في طفولتي، كان الراديو؛ نافذتي الوحيدة على العالم، ينقل إليَّ في غرفتي بمدينة إقليمية، من بين ما ينقل، أخبارًا عن أفغانستان، وعن المجاهدين والسوفيت والمعارك المستمرة بينهما، وعلاقات القوى المتناحرة، ولم تكن لدي حينها القدرة، بعد، على فهم الأمر بشكل واضح. وككل صور الطفولة الغائمة سعيتُ لاحقًا لاستكشافها، فاتضحت، وكشفت لي عن هذه الشعوب التي تعاندها الحياة، وكأنها منذورة للألم والمعاناة. غابت أفغانستان عن صدارة المشهد، ثم عادت لتظهر من جديد.. وعندما تدخل منطقة ما إلى دائرة الضوء، تظل مثار الاهتمام لفترة، ويبحث المهتمون عن الظروف السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية الخاصة بها عمومًا، ليرووا فضولهم المستعر المؤقت، خصوصًا أن الأحداث تتلاحق بسرعة شديدة في كل مكان، وما حدث في أفغانستان مؤخرًا باستيلاء حركة طالبان على الحكم، هو حلقة في سلسلة من الأحداث القاسية التي يمر بها شعب اعتاد الحزن وألف الحرب منذ عقود طوال..
هذه المرة، بعد أن رأيت قادة طالبان في القصر الرئاسي بأسلحتهم، في مشهد قروسطي تمامًا، فكرت كيف يكتب ناس هذه البلاد الشعر، ورغبت في استكشافه، وأنا لا أجيد البشتونية للأسف، فبحثت بالإنجليزية عن الشعر الأفغاني، شعر المرأة تحديدًا، والمرأة في أفغانستان تعاني أكثر من الجميع، إذ تخصها الحركات الأصولية المتتابعة بمزيد من القيود والأحكام القاسية؛ تتبع أنفاسها، وتتحكم في حركتها وملابسها وإرادتها، وتمارس ضدها أبشع الإجراءات والعقوبات، بدءا بالحبس في البيت والمنع من التعليم والزواج الجبري، وحتى القتل رجمًا. وسط هذا الواقع البائس القابض، توجد نقطة النور المقاومة للقسوة، دائمًا ستوجد نساء قويات يوجهن الواقع القامع لإراداتهن، السالب لحرياتهن، لذلك كن يخرجن للتعليم، ويقاومن تزويجهن مبكرًا، وينطلقن للعمل، ويكتبن الشعر، الذي كان ممنوعًا، ولو أدى ذلك إلى هلاكهن..
من بين ما عثرت عليه، كان هذا المقال، الذي نشر في يونيو 2014 على موقع PEN Transmissions، وفيه نظرة مبدئية على شعر النساء الأفغانيات، لكنه قادني إلى التعرف أكثر والبحث عن اللاندي؛ وهو نمط من الشعر التقليدي، الجريء، الذي يشبه الهايكو، شعر سري شفاهي لا يلتزم بقافية، تقوله النساء البشتونيات، ليعبرن به عن صنوف الحب والرغبات الممنوعة، فواصلت البحث على الإنترنت، وجدت القليل بالعربية، والأكثر بالإنجليزية، والحقيقة أنه ما وجدته كان غنيمة مدهشة، فترجمت بعضًا من قصائده، وضمنتها في المقال (باللون الأخضر). مصدر الدهشة أنه وسط هذه الأجواء المنغلقة الخشنة، ومحاولات السيطرة على النساء، وحبس حتى خيالهن، رأيت جرأة هي سمة الطرح الإيروتيكي، الذي لا شك أنها موجودة بالعامية في معظم ثقافات العالم، لكن المثير هو المفارقة في التناقض الصارخ بين الصورة المقفلة المنغلقة والجرأة التي تطرحها قصائد بالغة القصر والتكثيف..
