“أنا الفأر الذي يُعجب به سرًا كل قط؛
القط الذي يخشاه سرًا كل كلب؛
المنحرف الذي يفاجئه كل مواطن صالح في مرآته: الشاعر”.
– دامبودزو ماريتشيرا
وُلِد القاص والشاعر والكاتب المسرحي دامبودزو ماريتشيرا Dambudzo Marechera عام 1952، لأسرة فقيرة في مستعمرة روديسيا الجنوبية، التي ستصبح زيمبابوي في أبريل 1980 بعد نهاية حكم الأقلية البيضاء. وتُوفي في هراري عام 1987، في الخامسة والثلاثين من عمره، بعد حياة مضطربة، ومعاناة مع المرض.
بدأ ماريتشيرا في دراسة الأدب الإنجليزي في جامعة روديسيا في 1972-73، وانتقل في 1974 للدراسة في نيو كولدج، أوكسفورد، التي طُرِد منها عام 1976 بسبب سلوكه، وغرابة أطواره: كان مُشاكسًا؛ ميَّالاً إلى الشجار؛ يقرأ فيما يجذب اهتمامه بصرف النظر عن مقررات الدراسة؛ وهدد، أخيرًا، بإشعال النار في الجامعة. وحين خُيِّر بين الخضوع لعلاج نفسي أو الطرد، اختار الطرد. عاش، في أعقاب ذلك، مُشردًا في بريطانيا لستة أعوام؛ عاد بعدها إلى هراري حيث كانت في انتظاره خيبة الأمل التي نعرفها جميعًا في دول ما بعد الاستقلال.
صدر “بيت الجوع” House of Hunger، وهو أول كتبه وأشهرها، عام 1978، متضمنًا النوفيلا التي يحمل الكتاب عنوانها، وعدة قصص قصيرة، منها “تحوُّل هاري”.
في حياته، نُشِر له أيضًا “نور الشمس الأسود” Black Sunlight عام 1980.
بعد وفاته، صدرت أعماله غير المنشورة في عدة كتب، لعل أهمها “مقبرة العقل” Cemetery of Mind (1992)، الذي يتضمن قصائده.
تحوُّل هاري
أخيرًا وضع هاري السماعة، وخرج من كابينة التليفون. كان يبتسم.
“سوف تأتي!” قال. “الآن أستطيع أن أحصل عليها في أي وقت.”
كان يتحدث عن آدا، ابنة نستار. لشهور لم يتحدث عن أي شيء آخر؛ بخلاف الأساسيات، كما أسماها. أراد هاري، على نحو يائس، ليس فقط أن يفعلها مع آدا – كان من الممكن أن تكون أي فتاة أخرى – بل أن يبلغ جوهر الموضوع، ويقبض على تلك الأساسيات من الجذر. لقد احتاج إلى ذلك التحوُّل العضوي. في الوقت نفسه، فإن امرأة مثل آدا، التي فعلتها مع أنواع لا حصر لها من الانتصابات البيضاء، سوف تعطيه الوعاء الذي يمكن له، راضيًا، أن يصب مياه التعميد فيه. وسيكون التحول قد اكتمل.
ركل كابينة التليفون بسرور.
“هذا خير، يا رجل. هذا خير.”
بالطبع لم يكن للخير والشر شأن بالموضوع. بالنسبة لهاري، كل ما يؤدي إلى نجاحه هو خير. كان الخير، بالتالي، هو النجاح. وكان بلوغ جوهر تلك الهالة المقدسة هو طموح كل من سيصير خيِّرًا.
كان هاري يعرف الشر. الشر هو الفشل. وكان هناك الكثير من الفشل حيث نشأ هاري. خرائيون غير متعلمين يعدون بنساتهم، ويدفعون الإيجار، ويجعلون زوجاتهم حوامل للمرة المليون، ويستغنون عن التبغ والبيرة كي يوفروا من أجل ماكينة خياطة. أيادٍ قست. أجساد قذرة. أوفرولات. ذلك كان الشر، الفشل. الكدح في المصانع والمناجم وعلى الطرق والجسور وفي المزارع والحقول مقابل – ماذا؟ الفشل.
كما أن هاري لم يكن يحمل تقديرًا عاليًا للنساء. حتى آدا. لقد احتقر من بدت لهن المعاناة كما لو كانت عنصرًا أساسيًّا من عناصر الحياة. غير أنه أحب الجنس كما يحب بعض الناس خداع الآخرين.
