``إننا نحتاج إلى تلك الكتب التي تنزل علينا كالصاعقة التي تؤلمنا، كموت من نحبه أكثر مما نحب أنفسنا، التي تجعلنا نشعر وكأننا قد طردنا إلى الغابات بعيدًا عن الناس، مثل الانتحار.. على الكتاب أن يكون كالفأس التي تحطم البحر المتجمد في داخلنا، هذا ما أظنه``.
الجملة الافتتاحية للكاتب الألماني التشيكي “فرانز كافكا” هي أبلغ تعريف لكل أنواع الفنون الجديرة بالمتابعة المستمرة، سواء كانت تلك الفنون في صورة أعمال أدبية مقروءة كالكتب والروايات، أو مرئية كالأفلام والمسلسلات. تتجلی قيمة أي عمل فني فيما يقدمه من رؤى وما يصنعه من جدل، لا يوجد أكثر من الأعمال العادية التي يزخر بها تاريخ البشرية في صناعة الفنون، ولكن هذا التاريخ صنَّف ووضع الأعمال الأبرز في مراتب عظمی بعيدًا عن غيرها من العادي أو الفقير فنيًّا. وبينما يدور الجدل حاليًا في كل الأوساط حول الفيلم المصري “ريش” للمخرج المصري عمر الزهيري فإننا بحاجة لإلقاء الضوء أكثر عن هذا العمل الغرائبي المُجدد.
فيلم غير عادي
يبدأ الفيلم بصراخ رجل يظهر فيما بعد أنه يحترق حيًّا. من اللقطة غير المفهومة يُنذرنا للمخرج بأننا علی أعتاب الدخول إلى عالم غير عادي. يتناول الفيلم حياة أسرة مكونة من أب وأم وثلاثة أطفال أحدهم رضيع.. وتقوم دميانة نصار في تجربتها الفنية الأولی بدور امرأة تابعة، لا تردد من الكلام سوی “حاضر، نعم، تمام”، بجسد متصلب ووجه تعلوه علامات الصدمة واللامبالاة. ينقد الرجل زوجته النقود في كل صباح من خزينة نقود معدنية صغيرة، ويبلغها بما عليها طبخه والتعليمات التي يجب عليها اتباعها علی مدار اليوم، وهو ما تفعله المرأة، تؤدي دور التابع بلا أي تحريف. تدور حبكة الفيلم حول تحوُّل رب الأسرة إلى فرخة بسبب خطأ تقني في أداء الساحر الذي كان موجودًا في عيد ميلاد أحد الأطفال. المفارقة هنا أن دور السحرة في مجتمعنا قائم في الأساس علی التسلية والترفيه واللقطات المضحكة، كإخراج أرنب من قبعة أو منديل من الفم، لذلك يسود الفزع نفوس الجيران، ويتهمون الرجل بأنه ملبوس بالجن. يهرب الساحر بعدما يعجز عن حل الأزمة تاركًا المرأة مع ثلاثة أطفال وفرخة!
تبدأ معاناة المرأة مع العالم الخارجي لأنها اعتادت دور التابع مما يُحلينا لأزمة مجتمعية راسخة في الوعي الجمعي قائمة علی وجود المرأة في الأساس باعتبارها شيئًا من ملحقات الرجل وتابع له بلا أي هوية أو سلطة. وتستمر معاناة المرأة في رحلة البحث عن الساحر الهارب ومن ثَم مع نظام بيروقراطي قائم في الأساس علی توقيف المراكب السائرة. تذهب المرأة إلى المصلحة التي يعمل فيها زوجها لتخبرهم بما حدث ليصفعها المسؤول بكلمات باردة مفادها أن لا أمل في الحصول علی معاش زوجها، وأن تغيبه يؤدي لخصم الراتب، ويطلب منها توظيف الولد الصغير بدلًا منه. وهنا نجد إشارة إلى عالم يعيش فيه الإنسان كالآلة، يمكن استبداله بآخر دون أي مشكلة، لا يتأثر العالم الرأسمالي بغياب أحد.
يتم التحفظ علی أثاث البيت للعجز عن سداد الإيجار، وتعجز المرأة عن الحصول علی وظيفة زوجها لأن المصنع لا يوظف النساء، وتبلغ المشكلات ذروتها حينما يحاول الرجل زميل زوجها في العمل التحرش بها نظير مساعدتها وأولادها وإنقاذهم من الموت جوعی.. تحاول المرأة الاستعانة بالسحر الأسود لإرجاع زوجها ولكن بلا فائدة، وحينما تمرض الفرخة/ الزوج تنفق علی علاجه كفرخة 300 جنيه مما يدفع الغرائبية لأقصی مداها!