المقال
لم يكن من المقبول قط أن تكتب النساء في أفغانستان الشعر في أي موضوع. أما كتابة قصيدة عن الحب فكانت خطيئة تستحق عقوبة الإعدام، ليس بالضرورة أن تنفذها السلطات، بل أقارب الشاعرة نفسها. أحد الأمثلة التاريخية على ذلك هو شعر الشخصية الأسطورية رابعة بلخي – ابنة حاكم بلخ القوي – الذي كتبته في حبيبها قائد الجيش، بكتاش. [تنسب رابعة، المولودة في بلخ بأفغانستان، أيضًا للشعر الفارسي، وتعتبر أولى الشاعرات الفارسيات] فقد اكتشف حارس؛ شقيق رابعة، علاقة الحب السرية هذه من خلال قصائدها في حبيبها، فقطع معصمها وتركها تنزف حتى الموت.. ومع ذلك كتبت قصيدة حبها الأخيرة بالدم على الحائط، وهي تحتضر:
أنا أسيرة حبك
لا أستطيع الهروب
الحب محيط بلا حدود
لا يرغب شخص عاقل أن يسبح فيه
إذا أردت الحب حتى النهاية
تقبَّل غير المقبول
رحب بالمعاناة بسرور
كُل السم وسمِّه العسل
......
للأسف، يعيد التاريخ نفسه، كان آخر هذه الحالات في عام 2005، عندما قُتلت نادية أنجومان؛ الشابة المتزوجة والشاعرة والصحفية المعروفة على يد زوجها في هيرات، بسبب كتابة الشعر، الشعر عمومًا بكل أنواعه. هذه القسوة الشديدة تجاه الشاعرات تجبرهن على إخفاء مواهبهن، أو حتى بالنسبة للشجاعات منهن، تجبرهن على استخدام أسماء ذكورية مستعارة لإخفاء هوايتهن. ويوجد العديد من نموذج “جورج إليوت” في الأدب الأفغاني؛ كاتبات حافظن على هويتهن الذكورية حتى الموت. وكنا نتعرف على هؤلاء الشاعرات بعد سنوات من دفنهن، عندما يهدأ الغبار ويفوت الأوان. وأود هنا أن ألقي نظرة على بعض الشاعرات المعاصرات، وأسجل إعجابي بشعرهن، مع أن البعض قد يقول إنه صوت ذكوري يعالج هذه القضايا..
وفي التقاليد البشتونية الأفغانية يوجد نوع من الشعر، يسمى لاندي، وهو شعر مجهول الكاتب وجريء. اللاندي قصيدة تتكون من بيتين، أي أقصر من قصيدة هايكو. وفيها تعبير عن انفعالات ومشاعر جنسية ممنوعة، وفي كثير من الأحيان تنتقد السلطة والتشدد الديني. حتى النساء المتزوجات لجأن في بعض الأحيان إلى اللاندي لإعلان حبهن الممنوع بدعوات مثل “تعال إلى النبع حيث أحضر الماء.. زوجي بعيد”.. هذا النوع من الشعر، مهما كان مزعجًا للمجتمع، فإنه مسموح به كترفيه، على الرغم من أنه غالبًا ما يتناول مواضيع جادة. وبما أنه لا أحد يدعي ملكية هذه القصائد، فلا داعي لاتخاذ أي رد فعل. وكاتباته لسن معرضات للشنق أو الرجم حتى الموت.
ليس من الواضح ما إذا كانت النساء اللواتي كتبن هذه القصائد المثيرة شجاعات حقًا بما يكفي لإقامة علاقات مع عشاقهن، لكن من الواضح أنهن كن شجاعات بما يكفي لكتابة قصائد مثل هذه في بلد تمنع القواعد الصارمة المفروضة على النساء فيه من أن يكون لديهن عشاق:
اسم حبيبي مكتوب على جسدي
لا أريد أن أغتسل كي لا يختفي اسمه
*
العيد غدًا، يرتدي الجميع ملابس نظيفة
وأرتدي أنا نفس الملابس غير المغسولة التي تحمل رائحة حبيبي.
*
قبلني بشفتيك.. لكن اترك لساني حرًا
أريد أن أخبرك بالعديد من الحواديت غير المروية.
