تطرف الفنان في انتصاره لفكرةٍ ما، يهدد السردية كلها بالانهيار، ويجعلها مرهونة بالتنصل من تحت جلد الواقعي لرصد ما هو افتراضي ومتخيل، وتعقب ما يعتقد أنه راديكالي جذري؛ بحيث تؤسس الواقع لتراوغه، وتخلق جسدًا من التراكيب والوقائع الموازية فوق هيكل من الصور والمعلومات الموثقة. يبدل المخرِج أندرو دومينيك الأماكن المعهودة للأشياء، ويتلاعب بالصور في سيرة متخيلة للنجمة مارلين مونرو، فيغير مواضع الأشياء، ويتعرض للخصوصي الجواني في شكله الهلامي المحرف كفرضية للحقيقة، موازاة تنتزع الهيكل المخفي (الحياة الشخصية المجهولة) من اللحم، وتعرضه على مذابح السينما في نمطٍ مستباح يتعاطى مع الظل كأنه الصورة. يكثف الظل داخله رؤى سوداء وطبقات من الخوف والجنس والسذاجة، ولكنه في النهاية يبقى ظلًا محجوبًا، لا يقدم مارلين ولا حقيقتها، بل يمنحنا نظرة عامة لفرضية أدبية حول حياة مارلين، لا يمكن إثباتها، ولكن يمكن تقديرها فنيًّا كمنتج إبداعي؛ لا كتأريخ ورصد للأيقونة الشقراء.
وحقيقة وجود الالتباس بين حياة مارلين الحقيقية وسردية أندرو دومينيك الموازية؛ يضيف للمنتج البصري ثقلًا فنيًّا، لأن التقاطعات ذاتها ضرورية لدق أجراس وفتح أبواب على حياة مارلين، وربما لم يكن الفيلم يستدعي فجاجة في الطرح كما فعل دومينيك ليظهر مارلين في أشد درجات السذاجة والبلاهة، كأنها امرأة دون عقل، ولم تستلزم السردية الإفراط في العري ولا الابتذال في عرض بعض العلاقات، بيد أنها تبقى رؤية مهمة خصوصًا على مستوى العرض الفني، ومحاولة تقديم شخصية البطلة، وأنا أقول البطلة لأنها ليست مارلين مونرو ولا نورما جين، بل هي خيال الكاتبة جويس كارول أوتس ورؤية دومينيك لهذا الخيال، لا يتجاوز الأمر ذلك، لذا علينا الفصل بشكل كامل بين حياة مارلين مونرو الحقيقية، وحياة الأخرى الموازية داخل الفيلم.
إنهما نسختان مختلفتان، تربطهما الأسماء والأحداث، ولكن مارلين الحقيقية دفنت ودفن معها كل ما هو شخصي وخصوصي ــ ربما توجد بعض المحاولات للرصد الصادق في كتب ووثائقيات أخرى ــ ولكن كل ما يوجد هنا هو مجرد اجتهادات وتخيلات مبنية على أسماء وهوامش موثقة، ولا يمكن بأي طريقة دفعها إلى حيز موضوعي، لأنه منذ البداية ــ من خلال الاقتباس الأدبي الخيالي ــ يعلن تطرف منظوره الحكائي، الذي لا يراعي الدقة والصدق التاريخي بقدر ما يثير مساحة ملتبسة عائمة على الافتراضات والرؤية الذاتية.
فيلم فوضوي أم شخصية فوضوية؟
يصنع دومينيك فيلمًا فوضويًّا؛ يقوم على التشوهات والانحرافات، اختلال يتطلب موجات من التمادي الفج، التمادي في العري والبكاء، في الجنس والاغتصاب، في السذاجة والخوف، وحتى في الميلودراما، يصر المخرِج على رصد جوانب دخيلة يجرد الشخصية من حضورها، مارلين مونرو (آنا دي أرماس) ذات الحضور الطاغي، مسلوبة الهوية، دمية جنسية بلا إرادة حقيقية، ربما هذا ما يريد المخرِج أن يخلقه، نوعًا من التيه والضياع، ولكننا على الجهة الأخرى لا نشاهد مارلين، بل نرى امرأة مجوفة واهنة تقع في حب أغلب الرجال، وتسلم نفسها لآخرين دون مقاومة حقيقية ولو على المستوى النفسي، وتنساق نحو علاقة ثلاثية باسم الحب؛ التركيبة ذاتها غريبة وفجة، بيد أنها داخلية، تقتحم مناطق غامضة وشائكة، لا يمكن التسليم لها بسهولة، لأنها كما قلنا مجرد تشوهات واختلالات، ثلاث ساعات من التمادي الجسدي والنفسي لا نعرف جذوره بشكل واضح، حتى إنه يحاول توريط المشاهد في نظرية سيكولوجية غريبة ويتعرض لنقطة الأب المفقود لتكون محور الفيلم، ويبرر من خلالها التعلق المفرط بالرجال.
