كان أنور وجدي مغرمًا باليهوديات، لم تكن ليلى مراد اليهودية الأولى في حياته، ولم تكن محاولته لاجتذاب كاميليا المنسوبة لأصول يهودية هي محاولته الوحيدة، فأولى مغامراته العاطفية وهو في الرابعة عشرة من عمره كانت مع إحداهن، جارتهم اليهودية الفاتنة في (الضاهر)، كانت
الفتاة مشهورة في محيط المنطقة وحاول العديد من الشبان التقرب منها دون جدوى، ولذا قرر أنور أن يختبر قدراته في ملاطفة النساء لأول مرة، فانتظرها ذات يوم في شارعها وما إن ظهرت حتى تقدم منها وبدأ في سؤالها عن أقاربها ومعارفها وجيرانهم المشتركين، تجاوبت معه الفتاة وبادلته الحديث فتشجع ودعاها لنزهة نيلية في اليوم التالي، وفيه صحبها واستقلا الأتوبيس معًا، وسارا بجوار النيل، وجلسا في مواجهته، ثم صارحها بحبه بعد يوم واحد من تعارفهما، وما كان من الفتاة المنجذبة للشاب الوسيم ذي الشعر الناعم إلا أن بادلته كلمات الحب، واتفقا على ألا يفترقا أبدًا، وسرحا في الأحلام الوردية، وشرعا في التخطيط لزواجهما وعيشهما معًا. غير أن الحلم لم يستمر طويلاً، ففي ذلك الحين كان أحد أنداد أنور الغيورين قد ذهب لوالد الفتاة وأخبره أنه رأى أنور في صحبة ابنته خارج الحي وأوغر صدر الأب تجاه الشاب أنور. انتظر الوالد وأبناؤه الثلاثة أنور عند مدخل الشارع، وما إن رأوه حتى تقدموا نحوه وانهالوا عليه ضربًا فبادلهم أنور اللكمات إلى أن تجمع الناس وكادت تتحول المشاجرة إلى حادثة طائفية بين المسلمين واليهود حينما تجمعت كل طائفة في صف ابن ملتها في مواجهة الآخر وأبناء ملته، لولا تدخل بعض العقلاء الذين فضوا الجمع وانتهت علاقة حبه الأولى يوم أن بدأت.
بعدها بعدة أعوام، ثلاثة أو أربعة، جمعته علاقة بيهودية أخرى، كانت جارة أيضًا، في الصباح طالبة وفي المساء تعمل بشباك التذاكر في إحدى دور السينما، استوقفته ذات يوم وطلبت منه أن يصحبها إلى عملها حماية لها في مقابل تذكرة مجانية بالفيلم، وافق أنور وأصبحت هذه هي مهمته اليومية، يصحبها إلى السينما، يشاهد الفيلم مجانًا، ثم يعود بها إلى بيتها. وتطورت العلاقة من حماية إلى ارتياح إلى حب، وكانت هذه الفتاة ورحلته اليومية في صحبتها إلى السينما سببين أساسيين في تعلقه بهذا العالم المبهر، حبه للأفلام والشاشة الكبيرة وهيامه بالتمثيل وسيطرة هوليوود على أفكاره وصولاً إلى محاولة هروبه إليها على ظهر إحدى السفن.
ربما كان الانجذاب إلى اليهوديات وعالمهن الأكثر تحررًا سمة من سمات هذا الزمان، خصوصًا لشاب يسكن في الضاهر حيث يتمركز اليهود. على كُل، كانت هذه مغامرات المراهقة، غير أن ولع أنور باليهوديات ظل مستمرًا، فارتبط بـ (ماريا) بعد فشل زيجته الأولى، وتزوج من ليلى مراد، وغازل ليليان كوهين الشهيرة بكاميليا المنسوبة لأب يهودي وأم مسيحية، وما خفي كان أعظم.