*
ذات ليلة حلمت بموتك
في الصباح تشققت شفتاي من الجفاف
نماذج أخرى من فن اللاندي
أناديك، لكنك حجر
يومًا ما ستنظر وتجدني رحلت
*
أبي، لقد بعتني لرجل مسن
الله يخرب بيتك، لقد كنت ابنتك
*
ممارسة الحب مع رجل مسن
كمضاجعة عود ذرة ذابل أسود متعفن
*
عندما تجلس الأخوات معًا، يمدحن أخوتهم الرجال
وعندما يجلس الأخوة معًا، يبيعون أخواتهم للآخرين
*
سأرسم وشمًا بدم حبيبي
وأفضح كل ورود الحديقة الخضراء
*
احتضنني بحزام ناسف
لكن لا تقل إني لن أقبلك
*
ألا يوجد هنا رجل شجاع بما يكفي ليرى كيف أن فخذاي لم يمسهما أحد
لينزع عني بنطلوني؟
*
في سبيل الله، سأقبلك.
توقف عن هز جرتي وتبليل فستاني!
*
سأقبلك في حديقة الرمان. هشش!
سيعتقد الناس أن عنزة عالقة في الشجر.
*
تعال، دعنا نستلق، الفخذ على الفخذ.
وإذا صعدت إلى القمة، لن أصرخ.
*
أووه! لا تضغط عليَّ بشدة،
نهداي يحترقان من أن أصبحت امرأة أمس.
*
أيها القمر الساطع، حبًا بالله،
لا تعمي حبيبين بهذا الضوء الساطع
*
ربما خلقك الله زهرة على ضفة النهر
كي أشم رائحتك عندما أحضر الماء
*
أيها الملا، أعد إليَّ عنزتي
لم أحصل على قبلة رغم التعويذة التي كتبتَها
*
البنت:
عندما قبلتني، عضضتني،
والآن ماذا ستقول أمي؟
الولد:
قولي لأمك:
ذهبت لجلب الماء ووقعت بجانب النهر.
البنت:
ستقول أمي: جرتك لم تنكسر،
فلماذا تنزف شفتك السفلية هكذا؟
الولد:
قولي لأمك:
سقطت جرتي على الطين، وسقطتُ على الحجر.
البنت:
حلو، لديك كل الإجابات.
الآن خذ شفتي البكر، بالهنا والشفا!
*
تعالي نترك هؤلاء البلهاء القرويين
ونتزوج رجالاً من كابول بقصات شعر بوليوودية.
*
أمي، تعالي إلى نافذة السجن.
كلميني قبل أن يذهبوا بي إلى حبل المشنقة.
**
نعود إلى المقال
وفي حين لا تزال الشاعرات في أفغانستان يعشن في خوف من العقاب بسبب وصفهن لمشاعرهن، فإن الأفغانيات اللواتي يعشن في الغرب لا يواجهن مثل هذا الخوف. لقد أوجدت الإنترنت فرصًا للنساء الأفغان للكتابة بحرية والكتابة عن أمور صريحة قد لا تجرؤ حتى بعض النساء الغربيات على معالجتها. هل هذا رد فعل لقرون من عدم القدرة على الكتابة بحرية وعدم امتلاك الحق الأساسي في التعليم الرسمي؟
بحر سعيد، واحدة من الشاعرات اللاتي يعشن في الغرب. وقد نشرت قصائدها في إيران قبل الثورة الإيرانية، وفي أفغانستان قبل الغزو السوفيتي، وكذلك في الغرب بعد مغادرة وطنها. قصائدها مباشرة وحادة في انتقاد مجتمع لا دور للمرأة فيه تقريبًا؛ حيث يقرر الرجال كل شيء. هؤلاء الشاعرات يهاجمن الزعماء الدينيين لاستخدامهم الدين كأداة لقمع صوت المرأة. وبحر هنا تعبر عن مشاعرها تجاه حبيبها دون خوف:
لقد قبلني مرة وسرق شفتيَّ
سرق مني النوم
أنا خائفة..
إذا لمس جسدي لن أستطيع المقاومة
لقد جئت إليك لتذوق جسدك
شفتاي تسقطان على شفتيك
تذوقان فمك
بأصابعي مزقت قميصك
أتذوق صدرك العاري
أستنشق رائحة أنفاسك
ألمس جسدك بصدري
أذوق نار جسدك على جسدي.
تعال وخذني
جسدي ملكك
احفرني في قلبك في ليلة الأحلام
تعال وخذني حتى الصباح
بلمسة جميلة وقبلة.