النخبوية الجوفاء في مواجهة الشعبوية
بدأت الضجة حول فيلم “ريش” حينما تصدرت تصريحات شريف منير كل وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بأن الفيلم مسيء لمصر! ومع التاريخ الفني لشريف منير في ممارسة الفن، فإنه لم يتحل بأي رؤية نقدية تُمكنه من تحليل أو فهم ما شاهده. يُمثل شريف منير قطاعًا عريضًا من أصحاب الصوت العالي الذين يشرعون في إلقاء تهم الخيانة والعمالة لدول أجنبية لمجرد اختلاف الرؤی ووجهات النظر.. بينما دعم رواد مواقع التواصل الاجتماعي الفيلم واحتفوا به مرة أخری نكاية في شريف منير وفي أمثاله..
بطريقة مجهولة سيُسرب الفيلم بنسخة HD، وسيشاهده عموم الناس، وستختلف الآراء وتكثر، ولكن لن يقول أحد أن هذا فيلم مسيء لمصر، لأنه ببساطة يشبه واقع مُعاش نراه حولنا في الحياة اليومية.
قد يكون شريف منير مُصيبًا في قوله بأنه لا يری مثل هذه القذارة أو مظاهر الفقر في حياته اليومية، فهو لا يراها، وهذا بالتأكيد صحيح من منظور طبقي بحت مصمم علی رفض الآخر ومحو وجوده من الأساس.. هجوم شريف منير الذي برره بغيرته علی وطنه هجوم مجوف، مصحوب بطبقة صوتية فوقية تجاه صناع الفيلم أصحاب التجارب الأولی والمختلفة والتي منحت الفيلم جوائز وتكريمات عالمية، وهو ما حاربه منير أيضًا مُبررًا بأن هذا غير كافٍ كي يكف أصابع الاتهام عن الفيلم!
غرائبية في عوالم مظلمة
ربما نبعت الرهبة من فيلم ريش بسبب الثقل الذي يُحدثه في الروح، فبالنسبة للمعتادين علی رؤية الواقع بصورة جمالية في الأعمال الفنية مثلما صرح شريف منير أن الهدف من الفن نقل الواقع بصورة جمالية فإن ريش ينسف هذه الفرضية باعتماده علی زوايا تصوير ضيقة مقربة في الأماكن المغلقة لتظهر تفاصيل البيت قليل الأثاث كثير الأوساخ والقذارة الغارق في سبات كسبات أهله، بينما في المشاهد الخارجية اعتمد علی كادرات واسعة لتوضيح المحيط السكني أو الصناعي المتمثل في المصنع، الذي يبث سمومه ومخلفاته خارجه ليزيد من بؤس الكادر وتضيق الخناق علی الأسرة.
حين انتهيت من مشاهدة الفيلم وجدت نبضات قلبي متسارعة، شعرت بالراحة حين انتهيت من مشاهدة هذه التجربة الفنية الصادمة. يُشعرك الإيقاع البطيء للفيلم بالملل حتی تتمكن من قراءة الصور، وقد اعتمد مخرج الفيلم علی الكاميرا والمكان لتصدّر بطولة فيلمه، فيما كانت الأدوار الثانوية من نصيب الأفراد، وكان السيناريو جزءًا متممًا لعملية صناعة الفيلم وليس جزءًا أساسيًّا، وهو ما منح الفيلم تميزًا خاصًا، لقدرته علی التجريب، ومن ثَم سمح له بالفوز بالجائزة الكبرى للنقاد في مهرجان كان السينمائي الدولي، وجائزة أفضل فيلم طويل في مهرجان الجونة.
تأتي نهاية الفيلم صفعة مدوية حين تجد المرأة زوجها في قسم الشرطة؛ حيث تم القبض عليه كمشرد فاقد بلا أي إثبات لشخصيته، كان فاقدًا القدرة على الكلام أو التفاعل مع محيطه.. القروح والجروح والتورم في جسد الزوج والتي لم تعرف الزوجة أسبابها علامة استفهام كبيرة بلا تفسير واضح.. وفي نوبة غضب وسأم تصرخ المرأة في وجه زوجها وتصفعه لأكثر من مرة لكي يتحدث أو يستجيب، ولكن الرجل الذي يبدو كجثة هامدة لا يتفاعل مع الصفع والضرب، ربما من هول ما رآه. وتأتي نهاية الفيلم الكئيبة علی نغمات أغنية “حكايتي مع الزمان” لوردة، عندما تقوم الزوجة برفع مستوی الصوت في التليفزيون، ثم تدخل الغرفة وتكتم أنفاس زوجها، ثم تذبح الفرخة التي سئمت من رعايتها بلا طائل.. وينتهي الفيلم علی مشهد تناول الأطفال علی الطاولة بينما تُطعم الأم الطفل الرضيع.