بينما كان هاري يسير نحو غرفته، انقضت على رأسه فجأة غيمة لادغة من الذباب؛ جرى مثل قط اشتعلت النار في فروه. صفق الباب وراءه، وارتكن عليه كي يلتقط أنفاسه. وبعدها أحكم إغلاقه. ثم أسدل الستارة المعدنية، أعتمها، وانحنى كي يفتح صندوقه المعدني. كان نصفه ممتلئًا بأعداد من مجلة بلايبوي. أخرج العدد الذي أراده. كانت موديل أفريقية أمريكية – توق حزين، انتظار. نجاح. ابتسم هاري لها برقة، وفتح سوستة بنطلونه.
شعر أنه مستعد لآدا. لن تحدث أي أخطاء. سوف تخرج العثة من اللهب وقد تحولت إلى قريبتها الأكثر ملائكية. وبعد ذلك سيكون الأمر كله مجرد حلم، وسوف يتذكَّره كمضايقة لطيفة. نظر هاري في ساعته.
بعدها، بينما يلوك عشاءه بشرود، وينصت إلى الحياة من حوله بعين واحدة وأذن واحدة، كان لديه بشير باطني بالنجاح. كان تقلصًا بسيطًا، لذيذًا على نحو مبهر، كما لو كانت السماء قد صفَّت ماءها المختار وغمست ريشة بيضاء رائعة في جوهره، ثم لمست برقة الجرح اليسوعي في عضلة إسته.
لم يكن هاري يحب من “يفكرون أكثر من اللازم”. تفوح منهم نتانة الفشل، هكذا أخبره أبوه. لهذا، فإن هاري، بعد تلك المكالمة التليفونية وبعد ذلك العشاء المتأمل، قابل مخبرًا أسود في حانة مزدحمة، وتبادل معه على نحو عابر مظروفين بيضاوين. عاد بعدها إلى مبنى اتحاد الطلبة، ومع كوب شاندي انتظر ظهور آدا. في لحظة ما، أخرج المظروف بتكاسل ومرر عينيه عليه بحب. وهو يبتسم. لقد كان مستعدًا للطقس الأخير الذي سيضع تأديته، رغم أنه مجرد إجراء شكلي، ختمًا على صك تحوله إلى الأبد.
غير أن يدًا مازحة قرصت خده فجأة.
“مرحبا، أيها الوجه شبيه المؤخرة،” حيَّاه فيليب، وهو يشير إلى شخص ما في الظل.
خرجت آدا، وجلست.
شد فيليب خد هاري مرة أخرى – بشراسة هذه المرة.
“هذا هو، يا آدا؟”
“نعم.”
“لنسمعها من شفتيك أنت، يا ضرطة المتجسسين،” قال فيليب.
حينما لم يقل هاري شيئًا، مد فيليب يده وأمسك بخناق هاري.
لعق هاري شفتيه. نفضه فيليب. حين فعل ذلك، سقط مظروف على الأرض.
تشكَّى هاري: “لقد أوقعت شيئًا.” كان صوته أجش. ابتلع ريقه.
حدَّقت آدا في المظروف.
أطلق فيليب سراحه، والتفت: “آدا، هل ترغبين في مشروب؟”
أطلق هاري ساقيه. لكن فيليب، الذي توقَّع حركة كهذه، مد قدمه وتهاوى هاري على الأرض. التقط فيليب المظروف واتجه إلى البار.
عند هذه النقطة، فكَّرتُ أنه من الأفضل لجميع الأطراف أن أنضم إلى تلك الطاولة التعيسة. لم أنظر إلى هاري.
“آدا، كل شيء على ما يرام الآن؟” سألتُ.
“تقريبًا.”
“هاري، لم لا تنصرف الآن؟”
ابتسمت آدا بسخاء وهي تقول: “لقد حاول.”
عاد فيليب مع كأسين جين. حين رآني، غمز على نحو ينقصه الإقناع إلى حد ما: “ظننتُ أني رأيتك عابسًا بصحبة دفترك،” قال.
“هذا ما كنت أفعله.”
كان من الجيد أن أقابل فيليب مرة أخرى.
لعق هاري شفتيه المجروحتين.
“هل من الممكن أن أسترجع مظروفي؟”
لكن فيليب غمسه في جيب معطفه، ثم أخرج مظروفين أبيضين متطابقين. وعرضهما أمام هاري.
“لتأخذ اختيارك،” قال فيليب.
حدَّق هاري، وأخذ جرعة كبيرة من الشاندي. لم يستطع أن يحمل نفسه على أن يختار. أن يقامر. استجدى، بعد أن رأى الفشل في كل مكان، من أجل مُتنفَّس.
“اذهب واجلب لنفسك مشروبًا آخر إن أردت،” غمز فيليب بسخاء.
أسرع هاري إلى البار.
التفت فيليب إليَّ.