يستهل المخرِج فيلمه بمشاهد خاطفة من طفولة نورما جين/مارلين مونرو (الطفلة ليلي فيشر)، صورٍ خاطفة مختلة، يرصد من خلالها علاقة الأم (جوليان نيكلسون) بابنتها، وإقدامها على الصعود بسيارتها نحو النيران المشتعلة في نوبة جنون، دون سبب واضح سوى هوسها بحبيبها السابق ــ والد نورما جين ــ الذي خلَّف انفصاله عنها هوسًا بالذات وما يقع خارجها، وعيًا مضاعفًا بالجسدي وامتداداته الفوضوية، لدرجة أنها افتقدت المفاهيم اللغوية المجردة، مما أدى إلى انهيار متلازمة اللفظ إزاء المعني، فكلمة الابن/الابنة افتقدت لما تنطوي عليه من تكثيف عاطفي ينعكس على الرؤية المادية والجسدية.
فالابن/ الابنة كامتداد لجسد الأب/الأم فشلت في تحويل وهم إقصاء الذات إلى نموذج إيجابي، وعلى النقيض أثقلت أكثر على فكرة أن الامتداد هو الخروج عن النموذج الجمالي والاجتماعي المثالي التي تحسب نفسها عليه، لترى طفلتها شيئًا زائدًا دمر حياتها العاطفية والنفسية، ما يحفزها نحو نوبات عاطفية ونفسية شديدة التطرف، وصلت إلى محاولة قتل ابنتها في حوض الاستحمام.
يقفِز دومينيك بعدها فوق فترة مراهقة نورما جين في الملجأ، يمحوها بالكامل من قاموسه الفني، لهذا تبدو الشخصية مبتورة وغير مكتملة، والحقيقة أن المخرِج لا يحاول سد الفراغ الزمني، بل يحلق فوقه نحو الشباب الفني، ليخلف وراءه الكثير من الاحتمالات التي لا تجد لها مكانًا على الشاشة، فنصطدم بالخواء على مستوى التأسيس، وبعدها يبدأ المخرِج في تمرير ثلاثة أفكار مهمة بالنسبة له، الأولى الجنس؛ العرض الجسدي والجنسي لحياة مارلين مونرو يخلق منها دمية جنسية، سواء كانت مجني عليها أو بإرادتها، الفكرة الثانية هي السذاجة المفرطة؛ التصرفات الطفولية المرتبطة بعقلٍ خائف وغير متزن تأخذ نصيبًا كبيرًا من الأحداث.