****
في عام 1945، تغير العالم وتبدلت القوى، انتصر الحلفاء وأبادوا هيروشيما ونجازاكي، انتحر هتلر، وتزوج خوان بيرون من إيفا بيرون، وولد البرازيلي لولا دي سيلفا، كما ولدت الممثلة ميا فارو، وصدرت رواية (مزرعة الحيوان) لجورج أورويل، واغتيل رئيس الوزراء المصري أحمد ماهر داخل قاعة البرلمان على يد أحد أعضاء الحزب الوطني – القديم – في أثناء استعداد الوزير لإعلان مشاركة مصر في الحرب العالمية بجانب الإنجليز.
وفي يوم الإثنين 5 نوفمبر 1945 عُرض فيلم (ليلى بنت الفقراء) للمرة الأولى في سينما (ستوديو مصر)، حيث كانت دور السينما تطرح أفلامها الجديدة في الاثنين من كل أسبوع، وظلت على هذا الحال حتى التسعينيات، عندما تم استبدال الأربعاء بالاثنين. لا أعرف الحكمة تحديدًا من وراء هذه الخطوة، ولكن يبدو أنه تم اختيار الأربعاء كونه اليوم السابق على إجازة نهاية الأسبوع. مع عرض (ليلى بنت الفقراء)، اعتلى أنور وجدي المكانة التي ظل يسعى إليها منذ أكثر من عشر سنوات. ومع أن فكرة الفيلم وحبكته أصبحت تقليدية ومكررة لنا الآن، إلا أن حوار بديع خيري ومساهمة كمال سليم المفترضة في السيناريو قبيل وفاته، رغم سقوط اسمه من تترات الفيلم، إضافة إلى أغاني ليلى مراد، حققت للفيلم الخصوصية والتميز المأمولين، كما أتضح تأثر أنور وجدي في مشاهد الحارة التي تسكنها ليلى بأسلوب كمال سليم أو ربما كانت بعضًا من لمسات المخرج الراحل نفسه، حيث بدت الأجواء مشابهة لما قدمه سليم في فيلمه الأبرز (العزيمة).
تجاسر أنور وجدي وتقدم بدعوة الملك فاروق لحضور العرض الأول للفيلم الذي ضم استعراضًا، أُطلق عليه استعراض الجيش، حيث يستعرض فيه مخرج الفيلم أسلحة الجيش المختلفة، ويبدو أن أنور كان طامعًا في منحة ملكية، ربما البكوية على غرار أستاذه يوسف بك وهبي الذي حصل على اللقب ذاته بعد تقديمه لاستعراض عن الأسرة العلوية مُمجدًا حكامها وملوكها ضمن أحداث فيلم (غرام وانتقام)، وهي الرتبة التي كان يشتريها البعض من القصر بمبالغ تصل إلى عشرة آلاف جنيه، كما كتب أنور في الكتاب الدعائي الخاص بالفيلم إهداءً طويلاً إلى الملك فاروق:
” إلى مولاي صاحب الجلالة…
لقد كنتُ يا مولاي، ولا زلت، مسبوقًا بأمل جميل كان لي منه إلهام ووحي واتخذته نفسي منارًا عاليًا وهاديًا، وهو أن يحل يوم أحس فيه بأن في مقدوري أن أرفع إلى سدة مولاي المليك المفدى باكورة إنتاجي، وأطمع في أن يحوز هذا الإنتاج على عطف جلالته السامي.
فإن نال عملي رضا مولاي أو بعضًا منه، فسيكون هذا حافزًا لى على السعي حثيثًا نحو الكمال حتى أستزيد من هذا الرضا الكريم.
وأنا يا مولاي الخادم الخاضع الأمين…
أنور وجدي“.