“أرى أنك ما زلت تستخدم أصدقائك كي تؤلف قصصًا غير محتملة،” تثائب.
ثم اعتدل في جلسته بحركة مفاجئة. نظر إلى الخطابين، ثم التمعت عيناه فوق يديّ الخاليتين.
“هذا هو الأمر،” طرقع أصابعه، “كنت أعرف أن شيئًا ما ليس على ما يرام.”
مستمتعًا، سألت: “ماذا؟”
نهض فيليب. قال: “ليس معك مشروب. سأحضر لك واحدًا.”
وضع الخطابين، واحدًا بجوار الآخر، على الطاولة، واتجه إلى البار. كنت قد بدأت أتسائل عن ذلك الذي كان يأكل روحه.
عاد هاري. ولم يستطع أن يبعد عينيه عن الخطابين.
قالت آدا، بدون أن تبتسم: “هاري، ما تمر به الآن هو بالضبط ما جعلتني أعانيه طوال كل هذه الشهور.”
كان العرق يتدفق على جبهته. لكن، بدون داع، ابتسم هاري: “نعم، لكنني كنت على حق. كنت أعرف ذلك. كنت على حق.”
ثم أضاف: “أنتِ أيضًا امرأة بامتياز.”
“وما هو امتيازك أنت؟” سألت.
“لا أعرف بعد،” قال هاري.
بدا كأنه يخرج ببطء من قوقعة. يتقشَّر. مثل بذرة تتكسَّر عنها قشرة جوز.
“قلت لتأخذ اختيارك،” لكزه فيليب، ودفع تجاهي أكبر كأس ويسكي بالصودا رأيته على الإطلاق. كان يعرف أنني أكره – أنني أبغض – الويسكي.
شربت.
هزت آدا كتفيها، وهي تتجرع الجين. كان بينهما، هي وفيليب، تفاهم من نوع ما. لكن فيليب أراد ترتيبًا أكثر تقليدية. ولم تود آدا أن تحيد عن ذلك الذي اعتبرته مصيرها. كانت تمر كذلك ببعض المشاكل مع أمها، التي كانت أشهر عاهرات البلدة. ما أرادت أن تعرفه هو إن كان هناك أكثر مما يجب من الخراء القدريّ في عائلتها. وجعلها هذا حادة المزاج مؤخرًا. إضافة إلى أن فيليب كان يصبح مُقززًا، على نحو متزايد، فيما يخص علاقتهما – الزواج هو ما كان يريده. وهي عرفت لعبة هاري من المكالمة الأولى. وسألت نفسها: لم اختارني أنا من أجل كل هذا الخراء؟ حين أشار إليها فيليب بأن تنضم إليه، أرادت، يائسة، أن تسأل هاري: لماذا، هل أنا إذن مليئة بالخراء؟ لكن حين رأته، فهمت من نظرة واحدة، وجعلتها معرفتها عنه تشعر بالغثيان من نفسها. ثم ما الذي يمكن أن تفعله بخصوص فيليب؟ لا تستطيع أن تفعل شيئًا، لأنه لم يكن يوجد شيء منه في تصورها عنه. جعلها ذلك قليلة الصبر، هذا العماء الذي كانه في ذهنها.
في تلك الأثناء كان فيليب قد اشترى زجاجة جوردن، وأعاد ملأ الكؤوس. كان الويسكي ما زال معي؛ لم أستطع تخيُّل زنجيًّا يشرب ويسكي السازرن كومفرت إلَّا تحت تهديد السلاح.
وهنالك كنا؛ في بلد ملتبس، وكذا نحن. أرض لها قلب ماكر؛ ونحن على استعداد إلى أن نُخدع. جو يؤدي إلى التآكل الأخلاقي، ونحن معادن بسيطة مستعدة لأحماض النضج.
والمظروفان على الطاولة – وقد ثبتتهما عينا هاري الجاحظتين.
كان بمقدوري أن أرى في نظرة هاري الثاقبة مسًا لا يمكن أن يؤدي إلَّا إلى نهاية واحدة. رفعتُ نظري بسرعة، ومثل سانشو بانزا، أتيتُ على ما تبقى من الويسكي في جرعة واحدة.
دفع فيليب زجاجة جوردن نحوي.
ممتنًا، تناولتها وتزودت منها مرة بعد أخرى. أين كان الأمل – أين كانت الرؤية؟
شيء ما، صاخب، مزَّق طبلة أذني.
مُروَعًا، رفعتُ عيني. كان فيليب وآدا يحدقان هما أيضًا.
كانت الإبر، عالية النبر، الدافعة إلى الجنون، آتية من هاري.
لكن لم يكن ثمة صوت يصدر عنه.