نشر جورج حنين النص سنة 1947 في Valeurs، المجلة الادبية والنقدية الفرنكوفونية التي أسسها رينيه إيتامبل وصدرت في الاسكندرية بين 1945 و 1947. رأس تحريرها جان بولهان وحسين فوزي وجان جرونييه. حوت المجلة في أعدادها الثمانية نصوصاً لمارسيل بروست وسارتر وكامو وأندريه جيد بالاضافة إلى حسين فوزي ونجيب بلدي وجورج شحادة وعدد من الكتاب الفرنسيين والمصريين الفرنكوفونيين. نشر فيها جورج حنين مراجعات لأعمال أندريه بروتون وهنري ميشو وجاك بريفير.
كانت لِيل تواظب على تدوين يوميّاتها. من صميم قلبها. كان حسّها الفطريّ بالتفاني يتجلّى بمآثر مرهَفة في الكتابة. كانت ترسم على الورق دوائرحلزونية حالمة، آملةً في سرّها أن يأتي يوماً شارٍ ما، في واحدةٍ من تلك الصفقات العائلية التي تتوّج حُكماً إفلاس جيل كامل، ينظر متأثّراً ومؤكّداً أنّه لمح فيها” تمثّلات روح قلّ نظيرها”.
كانت ليل تعيش حياتها بتفانٍ، وعلى ما يبدو، ببساطةٍ. لقد كرّست حياتها، في الواقع، لحذاقاتٍ لامتناهية. منذ اللحظة التي قرّرت فيها تدوين يومياتها، ضاعفت من احتياطاتها تحسباً لكلّ ما قد يصيبها. بات التدوين هو الطريقة المثلى لتفادي ما قد يصيبها. تفوّقت في فنّ تحصين نفسها من أي حادثة إلى حين تأكدها من تلاشيها. وبما أنها كانت صادقة، كانت تدوّن على صفحة بيضاء: “إن هذه المذكرات لَحيلةٌ مبتذلة”.
في الاستراحات الطويلة التي تفصل بين جُمل كهذه، كانت تعرّض غرفتها لاختبار قاسٍ. فتفيض داخلها في طوافٍ عصبي، تتّجه إلى كومةٍ من الأغراض، تستنطق صوراً فوتوغرافية مؤثّرة أصابها الاصفرار، تدندن عناوين مكتبتها، وتلهو أحياناً بإثارة حلمتَيْها برقّةٍ بنتوءات بعض الأثاث. بات هذا التمرين الأخير في مقدّمة ملذّاتها، ولكنها بقيت متردّدةً في إعطائه المكانة التي يستحقّها في مذكراتها.
حرصاً منها على دفع الأمور إلى ذروتها، كانت ليل تقوم بين الحين والآخر بمغامراتٍ داخل الممرّات الأكثر ظُلمةً في الحدائق القديمة الواقعة على أطراف المدينة. هناك، كانت تسلّم نفسها لاختبار القُبل. غالباً ما كانت تقول: “مرّةً أخرى لو سمحت”. فتعيد تحريك شفتيها بطريقة مختلفة. لكنّها تُفاجَأ بأنّ القبلة تبقى دائماً ذاتها.
قرّرتْ تلبية نزوةٍ غامضة. فتوجّهت إلى رسّام مرموق، وطلبت منه أن يرسم لها بورتريه. كانت هناك عدة جلسات رسم، لم يقلّ فشل أيّ منها عن الأخرى. “غيّري تعابير وجهك!” كان يصرخ الرسام مشمئزاً، ساخطاً. فتُغيّر ليل تعابير وجهها. ولكنّ اللوحة كانت تبقى متعنّتة، مستعصية. وفي النهاية، أقحمت عينٌ نفسها بخجل يلامس الدجل: ضاقت أطرافها وانكمشت، تشكّلت منها دمعة، وحيدة، أفلتت وتدحرجت أرضاً. انحنت ليل والرسام ليتفحّصاها مدهوشَين، كأنه لم يسبق لهما أن شاهدا دمعة تتدحرج على الأرض. “بربِّك، غوري من هنا!”، صرخ الرسّام. وبشيء من الحزن، وشيء من الهشاشة، هبطت ليل الدرج الخشبي المهترئ، ومنه إلى طول تلك الشوارع التي تودي إلى الضواحي حيث بدا خيالها من بعيد يرقص كنطفةٍ من دخانٍ خالص.
كانت ليل قد وضعت مرآةً خلف الموقد. دخل زائرٌ غفلةً ووجدها ممدّدةً قرب النار، وقد أصابها الذهول من انعكاس وجهها وهو يحترق. “أليست هذه الشقة للإيجار؟”، سأل. فدعتْه للجلوس. ومن باب الخجل، أخذا يتحدّثان عن تفاصيل الإيجار.
مرةً أخرى، كتبت وهي تنتابها فرحة غريبة:
“الخاتمة يصكُّ أسنانه”
“تأخرتُ ساعةً”
كان ذاك المدعوّ “خاتمة” هو الرجل الذي أغواها بجنون، والذي تراءى له أنه قادرٌ على الثأر من كل رتابة سابقة.