-1-
تخيل أنك تقف في غرفة، لا يوجد بها منافذ للتهوية أو باب للخروج، غرفة من أربعة حوائط، ترسم لك مسارًا حتميًّا مستطيل الشكل، يمنعك من التفكير في الهروب أصلًا.
دعنا نوسع خيالنا أكثر. الخيال مطاط، قابل للشد من كل الجهات، كما يمكنك تشكيله كيفما تشاء أو كرمشته وحشره بعنف في جيبك الصغير الضيق.
دعنا نتخيل الغرفة تتكدس بأشخاص لدرجة تجعل البعض يحمل الأخف وزنًا على كتفه.
في زوايا الغرفة ووسطها، ترتكز آلات تعمل على إنتاج ضربات موجهة بدقة أحيانًا وعشوائية أحيانًا أخرى. بالإضافة إلى أصوات مزعجة، بحيث إذا لم تصبك لكمة حديدية، ستضطر إلى وضع يدك على أذنك، أملًا في عزل نفسك عن ذبذبات صوتية تفتت أفكارك وخيالاتك.
يوجد أشخاص مستهدفون بالطبع في تلك الغرفة، مع أنك لست واحدًا منهم، لكنك محشور وسطهم مع كثيرين غيرك. تعمل الغرفة وآلاتها بمنطق الثنائيات المتضادة، حيث الغرفة مقسمة (دون وضع حدود فاصلة) إلى أصدقاء وأعداء، المدهش أنك حتى لو كنت صديقًا مخلصًا، يمكنك أن تحصل على ضربة بدون قصد تكسر لك صف أسنانك الأمامي. كما أن الغرفة تغير حساباتها دائمًا، أنت صديق اليوم لكن غدًا يمكن أن تتوالى الضربات عليك حتى تهشم رأسك.
تفرض الغرفة على جسدك حركات محددة، تعيد بها ضبط أدائك وأفعالك، رغم أن الغرفة لا يوجد فيها مجال للحركة من الأساس، لكن مثلًا إذا رفعت يدك لفوق، ستفاجئ بسيل من الضربات.
-2-
فاجئني أبي بسؤال منذ أيام، حيث وقف على مسافة مني، عند مدخل الصالة تحديدًا، لمحته بطرف عيني فتركت الكتاب الذي اقرأه، وانتظرت حتى يتحدث.
“أنت مش بتكتب في السياسية، صح؟ أوعى تكون كتاباتك فيها سياسة، مش محتاج أقولك ليه طبعا، أكيد أنت عارف وشايف”.
أجبت بشكل آلي، كأنه وجه لي تهمة وعليَ نفيها سريعًا قبل تفاقم الوضع: “لأ طبعا، أنا بكتب قصص قصيرة، مفيش سياسة”.
تركني لأفكاري وانسحب في الطرقة المظلمة بهدف ترشيد استهلاك الكهرباء، لأن “فاتورة الكهرباء بتيجي مولعة” على حد تعبيره وكما تقول الفواتير أيضًا.
الحقيقة أن سؤاله لا يحمل أكثر من طابع أبوي حذر، لكنه تكاثر داخل ذهني ليصبح شبكة من الأسئلة تبحث عن إجابة أو محاولة فهم.
أنا بالفعل لا أكتب في السياسة، لكن كل ما أكتبه يحمل في جانب منه طابعًا سياسيًا، كما يحمل طابعًا اجتماعيًا وفلسفيًا.. إلخ. الكتابة عملية مركبة من مجموعة عناصر وعوامل متعددة، لا يمكن اختزالها إلى عنصر واحد، أو كبح ذهني وخيالي خوفًا من طرق أبواب معينة. إذ كيف يمكن لي الكتابة وأنا أشعر بالخوف؟ كيف يمكن الكتابة بمعزل عن المجتمع الذي أعيش فيه ومشكلاته وقضاياه؟ حيث تصبح الكتابة في تلك الحالة عملية نفسية داخلية، مقطوعة الصلة بكل ما يحدث خارج حدود الجسد.
لا أعني هنا التزامي بنوع أدبي معين يتخذ الواقع الحاضر موضوعه الواحد، لكني انطلق من تصور يفترض في العمل الفني بوتقة تنصهر فيها العوامل المختلفة، تتركب وتتعقد.
عاهدت نفسي منذ اتخذت الكتابة بشكل جاد، إذا شعرت بالخوف في أثناء الكتابة، عليَ التوقف عن كتابة ما أخافه أو استكماله بشجاعة. عند ذكر الشجاعة هنا، لا يجب أن تتبادر للأذهان تصورات مسبقة وعامة (أيقونات ورموز) عن الشجاعة، تفترض في صاحبها بطلًا مغوارًا، يخوض المعارك ويحرك الجموع. لكني هنا أتحدث عن شجاعتي الخاصة، تصوري الخاص الذي طورته مع نفسي. لأنه لا يمكن للعمل الفني أن يحدث إلا إذا كنت تمتلك تلك الشجاعة الخاصة، ذلك الصدق مع نفسك وأفكارك ومشاعرك دون الشعور بسكينة الخوف والقلق تنغز ظهرك.