الفكرة الثالثة تجمع بين الفكرتين السابقتين بالتعرض للشخصية بمنهجية داخلية، أي أن معظم ما نراه من أحداث يندرج تحت ما يسمى الرؤية الداخلية للبطلة، فالحدث ذاته يقع بأكثر من طريقة تبعًا لرؤية كل شخص. وبناء على هذه النظرية، التي ليست نهائية بل مجرد تخمين لتفكيك السردية الفجة، يرى المشاهد الأحداث بعين مارلين ذاتها، التي كما يوظفها دومينيك. ونحن نرصد من خلال هذه الوقائع أنها منتهكة ومغتصبة ومسلوبة الإرادة، ولكنها على الجانب الآخر كشخصية في الفيلم من لحمٍ ودم؛ لا ترى نفسها كذلك بل تترك ذاتها أكثر للوخز والنهش، كسلعة مجردة من القيمة، كآلة تصوير أو مصباح إضاءة داخل أستوديوهات هوليوود، وهو الشيء الغريب، فالشخصية ذاتها غير متحركة داخل السردية، بل ثابتة وراكدة، لا تتطور إلا على مضض لتعود في دائرة عود أبدي غريبة ومنفتحة بشكل فج على زوايا ربما غير ضرورية للعرض، الجدير بالذكر أنه من الممكن مشاهدة الأحداث كأنها حقيقية، غير أن بعض المشاهد ستداهمك بغرابتها وتطرفها، حين يجر اثنان من الحراس مارلين مونرو داخل قصر الرئيس كينيدي (كاسبار فيليبسون) كأنها معتقلة أو مجرمة، لتدخل الغرفة وتجد كينيدي عاريًا تمامًا يتحدث عبر الهاتف عن شائعات علاقاته النسائية وتأثيرها على مكانته؛ فيما يدفعها لعملية جنسية مقززة وغريبة، وعلى هذه الشاكلة يتعامل المخرج مع بطلته، كقطعة من اللحم، لكل ذكر قضمة.
يزيد دومينيك من تكتلاته المعقدة؛ فيخلق نمطًا ازدواجيًّا داخل سردية جوانية، ويعرض لشخصيتين داخل فرد واحد، نورما جين؛ الصوت الأصلي والرؤية الذاتية والإرادة المستقلة للبطلة، ومارلين مونرو؛ الاسم التجاري والصوت المزيف والإرادة المنساقة عبر ستوديوهات هوليوود. والغريب أن الاثنتين ليستا متنافرتين في السمات الشخصية، بقدر ما يحملان اتجاهات مختلفة ورؤى متباينة؛ فكلتاهما تحمل الهشاشة والسذاجة وذاتها، كلتاهما تنساق داخل عمليات جنسية غير متكافئة، أي أن الاثنتين محصورتان داخل السمات الصبيانية ذاتها، بيد أن أحدهما، مارلين مونرو، تصدر كأيقونة لها حضور وإثارة، والأخرى تكره الأولى، لأنها ترغمها على تصدير هذا الوجه الكاذب، فيما تتعذب من الداخل.
أسهمت ستوديوهات هوليوود في خلق شخصية مونرو، شخصية مصممة لتصبح أيقونة إغراء، أداة دعاية لجمع المال من جيوب المستهلكين، وعلى الجانب الآخر نورما جين، بطانة مارلين الداخلية، لا ترى نفسها جميلة في الأساس، مطاردة بصورة والدها في كل عشاقها وأزواجها، تضطر إلى المرور بثلاث تجارب حملٍ فاشلة، ومع كل اختفاء لجنين، تعود مرة أخرى للعمل في الأفلام، وتتبادل الأدوار مع قرينتها مارلين، ثم تبكي لأنها رجعت مرة أخرى للعمل، فتقع في الحب، وتبتعد عن العمل، ثم تحمل، فيسقط الجنين، فتبكي وتعود مرة أخرى للعمل، في دائرة مفرغة مأساوية وأحيانًا سادية وفجة. ويحمل الاضطراب النفسي الناتج عن فقدان الأجنة داخله انكسارًا يهشم نورما جين أكثر؛ يدفعها نحو الهاوية الأخيرة، ولكنه على الجانب الأخر يغذي مارلين مونرو، ويجدد حضورها.
