المشهد الأول (Paths of glory)
اتخذت قيادة الأركان قرار اقتحام أنتهيل. طمح اللواء المسؤول إلى فرصة يثبت بها جدارته لرتبة أعلى. يزور بنفسه الخنادق على جبهة القتال. نتابعه هو ومساعده في منتصف الشاشة يتجول ويلقي التحية في أثناء المرور بكتيبته. يتقدم تجاه المشاهد وتنسحب الكاميرا أمام خطواته. يقف أمام مجموعة من الجنود، ويخاطب أحدهم في محاولة لرفع الروح المعنوية للمقاتلين. تتبدل لقطات قريبة لأطراف الحوار تحافظ على خط وهمي بصريًّا، وهو الخط الذي يحفظ للمشاهد الاستمرارية بالإبقاء على مكان المصور في جانبه في كل لقطات المشهد. يبدو الجندي المخاطب شاردًا ومضطربًا، وبعد استفسار قصير ينهار فيصفعه اللواء ويأمر بنقله خوفًا من بث روح الانهزام بين زملائه. يكمل اللواء مسيرته بصحبة مساعده بينما تنتقل زاوية التصوير إلى ما خلفهما. يتبدل مزاج المشهد وتظل الاستمرارية بفعل تناغم حركة الكاميرا بالانسحاب أمام الإقبال والمتابعة خلف الماضي.
المشهد الثاني (The Shining)
بعد أن وصل الخلاف بينه وبين زوجته إلى حافة الهاوية، دخل جاك تورنس (نيكلسون) قاعة الاحتفال بالفندق ليتناول مشروبًا وهميًّا وسط حضور خيالي من عشرينيات القرن الماضي. يتجول وسط الجمع والموسيقى ليصطدم بنادل يحمل كوكتيل يحتوي على الأفوكادو. يستسمح النادل ويصحبه إلى دورة المياه لإصلاح تلك الورطة. يدخلان الحمام لتستقبلهما عدسة كوبريك داخل لقطة كاملة . يقسم موقفهما الشاشة، جاك على اليمين يقابله النادل، يحاوطهما صفا المراحيض والأحواض إلى عمق اللقطة ومدخل الغرفة. تمهد اللقطة لخط وهمي يهيئ المشاهد للقطات القادمة التي من المنتظر تحافظ على مواضع كتل ومسافات الصورة في أماكنها. يكملان ثرثرتهما حتى يسأل جاك النادل عن اسمه، فيجيبه “جريدي”. يؤكد ستانلي تركيزنا على رد جريدي بانتقال حاد خلف ذلك الخط الوهمي حيث تبدل أماكن طرفي الحوار في حجم متوسط مع الحفاظ عليهما في منتصف الإطار. يتعرف جاك على جريدي بينما يحاول الأخير إنكار ماهيته. يتجادلان حتى يعترف النادل، ثم يذكر جاك بأنه يشاركه الماهية والهم في لقطات قريبة تبادلية تتحول تعبيرات الأخير بها من الارتباك إلى اليقين. حينها ننتقل للزاوية الأولى ولكن تقل حدة التغير هذه المرة لسببين. الأول هو ما تمت تهيئته كمسار لتتابع اللقطات مسبقًا. والثاني هو اندماج طرفي الحوار في كيان واحد. صار ذلك الكيان شخص وانعكاسه داخل صورة سيميترية متوازنة. وأكملت تلك السيميترية دائرة رحلة جاك لتعود به من حيث بدأ وتطابق ماضيه بحاضره وكابوسه بواقعه.
بين المشهدين السابقين مسافة ربع قرن. كان الفيلم الأول يمثل السطور الأولى لرسالة ستانلي كوبريك، والفيلم الثاني بداية السطور الأخيرة. في رحلة من ١٣ فيلمًا، منذ خمسينيات القرن الماضي حتى نهايته، خط كوبريك اسمه في تاريخ أهم السينمائيين تأثيرًا. فاحتل اسمه المركز الثاني في استفتاء مؤسسة السينما البريطانية حول الأعمال المفضلة للمخرجين المعاصرين، بأسلوبه المميز الملحوظ الذي ندركه بمشاهدة دقائق معدودة من أي عمل له، والانتباه لأثره في أعمال خلفائه. يكاد المشهدان السابقان أن يتطابقا، لكن ما بدأه ستانلي في فيلم الأول وحققه في فيلم الثاني هو الاندماج والتناغم الكاملين بين القالب والمحتوى. وصل المخرج إلى تضافر بين المضمون والنوع والسرد واللغة السينمائية. وعزز أسلوبية فائقة بقيت للمشاهدات المتكررة والمرجعية. لذلك لم يكن مارتن سكورسيزي يبالغ إذن عندما وصف فيلم كوبريك بأنه “يوازي عشر أفلام لأي مخرج آخر”. كما عبر ستيفن سبيلبرج عن تأثير فيلم كوبريك بأنه “ينمو بداخلك”، مشيرًا إلى انطباعاته الأولى عن فيلم (The shining) وكيف صار من أفلامه المفضلة بعد أن لم يعجبه في المشاهدة الأولى.