أحيانًا أشعر أنني أتجنب الكتابة عن تلك المواضيع التي أخاف منها من الأساس، أسبح بخيالي في مناطق أمنة نسبيًّا، حيث تلمس رجلي الأرض من حين لأخر، مبتعدًا قدر الإمكان عن منطقة “الغريق”، كما يصطلح تسميتها في مصيف العائلات.
-3-
التاريخ: الثاني عشر من يناير، عام ألفين وعشرين.
الساعة: نحو الحادية عشر إلا ربع صباحًا.
في طريقي لحضور أحد الامتحانات في المقبرة التعليمية (كلية تجارة) التي أدرس بها، ترتب على جلوس شيخ بذقنٍ رمادية شعثاء بالكرسي المجاور لسائق الميكروباص، أن تستوقفنا دورية شرطية لسؤال الركاب عن بطاقات الهوية والتفتيش.
بعد تظاهرات 20 سبتمبر، أصبح لدينا دليل فعال نسبيًّا، لتجنب الجنون البوليسي في شوارع القاهرة، خاصة وسط البلد، يتلخص الدليل في سيرك بموبايل “نظيف” دائمًا من كل ما هو محتوى سياسي أو شخصي. يمكنك أن تتبع ذلك الدليل وبنسبة كبيرة ستنجو، لكنك لن تستطيع التخلص منذ تلك اللحظة من هاجس أنه أصبح في إمكان أي مخبر أو ضابط أن يستوقفك وقتما يشاء ويطلب هاتفك، ليتحول كل ما يحتويه الهاتف إلى نص مفتوح للتأويل والاتهام، يمكنه بسهولة أن يتسبب في حبسك.
حصل الضابط على بطاقة الشيخ أولا ثم فتح الباب الجرار للميكروباص، تفحص وجوه الركاب وحصل على بطاقة بعض الأشخاص، من بينهم أنا. ارتفعت نبضات قلبي بشكل هستيري، حيث تذكرت فجأة أني لم أقم بعملية “التنظيف” المعتادة، تعاملت بحرية مع هاتفي الشخصي لمدة شهرين، ومن الممكن دفع فاتورة تلك الحرية الآن. في ثوانٍ معدودة، كان كل ما تمنيته أن يقتصر الموضوع على مجرد تفقد عابر لبطاقات الهوية.
-4-
يمتلك أبي، مثل كثيرين، تصورًا عن القراءة باعتبارها تسلية في أوقات الفراغ. لب وسوداني ومكسرات، يستهلكونها للترفيه ودفع الملل بعيدًا. تُفرغ القراءة عندهم من كل مضامينها ومعانيها، تختزل إلى لذة لحظية، رغبة لا تتجدد، إنما تستهلك وتفنى. يتحول فعل القراءة لديهم إلى “زائدة دودية” يمكن استئصالها بسهولة، إذا تطلب الوضع ذلك، دون أن يتأثر الجسم كثيرًا. خاصة عندما يزيد الأمر عن حده، فيصبح ضارًا بخطة نجاح الطبقة المتوسطة المرسومة لك سلفًا كأنها من نواميس الوجود: عمل مستقر، عربية، شقة، زوجة، أطفال. تصبح القراءة هنا بالنسبة لهم، نوعًا من “تضييع الوقت”، انحرافًا مفاجئًا عن طريق الوصول الأمن.
طبعًا بعد تلك المقدمة يمكن استنتاج تصور أبي عن فعل الكتابة، تبدو الكتاب لديه تكثيفًا لتلك الرفاهية والتسلية، لعب مبالغ فيه، جعلني أتحول من مجرد مستهلك لمنتج وصانع ألعاب للآخرين، جنون شباب بالتأكيد سأتوقف عنه مستقبلاً، حين أعود من الشك إلى اليقين، أرتد إلى نقطة الأصل التي تضم البداية والنهاية، وأعترف بحكمة الأب والطبقة المتوسطة الأم.
لكن الحق يقال، مع أنه يعتبرها فعلاً هامشيًّا -مثل القراءة-، لكنه من حين إلى آخر يقول في حقي “كلمتين حلوين”، وينظر إليَّ بفخر مصطنع إذا حققت إنجازًا يستحق ذلك. بدأ في اتباع ذلك الأسلوب معي عندما أظهرت له أمي “العين الحمراء” لعدم اكتراثه بكوني كاتبًا وقارئًا نهمًا منذ الطفولة.