أحب الأزرار الموجودة على ياقة قميصك
تطلب مني أن أفتحها
وأن أرمي بنفسي عليك
صنم عنبرين شاعرة أخرى نشر كتابًا شعريًا بعنوان “كنت أكتب عنك”:
عندما لا يشعر قميصي
بإيقاع قلبك
يتوقف سريان الدم في قلبي
(…)
إنها ليست خطيئة
إذا تخضبت شفتاي بالحب
تضحك علي أم لا
تفتح النافذة أم لا
أنا لا أؤمن بموضوع الشتاء
أنا أعرف طريقي
إذا أتيت معي أم لا
أنا أعرف طريقي وحدي
أعرف كيف أبني جسرًا بين فجرين.
أنجيلا باجاهي، التي تعيش في ألمانيا، شاعرة ثورية، تقف ضد عنف طالبان وتقاتل من أجل أفغانستان أفضل:
مع كلمة الله أكبر على شفتيك
تسفك الدماء بهذه الطريقة
يداك لهما رائحة الجحيم
أعلم أنك تتبع الشيطان
أيها البربري.
وبعد أن زرعت طالبان قنبلة مخبأة في نسخة من القرآن في أحد المساجد، كتبت باجاهي:
لقد صنعت قنبلة من القرآن
أنت تسبب الكثير من البؤس.
رويا زماني هريفا، أفغانية تعيش في المملكة المتحدة، وتكتب عن مسائل اجتماعية:
اختلافك
ليس تفوقًا
الاختلاف جميل
أنا امرأة
وأنت أيها الرجل
جميل
وسوف تضيع في النشوة
في تموجات شعري
أغويك بنظري
لماذا لا نقبل الأمر
ونستمتع باختلافنا؟
.......
لقد تمكنت الشاعرات الأفغانيات اللواتي يعشن في الغرب من الكتابة بشكل علني، لكن هذا لا يعني أن النساء اللواتي يعشن في أفغانستان يتسمن بالهدوء والاستسلام. لقد أتاح سقوط نظام طالبان مساحة للمرأة لمعالجة القضايا الاجتماعية ونقد الظلم، والكتابة عن شرور عصر طالبان. وقد كتبت كارينا شابانج عن الجنود الذين يقاتلون مع طالبان:
لقد وجدتك مرة أخرى أيها الجندي
مثل الوحدة المفقودة
في بلدك
لقد وجدتك مرة أخرى أيها الجندي.
يمكن بالطبع إلقاء اللوم على الوضع السياسي في أفغانستان الذي سبب الكثير من البؤس في البلاد. وها هي ذي سميرة بوبالزاي، الشاعرة من كابول، تكتب عن السياسة الأفغانية:
ظلال السياسة
مرة أخرى رفعوا علمهم
ملونة بدماء شبابنا
هذه القسوة التي لا تنتهي
تكسر عظامنا
وتخدعنا.
ونشرت رحيلة يار، الشاعرة الأفغانية المقيمة في ألمانيا، ثلاثة كتب شعرية، هي “برعم الأغنيات”، و”لماذا لا يتحدث النهر عن صرخاتنا” و”حزن الأغنيات”.. وهذه قصيدتها عن الانتخابات التي حدثت في 2014..
شخص ما يجلب مادة للانفجار
شخص ما انتحاري
شخص ما قطع إصبعي الذي أصوِّت به
هل يستمع الله لآلامي؟
وتكتب كريمة شبرانج، شاعرة من إقليم شمال أفغانستان، عن فخرها بكونها امرأة:
أنا امرأة
امرأة غير قادرة
امرأة تعيش بفخر
امرأة تناضل من أجل حقوقها
أنا امرأة لن تستسلم أبدًا.
لا أحد ينكر حقيقة أن المرأة الأفغانية لم تحصل بعد على الحرية لتكون قادرة على تشكيل مستقبل بلادها. فالخوف من طالبان قوي بما يكفي لإجبار النساء في المدينة على إخفاء وجوههن خلف الحجاب، على عكس ما كانت ترتديه النساء بين 1960-1990. ومع ذلك، لم يعد هذا الخوف يسكت النساء اللائي أصبحن أكثر صراحة في التعبير عن مشاعرهن الشخصية، وكذلك مشاعرهن تجاه البلد الذي ينتمي إليهن أيضًا.