1
قدم كوبريك أنواعًا مختلفة؛ منها النوار (The Killing)، والخيال العلمي (2001: A space odyssey)، والتاريخي (Barry Lyndon)، وغيرها. وبين جميع ما أخرج حافظ على عنصر الجريمة في أفلامه. حتى وإن كان هاجسًا في الخلفية مثلما شاهدنا في آخر أعماله (Eyes wide shut) مصير تلك المرأة التي أنقذت توم كروز من مصير مجهول عندما اكتشف أمره كدخيل على حفلة سرية، وصديقه عازف البيانو الذي دله على المكان وكلمة السر للدخول. رأى ستانلي في الجريمة فرصة فريدة لبلورة المسألة الإنسانية. عادة ما تواجه الجريمة المجتمع المعاصر بسؤال واضح حول إطار منظومة القيم الممارسة. وتصلح نقطة انطلاق لاكتشاف تجربة، إنسانية أو فردية، وجدانية
المشهد الثالث (Lolita)
افتتح الفيلم بمشهد النهاية وخلق منه قاعدة للسؤال ونقطة للرجوع. نسير على طريق ضبابي من عين سيارة. يصل هامبرت (جيمس ميسون)، شخصيتنا الرئيسية والراوي، إلى منزل كويلتي (بيتر سيلرز)، غريمه كما سيتبين على مدار الفيلم لاحقًا. قصر ذو استقبال شاهق مكدس بأثاث غير متناسق وكثير من المهملات وبقايا الولائم. ينادي هامبرت وهو يتجول وسط ذلك العبث حتى يظهر له كويلتي على أحد الكراسي مستيقظًا مخمورًا من تحت ملاءة. يدور بينهما حوار متنافر بين الهزل والبؤس. يقفان على طرفي طاولة بينج بونج. يحاول هامبرت مصارحة كويلتي بعزمه قتله بمسدس موجه صوب الأخير، بينما يلهو كويلتي بمضرب وعدة كرات متجاهلاً التهديد. يبدو المشهد انتقاميًّا والخلفية ذنب غامض. تثير الافتتاحية التساؤل حول ماهية ذلك الجرم ودوافعه، وكلما اندفعت رحلة المشاهد ازداد التساؤل عن أطراف الحادث الأول تعقيدًا.
المشهد الرابع (Full metal jacket)
يستيقظ أحد أفراد الفرقة العسكرية ليلاً، الجندي جوكر، ويدخل دورة المياه الخاصة بالوحدة. يفاجأ بزميله الجندي بايل يجلس على مرحاض وبجواره بندقيته. يبدو لنا تبدل حال بايل الذي تصاعد في مشاهد سابقة ليصل ذروته ويفقده عقله. يحاول جوكر تهدئة بايل دون جدوى. يستيقظ قائدهم وينضم لهم غاضبًا في ملابسه الداخلية محافظًا على طاقيته العسكرية. ينفجر منفعلاً مهينًا بايل كعادته ويقابله الأخير بالرصاص مبتسمًا. لحظات ثقيلة تمر على جوكر في ذلك الموقف المرعب قبل أن ينهيه بايل ويضرب نفسه بالرصاص. تنتهي هنا فترة الإعداد والتدريب في الفيلم وننتقل إلى فيتنام، أرض المعركة. نبدأ رحلتنا بعد أن رأينا كيف استعد هؤلاء الجنود وكيف جردوا من إنسانيتهم. ونرافق جوكر، الشخصية الرئيسية والراوي، وهو يتأمل التبعات على الأرض، ونتساءل حول قيم مثل الشرف والوطنية والشهادة.