تحمل البطلة اسمًا مركبًا، نورما جين، ويحدث أن يختزل المرء في اسمه، منذ ولادته؛ يبرِم عقدًا صوريًّا دون إرادته، يصدر الاسم المختار كنائب وممثل عن المادة المدركة بالعين، علاقة معقدة في جانبها اللغوي والمادي، تسقط على الروح، وتمنح الفرد معبرًا نحو مجتمع يقوم في متنه على اللغة والتواصل، نورما جين خلقت في جزئيتين، خلقت نورما ولحقتها جين، فرد مركب، جسد واحد يخفي روحين، يضمر روحًا بالداخل، واحدة يكاشف بها ذاته، والأخرى يبديها للعيان، نورما جين مضطربة، تذوب داخل أكواب وقوالب أخرى، لكنها لا تجد ذاتها، اسم نورما جين يضيف ارتباكًا ويبرر اختلالاً ولو بشكل وهمي، لأننا بشر نصطدم بحاجز المادة، لا تسمح لنا عيوننا المجردة باختراق الأرواح، لهذا نولي اهتمامًا باللغة والأسماء المجردة، نتخيل أن لكل فرد نصيب من اسمه، لكن جزئية الاسم وما ينطوي عليه لم تكن محلاً للتناول داخل الفيلم، مع أنها فرصة ذهبية، بل آثر دومينيك أن تكون معضلة الانفصام أكثر فجاجة، بمنح مارلين هوية مستقلة، وربطها بنورما جين، فأصبحا نقيضين، بيد أنه لم يحاول اختراق نورما خارج حيز الجسد، لم يحاول دق أبواب مختلفة للتغلغل داخل الشخصية المؤرخ لها بصريًّا داخل التاريخ السينمائي، ورُسم لها خط خيالي مهموم بالجسدي في المقام الأول، ويتعاطى مع النفسي والروحي في طبقات أدنى، فيعرف العلاقة الجنسية كموازاة لفقدان الأب، ويجانس بين غياب السلطة الأبوية المصغرة وتضخم السلطة الأبوية الاجتماعية والذكورية، فنراه يحاول إلحاق الاختلالات بالشخصية من خلال التشوهات البصرية للصورة ليعكس الاضطرابات الشعورية والمنعطفات الحياتية التي تمر بها خلال التجارب الجنسية.
يوجد مشهد جنس بين نورما جين وكاس شابلن الابن (خافيير صامويل) وإدوارد ج. روبنسون الابن (إيفان ويليامز)، مشهد جسدي بحت، على مستوى الأداء والصورة، التشوهات والانتقالات والانحرافات التي يتلاعب بها دومينيك توضح منهجيته في التعرض لشخصية مارلين مونرو، يفتح باب الجسد ويمرر منه ركام المشاعر، بوابته الجسد؛ ما أخرج الفيلم نحو مساحة فجة لم يكن لوجودها طائل، فالجميع يعرف جسد مارلين، ربما أراد المخرج رصد الذكورية المفرطة داخل ستوديوهات هوليوود، ولكنه على الجانب الأخر عندما حاول سبر أغوار الروح، لم نر إلا محاولات لوجود الميلودراما، مأساة شكسبيرية نعرف نهايتها جيدًا.
الأيقونة المشاعية
إغفال المخرِج لزواجها الأول من جيمس دوجيرتى يزيد الأمر وضوحًا، دومينيك يروم لعرض النجمة في عنفوانها الجسدي، والمرأة في انكساراتها وهشاشتها، يبتغي اصطياد لقطة معينة، موقف واحد؛ وتجميده في متوالية سردية؛ ثم إعادة تشكيله مجددًا في دائرة لا نهائية، في كل مرة يشير للنقطة ذاتها، فيعرض زواجها من جو ديماجيو (بوبي كانفال) الرياضي السابق، يرتكز ــ في تأسيسه للعلاقة ــ على تيمة الغيرة والإغراء، وكلاهما مرسخ في حياة زوجته، بيد أن الزوج يتعرض لجزء من الشخصية، يغار على نورما جين، لكن مارلين مونرو، في لحظةٍ ما، تجردت من سلطة التملك والاستحواذ، قبل أن يدرِك أن الأيقونة في تجسيدها أنوثتها وحضورها الجسدي، تتحول دون إرادتها، إلى ملكية عامة، أو هكذا يتصور الجمهور، يستحوذ عليها بموجب عقد الفرجة، ويتمتع بها رجال السلطة بموجب النفوذ والهيمنة، رآها الجميع في أغلب تحولاتها، وأوقفوا الزمان عند صورةٍ معينة، جمدوا اللقطة، أضحت في ضمائرهم مشاعًا، ملكًا للجميع، أيقونة للإغراء، يستعرض المخرِج ممارسة الزوج للعنف، ويبني عليها شخصية ذكورية واهية، يشكل هيكلاً مجوفًا أكثر هشاشة، بلا جذور، لا نعرف عنه شيئًا، وهذا يؤكد على السردية الموازية، التي تهتم بالأصل بقدر ما تميل للفكرة. ثم يأخذنا المخرِج نحو النقيض تقريبًا، بمثال أقل عنفًا، نموذج مثالي للزوج الهادئ، الكاتب آرثر ميلر (أدريان برودي) يمنحها قلبه، كل شيء كان يسير بشكل مثالي، حتى سقط الجنين؛ ليتغير كل شيء، يستعرض دومينيك خلال فيلمه الذي يقارب الثلاث ساعات، عدة عمليات جنسية، ولكن ما هو أكثر إثارة من الجنس بالنسبة له؛ الإخفاق، حياة نورما جين حافلة بالإخفاقات، أخفقت في حب نفسها، وفي الولادة، وفي الحفاظ على علاقة، وفي وضع حدود مادية وفنية لحياتها وجسدها، سلسلة من الإخفاقات، تورط نورما أكثر في مارلين، أن تفعل ما تتقن فعله حقًا، أن تكون أيقونة سينمائية، وفي النهاية نحن لا نتعلق بالشخصية ــ في هذا الفيلم ــ لأننا نحبها أو نعجب بها، بل لأننا نشفق عليها فقط.