لم يحقق الفيلم لأنور البكوية، ولكنه حقق ما طمح وخطط له أنور من نجاح مدوٍ وجماهيرية كبيرة، ومع ذلك فإن شهرة الفيلم الواسعة ونجاحه الباهر لم يمنعا عنه أقلام بعض النقاد، فكتب مصطفي أمين مقالاً مُفصلاً عن الفيلم، قام فيه بالسخرية الطويلة من القصة والسيناريو، إلا أنه أشاد بالإخراج والتمثيل، وأنهى مقاله “الفيلم من أجمل الأفلام الاستعراضية التي رأيتها.. وعيوبه تزيده جمالاً، لأن الفيلم المصري الوحيد الذي ليس فيه عيوب هو الفيلم الخام“.
نال أنور في ذلك العام لقبًا آخر، غير ممنوح من الملك في هذه المرة، وهو (فتى الشاشة الأول) الذي سيتحول بمرور الزمن ل (نجم مصر الأول)، وذلك بعد أن عُرض في 1945 أكثر من عشرة أفلام من بطولته، كان أبرزها (ليلى بنت الفقراء)، إضافة إلى (ليلة الجمعة) و(رجاء) و(قتلت ولدي) و(القلب له واحد) و(ليلة الحظ) وغيرها. تربع أنور على رأس قائمة نجوم التمثيل على مر السنين اللاحقة، فاختير في استفتاء مجلة الفن لعامين متتاليين، 1947 و1948، كفتى السينما الأول، إلا أن المنافسة على هذا اللقب ظلت قائمة ومستمرة لسنين، أحيانًا كان طرفها الآخر نجومًا أصغر سنًا مثل كمال الشناوي الذي سيسطع نجمه لاحقًا، أو ممثلين أقل قيمة ونجومية، مثل أحمد سالم، أو محسن سرحان الذي نشرت مجلة الكواكب في سبتمبر 1953 مجموعة من صوره المنزلية تحت عنوان (فتى مصر الأول بالروب والبيجامة).
طبعًا كان المقصود أن أنور هو النجم الأول بالنسبة لأقرانه، ولكننا قد نرى أنه الأول زمنيًا أيضًا، فعبد الوهاب كان معبود النساء ونجم الجماهير، ولكنه مطرب في الأساس مثل خليفته عبد الحليم حافظ، أما حسين صدقي ويوسف وهبي وبدر لاما ونجيب الريحاني وكل من سبقوا أنور وجدي زمنيًا كأبطال، لم يحظوا بهذا النمط من الشهرة والتواصل مع الجمهور، لم يكونوا نجومًا بذلك المعنى الذي دشنه أنور وجدي، تلك النجومية التي سيخلفه فيها فريد شوقي لسنوات، قبل أن تتغير المعايير ويرثها محمود ياسين ثم عادل إمام. هذا النمط من الشهرة الذي يعبر عن متغيرات المجتمع، عبر البطل الذي يحاكي أحلام الناس سواء بقوة الذراع والعضلات المفتولة أو بالفهلوة وخفة الظل، أو بالأناقة والتطلع للطبقات الأعلى، فكل منهم يعبر عن طموحات زمنه، منطقه وقيمه وكذلك نقائصه.
****
دعا أنور جميع العاملين بالفيلم، الممثلين والفنيين والعمال، بالإضافة إلى جمع من الصحفيين والمصورين، إلى حضور تصوير مشهد النهاية للاحتفال بإنجاز الفيلم. كان أنور يرتدي بدلة لامعة وليلى تلبس فستانها الأبيض لتصوير مشهد زفاف البطلين. حينها أعلن أنور وجدي على كل الموجودين بيانًا مهمًا، وهو أنه لن يتزوج ليلى في الفيلم فقط ولكنه قد عقد قرانه عليها فعليًا قبل يومين في قلم المأذونية بمحكمة مصر الابتدائية الشرعية. باغتت المفاجأة الحاضرين، قبل أن ترتسم على وجوههم الابتسامات، مبدين سرورهم وناشرين في الاستوديو مظاهر الفرح، توافدوا جميعًا على العروسين لتهنئتهما، بينما تبادل آخرون الغمز واللمز فيما بينهم، وانشغل الصحفيون بتسجيل وقائع الحدث ليفردوا صفحات وأغلفة ومانشيتات للزيجة الجديدة وقصة الحب التي كانت متداولة كإشاعة على صفحاتهم منذ أيام وأصبحت معلنة ورسمية الآن بعد إنكار الطرفين لحقيقتها طوال الأيام السابقة.