الفرق بين المثالين السابقين يصقل الأخير. عندما يتعلق الأمر بحرب، تصير عواقبه أكثر مصيرية وتضع أفراد وجماعات في اختبار أكثر صعوبة لارتباك الظرف العام وتكلفة اختياراته الباهظة. وفي كل الأحوال، تظل المسألة دائرة مثل الين يانج. ذلك الرمز الطاوي الذي يحمل الضدين داخل الكل دون أن يخلو أي طرف من طبيعة الآخر. حينها يسمو التغيير الثابت وينعدم المطلق. وإذا اتجهنا غربًا وجدنا صدى لتلك النسبية في منظورية نيتشه بمعزل عن الخير والشر. وإقرار التجربة الإنسانية بعيدًا عن المثالية الموروثة ثقافيًّا. ظهرت أفكار أخرى لنيتشه في رؤية كوبريك، لكن التطرق لها سيأتي لاحقًا.
2
تدور أفلام كوبريك، المقتبسة جميعها من أعمال أدبية، في إطار شبيه بدائرة الين يانج. تحمل أضدادًا متساوية، وتتطور في طرق دائرية تسلم كل حلقة بها حلقة أوسع. على سبيل المثال، يتساوى الغريمان المتنافسان على لوليتا. كل من هامبرت وكويلتي على صلة بالأدب والثقافة. هامبرت أكاديمي يحاول الإبداع، وكويلتي مبدع في الوسط الفني التليفزيوني والمسرحي. كلاهما في عمر لا يسمح بعلاقة سوية مع مراهقة في الرابعة عشرة، وكلاهما زيف حميمية مع أمها ليتقرب إليها. في حالة أخرى، ترتقي الازدواجية إلى مجال السلوك والهاوية في صراع الإرادة في (A clockwork orange). هل أليكس المراهق السادي مجرم أم ضحية؟ بعد أن حبس ووافق على الخضوع لتجربة علمية جديدة قد تسرع من إخلاء سبيله، يتحول الصراع لواحد بين العضوي والآلي، بين الإجبار والاختيار. وذلك لأن التجربة نجحت في تسخير جسم أليكس ليرفض العنف أو حتى أفكاره، لكن الثنائية بقيت بين رد فعله الفسيولوجي ووعيه.
يعلق راوي (Barry Lyndon) “يحتاج شرح أسباب حرب السنوات السبع، التي اجتاحت أوروبا وتزحف نحوها كتيبة باري، إلى فيلسوف ومؤرخ عظيم”. هذا هو السياق الذي تدور رحلة شخصيتنا الرئيسية فيه، بريطانيا وأوروبا الإقطاعية في القرن الثامن عشر. حرب لا قضية فيها، ومجتمع غير عادل. وباري (ريان أونيل)، شاب أيرلندي هارب من بلدته وسطوة إقطاعييها بعد مبارزة واحد منهم. يخسر ما يملك في طريقه إلى لندن وينضم إلى الجيش ليضمن قوت اليوم. في رحلته بين الأراضي الأوروبية، تضطره مغامرته لتبديل الولاء والزي العسكري أكثر من مرة. ينتقل بين فصول قاسية في تحدي البقاء، ويلازم مجتمعات محاولا الترقي بحاله، والاندماج مع الأرستقراطية حتى يقتحمها متزوجًا من امرأة من تلك المجتمعات. وفي كل فصل في رحلة باري غاية وعقبات. وبنهاية كل فصل باب ينفذ منه إلى عالم جديد. وتنتهي رحلته حيث بدأت، في أيرلندا، لكن بعد أن ذاق انتصارات وهزائم قطعت الصلة بينه وبين ذلك الشاب البريء الذي غادر بلدته مكسور القلب.
المشهد الخامس (Eyes wide shut)
يصل بيل (توم كروز) غرفة نومه مستعدا لخلع بدلته. يتجاوز الباب فيفاجأ بقناع على وسادته بجانب زوجته أليس (نيكول كيدمان) وهي مستغرقة في النوم. يتقدم بخطوات بطيئة، يجلس بجوارهما، ثم ينهار باكيًا. تستيقظ زوجته على نحيبه فيقول إنه سيخبرها بكل شيء. هذا القناع هو ذاته الذي ارتداه بيل في الحفلة السرية ذات الطقوس الجنسية التي تم اكتشاف أمره كدخيل بها. الحفلة التي كانت جزءًا من ليلتين كابوسيتين. قادته هواجسه بعد مواجهة مع زوجته حول الإخلاص والخيانة إلى خبايا في المدينة هزت رؤيته حتى للمألوف منها. بين تلك الليلتين زار غرفة النوم ووجد زوجته في نفس الوضع، نائمة تحلم. أيقظها عندما شعر أنها مستاءة من حلمها. قامت، وبدأت تعي ما مرت به، ثم حكيت له كابوسها وسط دموعها. وكاد كابوسها يتطابق مع مر به زوجها تلك الليلة، بوصفها لمشاهد شبيهة بتلك التي رأيناها في الحفلة المذكورة .