ريش وطفيلي: الصراع الطبقي في العالم المظلم
نقطة أخری قد تكون خفية تسببت في حالة الجدل التي أحاطت فيلم ريش، وهو أنه لا يشبه فيلمًا آخر، يمتلك رؤية متفردة وإطارًا تجريبيًّا خاصًا به، مما تسبب في صدمة مشاهديه. بالنسبة لي لم أتمكن من وضعه في مقارنة مع أي فيلم آخر باستثناء parasite – طفيلي؛ الفيلم الكوري الجنوبي الذي صدر في 2019 والحائز علی العديد من الجوائز العالمية، أبرزها أوسكار أفضل فيلم بلغة أجنبية، وجولدن جلوب عن نفس الفئة. مصدر المقارنة هو الشعور الصادم الذي يشعر به المتلقي في أثناء المشاهدة، الشعور بسوريالية الأحداث وعبثية العالم الذي نعيش فيه ونری فيه يوميًّا ما لا نتمكن من استيعابه كُليًا. فيما كانت الرؤية شديدة الواقعية لاختلاف الطبقات الاجتماعية التي نعيش فيها في عالمنا هي النقطة الأخری التي تضع الفيلمين جنبًا إلی جنب. في ريش تضطر البطلة إلى العمل خادمة في منزل شديد الاتساع، تبدو كل مظاهر الثراء والبذخ واضحة وضوح الشمس، بداية من الحديقة الواسعة والمنزل الكبير، وصولًا للمطبخ الذي تملأ طاولته كميات ضخمة من اللحوم. ويظهر الصراع الطبقي حينما تختلس المرأة قطعًا قليلة من اللحم والحلوی قبل مغادرة المنزل ولكن الكلب يكتشف أمرها وينبح مما يتسبب في القبض عليها وطردها من العمل.
في فيلم parasite القائم في الأساس علی الصراع الطبقي بين الأثرياء جدًا والفقراء المعدمين، تعيش أسرة مكونة من 4 أفراد في قبو، ينتقل رب الأسرة من عمل إلی آخر حسب الظروف، وأحيانًا يكون بلا عمل نهائيًّا بسبب الأزمة الاقتصادية، وبالمصادفة وتزوير الأوراق الرسمية يعيَّن أكبر الأبناء في وظيفة مدرس لابنة الأسرة الثرية. تتعاون الأسرة الفقيرة مع بعضها بعضًا للحصول علی وظائف عند الأغنياء، ولكن الأمور لا تسير أفضل الأحوال وينتهي الفيلم بسقوط بعض أبطاله قتلی بسبب الصراع بين الثراء والفقر..
الصراعات الطبقية العديدة في واقعنا المعاش متمثلة في صور عديدة، ولكن الجميل في الفن هو القدرة على الإتيان بصور مختلفة للتعبير عن القضية. إذا كانت مشكلة ريش في كونه فيلمًا تجريبيًّا غير مفهوم، فهو ليس أول فيلم من هذه النوعية، ولكن في رأيي أن مشكلة ريش مع المنتقدين الأوائل كانت أنه يحمل رسائل شديدة الخفاء، تحتاج عقلاً واعيًا لإدراكها، أما المنتقدون الجدد فمن الطبيعي أن نعلن عن آرائنا فيما لا يعجبنا ولكن في البدء يجب علينا محاولة فهم ما يُراد قوله، فلا توجد أصنام فنية كي تهدم، بل من حق كل الناس أن تمارس الفن..
التاريخ متخم بالصراعات والدعوات لمنع تداول أفلام بعينها، ورغم ذلك كانت تلك الأفلام وحدها علامة فارقة في تاريخ السينما. وأسوأ ما نعيشه في الوقت الحالي هو الرغبة في ممارسة الرقابة علی من حولنا، فلم تعد يد الرقيب فقط هي ما تقيدنا، بل إن السلطة الاجتماعية باختلاف طبقاتها صارت حجرًا جاثمًا علی صدر حرية الرأي والتعبير. ويمكننا كتابة مجلدات عن الأعمال الفنية المصرية والعالمية التي ظلت حبيسة الأدراج بسبب المنع والاتهامات الزائفة بأنها تسوِّء سمعة الدول، ولكننا في عصرنا الحالي وصرنا أكثر قدرة علی التعبير باستخدام عدة آليات لمؤازرة هذه الأعمال الفنية التي لا تناصر الأيديولوجيات السياسية اليمنية، بل نحن في حاجة للأعمال التي تنتصر للمهمشين، والتي تبرز القبح لا الجمال المصطنع، وتبرز الجانب الواقعي والحقيقي في حياة عموم الناس لا خاصتهم، لأنه في النهاية تكمن قدرة الفن في محاكاة ونقد الأشياء الحقيقية، تنقد الخفايا وتُبرز العيوب وتسلط الضوء علی البثور والتشوهات التي يعاني منها الجسد البشري الإنساني، ربما لهذه الأسباب حاز ريش إعجاب لجان تحكيم المهرجانات المرموقة، وحاز إشادة أغلب مشاهديه حتى لو لم يتوافق مع رؤيتهم الفنية.