باعتباري الابن الذكر الوحيد، يظن أنه يجب عليَ حمل خيالاته الذكورية والطبقية والسلطوية على كتفي لتحقيقها، حتى أصبح شابًا يحتذى به، ابنًا حقيقيًّا مخلصًا للطبقة الوسطى وأحلامها. لذلك تربى داخلي خوف من فكرة اطلاعه على كتاباتي، التي سيكتشف مع قراءتها أنها تخالف كل تصوراته وتحذيراته، سيدرك أن اللعب أًصبح جدًا، وما ظنه هامشًا قد تربع مستريحًا على عرش المركز.
أحيانًا أجده يقف أمام مكتبتي، وإذا رأى كتابًا مكتوبًا عليه اسم ماركس أو الماركسية، يمسك به، يبعد رأسه للخلف قليلاً، كأن الكتاب يصدر إشعاعات ضارة، ينظر بوجه ممتعض لصورة ماركس الأيقونية على الغلاف ويقول: “مش قلنا يا ابني بلاش قراية في الشيوعية والحاجات دي؟”.
-5-
بعد تظاهرات 20 سبتمبر، التزمت البيت قدر الإمكان، أتابع الأحداث وأخبار القبض العشوائي والمتعمد والاختفاء القسري من وراء شاشة
الموبايل، وأشارك من حين لآخر أراء سياسية على صفحاتي الشخصية، سرعان ما أقوم بحذفها بدافع الخوف أو إدراك ما تحمله من خلل وقصر نظر في طرحها. سيطر الخوف على ذهني وجسدي تلك الفترة، لدرجة جعلتني أعاني بعدها نوعًا من القلق الشديد من فكرة التمشية في الشارع.
بدأت أعود لحالتي الطبيعية تدريجيًّا، لكن ظل داخلي قدر من الخوف لم أستطع التخلص منه حتى وأنا أكتب هذه السطور. بذرة خوف مدفونة في أحشائي، إذا توفر لها المناخ والتربة والعوامل المناسبة، سرعان ما تنمو وتغرز أشواكها الحادة في لحمي.
عندما أُضطر إلى التمشية في وسط البلد، أِتخيلني فأرًا دخل منزل عائلة، وها هم ذكور البيت ينتصبون حاملين المكانس ذات العصي الخشبية الطويلة، واضعين المصائد في الأركان، وفي ثوانٍ يصنعون له أكثر من خطة للفتك به وتلقينه درسًا. طول فترة التمشية، أشعر بعيون سائلة، تذوب في كل ما حولي، شبكة مراقبة خفية تجعلني تحت ضغط ورعب دائم. أسرع الخطى لإنجاز أغراضي سريعًا، حتى أقفز في ميكروباص أو أتوبيس لأعود إلى جُحري.
كل ما حولي يصبح مصدرًا للتهديد والقلق، تتحول مجرد التمشية في شوارع وسط البلد إلى جولة في قاع الجحيم، خطوات حذرة تحمل كل منها إمكانية تدمير حياتي ومستقبلي في أي وقت ودون سبب.
علينا الاعتراف بالخوف، أحيانًا يكون طريقة لإدراك موقعنا وإمكاناتنا في تلك اللحظة، حينها تدرك أنه لن يحميك بالضرورة المشي جنب الحيط وإتباع دليل النجاة العام السابق ذكره، بل يمكن أن تكون “قصة شعرك” أو “طريقتك في الكلام والمشي”، سببًا في أن يستوقفك أحدهم لتفتيش هاتفك الشخصي والاستجواب، في شوارع وسط البلد أو بجوار بيتك.
-6-
أنت الآن خارج الغرفة، بعيدًا عن آلاتها العمياء ومنظومة التصنيف والفصل. تخيَّل؟ غرفة دون باب أو شباك، أصبحت خارجها. أخبرتك في بداية النص، أن المسار حتمي ومغلق، لكنك استخدمت قلمك الصغير، فرسمت به شباكًا وفتحته، ثم سبحت وسط حشد من أجساد تنز بالعرق وتتلوى من الألم، حتى وصلت إلى الحائط الموازي، ورسمت بابًا، فتحته وخرجت.
تأخرت كثيرًا حتى استطعت فعل ذلك. امتلكت تصورًا “بديهيًّا” عن القلم، دفعك لنسيانه. تعتقد أن الاستخدام الوحيد لذلك القلم هو تسجيل ملاحظاتك في أثناء العمل، كما رأيت أباك يفعل دائمًا، ظللت متمسكًا بطريقته الكلاسيكية دون سبب واضح. يتغير الواقع من حولك، تتبدل السياقات والأزمنة وأنت ما تزال تريد للقلم ذلك الاستخدام وحده. في ذهنك صورة لا تود مفارقتها: لا تتخيل نفسك تتعامل مع القلم إلا في حيز تسجيل الملاحظات.
تحملت تلك الغرفة كثيرًا، حتى فقدت عينك اليمنى إثر ضربة غادرة. واليوم اكتشفت أن القلم الذي نسيته في جيبك منذ دخولك الغرفة، كان سببًا في هروبك منها.
رسوم: رنا حمدان