نرى في المثالين الأوليين عرض للأزمة على المستوى الفردي، مستوى الشخصيات، داخليًّا وخارجيًّا، مثل تداخل طاقتين متضادتين. أما المثالين الثانيين فهما نموذجان لهيكلية السرد. واكتساب المشاهد معانيها من سياق الفيلم بأكمله، كما في استنباط اللغة وحضور معنى الكلمات من خلال علاقتها بباقي المفردات. تتألف سردية كوبريك من حلقات مسلسلة ينعقد طرفي نهايتها. يبدو التطور ذاتي الإرادة، وطريق الوصول، رغم ألفته، جديدًا في عين سالكيه.
3
ترجم ستانلي ذلك السرد إلى جمل سينمائية من لقطات منزهة. يمكنك الشعور بالحالة الخاصة لعالم كوبريك من أصغر وحدة حتى اكتمال الصورة الكلية. بداية من شخصياته وما يدور داخلهم، رأي ستانلي في تعبيرات الوجه ما قد يختزل الكثير من النزاعات. اهتم كمدير ممثل بالأسلوبية أكثر من الواقعية، أو ما سمي بالمنهجية، ولذلك اشتهر بالإعادات التي تجاوزت المئة أحيانًا حتى يحصل من ممثليه على ما يريد. وكثف ذلك في لقطاته القريبة التي صارت إحدى علاماته المميزة. وقد اكتفى بها أحيانًا في تكوين مشاهد كاملة، عن طريق مراقبة ذلك التوتر أو التحول في وجه الممثل . وجد ذلك التركيز بشكل متناغم مع محتوى (Barry Lyndon) في اللقطات القريبة التي تباعد عنها حتى كونت لقطة بعيدة تحاكي لوحات المدرسة النيوكلاسيكية في العهد الجورجي. ووجهت حركة الكاميرا أعيننا داخل تلك اللوحات لتحول الثابت إلى حيوي، وتخلق قصة داخل ذلك الإطار. لم يكتف بذلك في بعض المواقف وعكس الضغط على شخصياته بصريًّا من خلال تسليط ضوء علوي عليهم. وصور ذلك للتعبير عن حالة جماعية في (Dr. Strangelove).إذ يدور أغلب الفيلم بين ما يحدث في سماء قاذفات الB-52 وغرفة الحرب ذات الطاولة المستديرة، حيث اجتمع الرئيس الأمريكي مع كبار المسؤولين في محاولة لوقف كارثة قد تنهي العالم5.
حضرت تلك الدائرة ظاهريًّا في بداية مشوار كوبريك، ثم أخذت تتلاشى لصالح نموذج أكثر تجريدًا؛ بداية من ميدان سباق الخيل في (The killing)، نرى علاقته بعملية السطو وأمل أفرادها في تحسين واقعهم، وكلاي (ستيرلنج هايدن) الذي خرج من السجن ويخطط لتعويض تلك السنوات لكن مصيره يوازي خيل السباق الذي يخرج ويعود إلى الإسطبل. ثم تنتقل تلك الدائرة لرحلة الإنسان في (2001: A space odyssey) وتتقابل المدارات الفلكية مع شكل المراكب، وتصميمها الداخلي الذي يطوف به رواد الفضاء، مع رحلة تطوره. وفي مرحلة متقدمة، يذوب مفهوم الدائرة مع التكوين البصري وحركة الكاميرا في عالم (The shining). تحل الأنماط المتكررة في الفندق ومتاهة حديقته داخل عالم “اليمبوس” محل الدوائر. واستخدامه الكاميرا المحمولة “steady camera”، في أول توظيف يلفت الأنظار لما يمكن أن يضيفه استخدامها في السينما، وهي تلاحق الابن الراكض بدراجته داخل أروقة الفندق فوق سجاده ذي النمط المتكرر وأرضه الخشبية ويتغير صوت عجلاته بالتبادل فوق السطحين.
