت أحلل الأمور مع الاثنين الآخرين في أثناء الفاصل بين مناوبات الألم، أقصد بالاثنين الآخرين أنا!
مشهد ٢
يدور برأسه حد التعب بيت المعري الذي قال فيه: فلو سمَحَ الزمانُ بها لَضنّت ولو سمحتْ لَضنَّ بها الزمانُ
جاورته تلك الأبيات طوال الليل كصاحب وحيد، أحب المعري وأشفق عليهمن نفسه، ولم يجد كتابًا أقرب إليه من رسالته في الغفران، وهو الكتاب الذي ما أن تقع عليه عيني، حتى أشعر بالونس والمحبة، فلي صديق بحجم المعري، رحمك الله يا أبي العلاء جراء غربتك.
وبيت آخر لإمرئ القيس يقول فيه: وَقَد طَوَّفتُ في الآفاقِ حَتّى رَضيتُ مِنَ الغَنيمَةِ بِالإِيابِ
لطالما شغلته فضيلة الإياب، لا أجمل من بيت طيب وبعض الصحة والصحبة، لا سفر، لا ترحال، لا محاولات مستمرة للنيل من الحياة، عُد بي يا زمان إلى البيت، كل الغنائم هناك، السكون، والأمان، والكفاف،لا أحتاج إلى أكثر من ذلك، ولننعم إذن ببعض الهدوء!
وما قاله مظفر النواب، رددته ليلة كاملة قبل أن أعرف برحيله، هل كنت أشعر بموته يقترب؟! لا أدري. مثل البقية كان المدخل إليه تلك القصيدة التي لا يصح أن نستثني منها أحدًا (أولاد القحبة). ما أدهشني للرجل، كان تلويحه بالقلب تحت القميص. لحظة عرفت بموته، اعتبرت أن ذلك محض خيال من أثر الحمى، وبعد ساعات عرفت أن الحياة لا تضحك عادةً، لم أستطع القول إني حزين، ربما حزين حد العجز التام يا رجل. أمي جواري، بكى دون البكاء وقال لها: “وما زلتُ كما بالأمسِ أُلوِّحُ بالقلبِ لهم ثمَّ وداعٌ يبقىٰ ثمَّ رحيلٌ يتركُ في الرُوحِ محطَّة”. قالت: لمن؟!
قلت: لمظفر، آخر الرجال، مات الساعة، تاركًا للقلب خفقان كاد أنيوقفه نهائيًا دون رحمة لما به من عطب. خواء كامل تركته لنا يا مظفر، مو حزن، لكن حزين! نم يا صاحبي، وقلبك الأخضر ستحفظه الثورة. نم يا أبا عادل، فمن الدمع، جايبلك بحر!
مشهد ٣
لم يجد بكاء يومها، لم يستطع، تقبل الأمر بمهارة العارف، المتوقع للحدث، لم يندهش، ولم يلعن الحياة لهذا الفقد. هذا يحدث في المرات التي لا أصدق فيها، هكذا يقول الطبيب، يحدث في حالات الإنكارالشديد، بعدها يكون الانهيار!
الآن، هذا الغياب، يدهسه يوميًا. غياب جدتي التي لم أصدق رحيلها إلى اليوم، لاأنا، ولا غرفتها! حكت له كما كانت دائمًا قصة اسمه، وتقول: “ده أنت على اسم الغالي!” وهي حكاية طريفة، فلما مات جدي لأبي كان الألم على فقده عظيمًا، ولكن لله في خلقه شؤون، فدفن في صلاة الظهر وفي المساء من نفس اليوم ولدت أنا، فكل ما كان يحضر العزاء لمواساة أبي وأعمامي الكبار بمنزل العائلة، كل القرية كانت تحضر العزاء، كل القرية شهدت الميلاد الجديد، كل القرية لم تفكر في اسم آخر غير هذا الاسم، ميراثي الأكبر من جدي الطيب، فأخذ المعزون يتناولون أبي بالحيرة بين “البقاء لله، وألف مبروك”، كبرت وعرفتني كل القرية، أخذت شهرة الجد الكبير دون جهد تقريبًا، وأخذت كل محبته! يحكي لي جدي لأمي، وهو ألم آخر للفراق الصعب والعصي على القبول طوعًا أو غصبًا، كنت الطفل الوحيد الذي فرحت بمولده من قلبي، حتى بعد كل هؤلاء الأحفاد الكبار والصغار، كنت الطفل الوحيد الذي أُعطي هذا الاسم تشريفًا، ومحبة، واختيارًا تجاوز قدرة البشر على الاختيار. تقول جدته كما كانت عادتها في السنوات الأخيرة: “وأنت ماشي هتقابل بنتين حلوين، اسأل واحدة منهم عن أبوها مين؟ وبيتهم فين؟ وروح اخطبها” هكذا ببساطة وبطيبةٍ لم تدر ما فعلت الحياة بالبشر خارجًا! أنا الذي لم يبرح شبرًا أو ذراع عن قول دنقل: كيف تنظر في عيني امرأة أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟ من أهوال الحياة والمرض وبطش الحكومات وقسوة الفقر والمرض؟ كيف تكون فارسها في الغرام؟ كل مرة كانت تشاهده يخرج من البيت تقول له ذلك بمحض تصميم غريب في أن تحضر فرحة زفافه قبل أن تموت، وتوصيه بأن يفعل ما قالت، حسنًا، فعلتُ يا جدتي، رأيت بنتين بمكان ما، أحببت واحدة، أخبرتها، فرحت ببعض الأمل، لكنها تركتني لمّا رحلتِ يا جدتي.. ولمّا قتلني رحيلكما معًا، خايلني الخوف وحدي، فبحثت، لأجد خاتم الخطبة يبرق كقرص شمس، شديدة السطو، شديدة الالتماع، شديدة السعادة والزهو، يتوسط الصورة، ليرى الأعمى قبل صحيح البصر، ما فيه من ادعاء بالبراءة! فقلت: ودع الأحلام يا فتى لا تطرق الباب تدري أنهم رحلوا! حتى باغتتني الجدة قائلة: إن لم تبك الآن، فمتى ستبكي؟!