هذه الوقائع البغيضة تخلف وقعًا مزعجًا في النفس، لأننا بعد كل هذه الدقائق، لا نرى نورما جين إلا من خلال منظور جسدي بحت، من المستحيل أن تكون سيرة مجردة مما هو غير جسدي ومادي، حتى لو كان العالم كله يرى مارلين كذلك. لكننا نحتاج إلى معرفة أكثر عن ذاتها كإنسانة، ليس من خلال العاطفة أو الجسد، لا من خلال الجنس، بل من خلال رؤية محايدة تخترق روحها، وتفكك المثيرات والدوافع، أنا أفهم أن الفيلم نقدًا لنظام هوليوود الغير أخلاقي، وهو كذلك خلق نمط بصري مميز ومسلي وقابل للمشاهدة؛ فليس منتظرًًا من الأفلام أن تكون محايدة، ومع محاولات دومينيك للعب داخل عقل بطلته، وإيهام المشاهد بأكثر من حيلة يستعرضها، مثل الحيل النفسية الكاذبة التي كانت تؤمن بها بطلته داخل الحكاية، ولكنه لم يصل إلى الرؤية التي تقترب أكثر من روح نورما جين، دمية جنسية كانت أو نصف إنسان خانع يتلقى الأوامر.
توجد بعض النقاط الغامضة والمثيرة للتساؤل، أولها اختفاء الأشخاص من حياتها بنهجٍ مبهم، يتلاشون في غمضة عين، يتساقطون في غرفة المونتاج، وكأنهم أزرار قميص تنقصف فتلمها وتدسها في جيب المعطف، أو في حافظة جلدية دقيقة وضئيلة مثل أناملها، ومثل أزرار القميص ينتهي دور الشخوص دون أثر جانبي أو رجعي، فكل شخص قابلته مارلين اختفى بعد مغامرة جنسية تقريبًا. كذلك تضطرب سردية دومينيك وتنحل تحت وطأة التحولات، تقلبات الصورة بين الأبيض والأسود والألوان تلخص عشوائية السردية، لم تخدم الانتقالات موتيف بصري أو تيمة قصصية معينة، ولم تشارك في توضيح جزء معين من القصة، من الممكن تفسيرها كاستعراض للعضلات، بيد أنها أدخلتنا في جو الحكاية من باب بعض اللقطات التي أحياها المخرج من شريط أفلام مارلين.
فيلم “شقراء” ليس سيئًا ولا جيدًا؛ هناك منطقة تقع بين الجيد والسيء، منطقة البين بين، مساحة فنية هائلة لا يمكن تعريفها على وجه الدقة، مساحة لا يمكنك فيها إلا الإعجاب والاشمئزاز في الوقت ذاته، تفتقد لثقل الحقيقة ورسوخ التاريخ، تنسلخ عن اليقين والكذب في آن، نحن أمام عمل سينمائي خضع لإرادة النص الأدبي في خلق نموذج متخيل ومضاد لمارلين التي نعرفها من خلال الشريط السينمائي، الأيقونة ذات الضحكة والغمزة والجسد، التي كانت ضحية متحركة دون إرادة.