انتقل أسلوب حركة الكاميرا الانسيابية من المخرج ماكس أوفلس إلى ستانلي كوبريك. وقد ذكره ستانلي ضمن المؤثرين به. وتميزت أفلام ماكس أوفلس باللقطات الطويلة المتابعة لحركة الممثلين داخل تصميم يسمح بتجاوز الحواجز دون فواصل. وصنع ماكس ذلك في سياق قصص متسلسلة لها مركز تدور حوله الأحداث. على سبيل المثال؛ الملهى الليلي في (La ronde) والحلق في (The earrings of madame de…). استعار ستانلي تلك الحركة في مصاحبة الشخصيات داخل أماكنها. كانت الحركة تبدو متواصلة تمر خلال الجدران في أثناء تفقد هامبرت البيت الذي استقر على إيجاره في أول فيلم (Lolita) . في مح(اولاته الإضافة إلى فن السينما والتلاعب بالزمن في مدى اللقطة وتكوين جمل سينمائية، اقتصر ستانلي طول الحركة في مقابل إيقاع ما يصوره. وفرت خفة جاذبية الفضاء في (2001: A space odyssey) مجال لحركة بطيئة بطبيعتها استجابة لظرف المكان وقواعده الفيزيائية. كانت خطوات الركاب داخل المركبات ودوران المركبات في السماء بمثابة فالس على أنغام الدانوب الأزرق. استهوت الحفلات الراقصة كوبريك وكانت ضمن الأماكن المكررة في أفلامه. وإن لم تحضر الرقصات وجد مجالاً لها كما فعل في رؤيته لأفلاك الفضاء أو عصر التنوير. وتجاوبت حركة الممثلين لإيقاع هذا العصر كأنهم شخصيات في أوبراته.
المشهد السادس (Barry Lyndon)
بعد أن أكدت نظراتهما مشاعرهما، خرجت ليدي ليندون إلى الشرفة. تجاوبت عيناها مع باري بمراقبة مساعدها على أنغام شوبير، ثم لحقتها خطوات باري على إيقاع نفس المقطوعة. نراه يمر خلف النافذة. شعرت بوجوده يقترب منها تحت ضوء القمر. التفتت له، أمسك بيديها فحركت نسمة ريش قبعتها. أقبلا نحو بعضهما بخفة ليقبلها).
لم يكن المشهد السابق المرة الأولى التي ينتقص فيها ستانلي الحكي السينمائي ليخلق لغة مبهرة. عرضت مشهدًا توحد فيه المحتوى والمضمون في بداية هذا المقال. ختامًا سأعرض مشهد تتوحد فيه رؤية ستانلي وخلاصة فيلمه في جملة سينمائية شديدة البساطة، مجرد لقطات متقابلة داخليًّا.
المشهد الأخير (2001: A space odyssey)
تدفع الرحلة إلى المشترى الرائد ديف، أو بعبارة أخرى الإنسان، إلى المرور بثقب أسود. وهو طريق لا تدركه التجربة الإنسانية. عندما يتجاوزه، يجد مركبته في غرفة نوم على طراز نهضوي مغلوط . يبدو أن مصمميه ظنوا أنه سيكون مألوف لساكنه على قدر معرفتهم به. يرى ديف نفسه من نافذة المركبة واقف في الغرفة وقد ظهرت السنوات على وجهه. يتجول ويدخل الحمام وسط ضجيج مجهول وكأنه أصوات غير مكتملة متداخلة من عالم آخر. ينتبه مرة أخرى لغرفة النوم ليجد نفسه وقد شاخ على طاولة طعام صغيرة. يلتفت الشيخ لهاجس ما ويقوم بخطوات ثقيلة نحو الحمام ليجده فارغًا. يتلاشى وعي كل مرحلة عندما تجد لاحقتها. يرجع لمجلسه، يسقط منه الكأس سهوًا ويتفتت على الأرض. ينتبه لذاته وقد صار كهلاً على الفراش . ينتقل وعيه لتلك المرحلة ثم يواجه “المنليث”، القائم الصخري الذي دلنا في رحلتين سابقتين إلى القمر ومنه إلى المشترى. الشاهد الذي يمكن استنباطه كواصل بيننا وبين ما بعدنا نحن بني آدم أو بيننا وبين كيان خارق وذكاء مطلق. يحاول الكهل ملامسة المنليث في محاكاة لتصوير ميكلانجلو تواصل الإنسان مع الإله. يصير ديف، الإنسان، حينها نواة التطور. جنينًا يطلق مرة أخرى نحو العالم لكن بعين مبصرة، آملاً، بوعي أرقى.
هنا تجاوز ستانلي التعريف المألوف للمشهد كوحدة زمان ومكان؛ فالغرفة محل التصوير غرفة كونية خارج الظرف، والانتقال بين لقطة وأخرى يمثل قفزات زمنية. اجتمعت الأزمنة عندما غابت وتمخضت عن سينما متجاوزة. ينهي رحلة الإنسان على مقطوعة “هكذا تكلم زرادشت” عندما حضر وعي جديد كما تنبأ نيتشه. ودمج الموضوع في القالب، كما هو متوسم في ذلك الجنين أن يوحد المعرفة والإنسان، وتكتمل الدائرة.