مشهد ٤
خرج من الشقة يتطلع إلى صوت ناعم يأتي من الخارج وعلى الدرجات،وجدها بريئة، ناعمة، ومضيئة. تتناثر بضع نقاط لامعة على ظهرها، وينسحب شعرها لأسفل في وداعة تامة، ناعم وأنيق. تحدث إليها: تعالي. ترددت قليلاً، ثم وافقت. أدخلها الشقة وأخذها في جولة سريعة كي تتعرف على المكان جيدًا، هذه غرفة النوم، هذا الحمام، وهناك المطبخ. نظرت إليه بامتنان وقالت لا تقلق، أنا أعرف المكان جيدًا وابتسمت. أخبر أبيه وأمه وأخوته جميعًا بأمر تلك الضيفة التي رحب بوجودها بشكل حاسم ولا يقبل نقاش، ولما رأوها أخذت من قلوبهم جميعًا ما تستحق من مكانة ورحبوا بها ربما أكثر منه. الغريب أنها لم تكن تتحدث مع أحد غيره، بلغة عربية سليمة ولهجة غير مصرية، القطة التي تبنيتها لم تكن تتحدث مع سواي!
مشهد ٥
في الطريق إلى البيت الذي يأوينا أنا والأصدقاء في كل المرات التي نتجمع فيها أو معظمها على الأقل، أي بيت صديقي محمود، لكن هذه المرة بعد أن قطعت المسافة من بيتي وحتى سور مدرسة “مبارك” التي تتوسط شارع واسع بين كتلتين من المباني والعمائر المرتفعة، انتهيت من سور المدرسة ووجدتني بمكان آخر ليس أمام منزل محمود كما يفترض أن يكون، ليس مكانًا أعرفه لكنه مألوف بالنسبة لي، مكان واسع وكل شيء مظلم إلا من بعض ما أنار القمر هذا الشسوع اللانهائي. ترددت، ومن ثم عدت مذعورًا، ليس إلى هنا وددت أن آتي، سأذهب إلى البيت وسيتفهم صديقي لماذا لم أستطع الحضور، وحين أدرت وجهي للعودة، لم أجد قدمي، ولم أجد المباني ولا المدرسة، أرض واسعة، تغرقها مياه المستنقعات، إلا من شريط واحد جاف، ضيق، يقسم بحيرتين صغيرتين من الماء والوحل، يصل حتى الشارع الخارجي، في منحدر شديد وعر، حاذيته بمهارة لم أعلم مصدرها، كأني أسير على حبل يطير في الهواء بين مبنيين شاهقين، خوفًا من السقوط لأنه لو حدث سيكون مدويًّا وليس له قرار وربما لن تصحبه أي نجاة من أي نوع، خضت المخاطرة في العودة، وعدت إلى البيت وتفهم صديقي جيدًا لما أتصل بي ثانية. وكي يطمئن أكثر بعد هذا الرعب، نظر في المرآة، فلم يعرف الرجل الذي تطلع إليه. رأسه غصن زهر من شوكة المسيح، يحتضن عود ريحان من شرفتي.قال الربُّ:الآن، عليك الاختفاء بأثر رجعي.
قلتُ: لو تمهلني فرصة كي أعود إلى رحم الأرض رابطًا حبليّ السُريّ بأمي وأعود طفلاً وتعود الأحلام إليَّ!