كانت سلسلة أفلام (ليلى..) تحقق نجاحًا كبيرًا، ولكن زواج النجمة من بطل فيلمها الجديد ساهم في مزيد من الرواج لفيلمهما الأحدث، وانهالت عليهما التهاني وباقات الورود، بمناسبة الفيلم تارة وبمناسبة الزيجة تارة أخرى، في بيتهما بعمارة الإيموبيليا عند تقاطع شارعي شريف باشا وقصر النيل في وسط البلد. كانت الشقة مطلة على مسجد مجاور للعمارة، مما سبب إزعاجًا لليلى التي كانت تستيقظ على صوت آذان الفجر كل صباح، حتى طلبت من أنور أن ينتقلا إلى شقة أخرى، وهو ما سعى إليه فعلاً، أو هكذا أخبرها. إلا أنها أيقظته في إحدى الليالي مع صوت آذان الفجر، فأشاح في وجهها وقال “عارف.. عارف.. مش عارفه تنامي من صوت الآذان، اصبري لحد ما ننقل لشقة جديدة“، فقالت له “لاء يا أنور، أنا صوت الآذان حلو أوي النهاردا في ودانى… أنور، أنا عايزة أسلم“، فأجابها دون أن يحرك ساكنًا ” أنتِ بتحلمي يا ليلى، نامي يا حبيبتي، أنا عندي شغل بدري“، ولما أصرت على جدية حديثها قال لها “قولي أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ونبقى نروح الأزهر“، فرددت الشهادة وبعدها أضاف “أهو أنتِ كده أسلمتي“.
لم يكن لحسن البنا إذن دور في إسلام ليلى كما ادّعى البعض بعد عشرات السنين، اللهم إلا إذا كان هو إمام الجامع المجاور لعمارة الإيموبيليا، إلا أن أنور قد تعرف على البنا فعلاً ذات يوم قبيل عرض فيلمه (ليلى بنت الفقراء).
كان أنور في زيارة إلى البنك العربي في شارع قصر العيني لمناقشة مديره عبد المجيد شومان في بعض الأمور المالية، وفي أثناء جلستهما إذا بحسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين وإمامها يتقدم نحوهما مع د. محمود عساف أحد أعضاء الجماعة. عندما لمحه أنور قام ليصافحه مرحبًا به وقال له ” أهلاً أهلاً يا حسن بيه“، وهو ما أربك البنا الذي اعتاد أن يناديه الناس بفضيلة الإمام، وليس (البيه).
عرفه أنور بنفسه قائلاً ” أنا أنور وجدي، مشخصاتي، ممثل يعني، طبعًا أنتم شايفين أننا كفرة وحياتنا كلها معاصي، مع أني باقرا القرآن، وبأصلي… أحيانًا يعني“. أجابه البنا بما هو معتاد في تلك المواقف بأن الفن حلاله حلال وحرامه حرام، ناصحًا أنور أن يلتزم بتقديم فن يدعو للفضيلة وللأخلاق الكريمة.
انصرف أنور وترك البنا ليناقش أمور الجماعة المالية مع مدير البنك، إلا أن حسن البنا قد حرص فيما بعد أن يشاهد فيلم (ليلى بنت الفقراء) في أحد البيوتات الكبيرة، في زمن اعتاد فيه الأثرياء وعلية القوم أن يمتلكوا ماكينات لعرض الأفلام في قصورهم وبيوتهم الفخمة، شاهد البنا الفيلم يومها ولم يعلق.
****
* فصل من كتاب بالعنوان نفسه، يصدر قريبًا عن دار آفاق