في الصباح وقفت أمام الثلاجة متحيرًا، وفي المساء خرجت مجددًا لأحضر المزيد من الطعام أملؤها به. أنا جائع. هذه هي الحقيقة الوحيدة التي تشغل تفكيري. البعض ينشغلون بالتفكير في قضايا وجدانية وفي مصير الأموات ونشأة الخلق، ولكني فقط أتسمَّر أمام الثلاجة لا أقوى على الاختيار. اتصلت بي نهى فبحثت عن شيء عشوائي أقوله لها؛ أخبرتها أنني أصبحت مهتمًا بالغدتين الواقعتين على جانبي رقبتي، آملاً أن يشغلها هذا عني قليلاً. كانت تسألني عن أحوالي وإلى آخر تلك الأمور، وكان ذلك يضايقني. تسألني في قلق مضطرب إن ما زلت أشعر بالضعف الجسماني، وكأن حياة الكوكب تعتمد على ذلك، تقول “أخشى أنك مصاب بأعراض مقاومة الأنسولين، لا يصح أن يغمى عليك هكذا! هل تضع خل التفاح الذي أعطيته لك على السلطة؟” نهى ليست طبيبة، ولكنها منشغلة بالبحث في الكثير من العلوم التافهة، أراها تتجول في ممرات السوبر ماركت والبريق الحماسي في عينيها تبحث عن كل ما هو خال من الجلوتين. أخبرها في الهاتف أنه ليس لدي وقت لإعداد أي سلطات، لأنني منشغل جدًا بإعداد بحث عن هاتين الغدتين، وأنني سأتصل بها فور أن أنتهي. أغلقتُ الخط وتحسستُ رقبتي ثم قررتُ أن أختار شيئا آكله. لم أستطع.
لم أحب أن تعتقد نهى أنني كاذب، فقررت البحث عن موضوع الغدتين بالفعل ولكن لاحقًا، أو ربما لن أفعل. لن أفعل ما دامتا تعملان. سأتوقف عما أفعله في حياتي وسأعد بحثًا رائعًا عن الغدتين ولكن في حال توقفتا عن عملهما. لا أعلم عملهما، لذا لن أعلم متى تتوقفان عن أدائه، ولذلك لا يقوم المرء بأبحاث.
صلاح يبيت عندي، والطريف في صلاح أنه يشبه محمد صلاح* إلى حد ما، وأحيانًا.. فقط أحيانًا، ليس وكأنه يفعل ذلك طوال الوقت، يخبرني عن الموت. صلاح يحب الاستلقاء والتحديق في الخيالات في سقف الحجرة، هناك عالم كامل من البهجة يقطع بجناحيه الفضاء في مخيلته، عيناه دومًا تلاحقان صورًا يراها وحده، ولكن حينما يصبح جادًا يخبرني أن عليَّ أن أضع الموت صوب عيني “حتى تخاف فتجتهد في حياتك”. هذا ما يقوله دومًا ولكن ليس طوال الوقت، ترون، هذه ثقافة أخرى غير صالحة كثقافة نهى تمامًا، فقط أشرب خل التفاح وأفكر في الموت، عندها سيُحَل كل شيء. أنا لا أخاف الموت مثل صلاح، أنا أعمل بمصنع للنسيج والغزل. أباطرة المال اشتروا القطاع العام واشتروني. لو لم تُخصخص كل تلك المصانع فلربما كنت أعمل ثماني ساعات بدلاً من ستة عشر يوميًّا، ولو كانت تحكم البلاد إدارة سياسية جيدة لكنت أتقاضي أجرًا جيدًا عن عملي، ولو لم أُخلق ما عملت مطلقًا، لكني خُلقت وأنا الآن عاطل.
طُردت بعد أن أغمي عليَّ اليوم مجددًا في العمل، لم أستطع أن آكل لذا لم أستطع العمل ثُلثي يوم يوميًّا. أحتاج العمل كي آكل لكني لا أستطيع الأكل كي أعمل. أحتاج أن يُصلح أحدهم علاقتي مع ثلاجتي.
صلاح أحضر بعض الطعام وطهاه في بيتي، لا شيء فعلاً يوقف صلاح عن العمل. إنه منشغل بعالم داخلي لا يطابق الواقع، كان يغني وهو يطبخ، وكنت واقفًا أتأمله محاولاً اكتشاف العطب.
اتصلت نهى مجددًا، مع أني أخبرتها أني منشغل، وسألتني عن أحوالي. لا أعرف ما الذي تريده مني نهى، أن أحبها، أن أحتويها، أن أصادقها؟ هل هي في حاجة لصديق أم لكلب مبلل في المطر تعطف عليه كيلا تلتفت لحياتها ولهالتها السوداء وشعرها راكد الرائحة الذي لا تغسله كي يحتفظ بزيوته وإفرازاته العفنة؟
أقول “ماذا تريدين يا نهي؟”. ترد “أريدك فقط أن تكون بخير”، أزفر في ضيق “نعم، لماذا؟ لماذا تريدين أن أكون بخير؟” وأنتظر الإجابة، يمكنك أن تفهم كل شيء عن دوافع الناس من إجابتهم على أسئلتك. أسمعها تكتم تنفسها من خلال الهاتف ثم تنفجر “هل أنت مجنون؟!”، فأهز كتفيَّ “لا، لستُ مجنونًا”، وأغلق الهاتف.
أخبرني صلاح أنه على المرء ألا يعمل من أجل سد رمقه، بل من أجل غاية يحققها داخل ذاته بالعمل. وأنا أعمل لغاية إراحة معدتي داخل بطني بالأكل. البعض لا يفهمون مشكلتي، يتحدثون عن أشياء لا يمكن لمسها. أرى القيم البالية تنخر في أدمغة من حولي، وتجعلهم ينطرون المواعظ نطرًا في وجهك، لذلك يقولونها غالبًا وهم يهزون رؤوسهم، قال لي أحدهم “ربما عليك أن تجرب الصيام، إن كان جسدك لا يتقبل الطعام.. الصيام مهذبه!” هذا ما قاله لي وهو يهز رأسه “الصيام مهذبه” لا بد أنني أسيء التصرف بشكل ما، قالت نهى كذلك من قبل “لا يصح أن يُغمي عليك!”، وصلاح يحدثني عن الموت. شعر الرجل بسرحاني فقال “هل سمعت عن الصيام؟” إنهم يأتون بكل الاختراعات المبتكرة، نعم سمعت، كنت حيًّا لعقود ماضية وسمعت ورأيت، أنا صائم بالفعل قسرًا وعلى وشك الموت من قلة التغذية. شكرته على نصيحته، ونصحته بشرب خل التفاح، قلت “أرى عليك أعراض قلة الأنسولين، كما أنه يجب أن تجعل الموت نصب عينيك، هكذا ستجتهد في حياتك البالية أكثر” فهز رأسه مستوعظًا ومضى، وأظنه حتى كان سعيدًا باستهزائي الوعظي به، هذا غريب!
شقتي فارغة، وقد بعتُ كل شيء لأنه لم يبد ذا فائدة. أعني الكثير من الكراسي والوسائد بينما أنا أحترق. أنا أتحلل وستبقى هذه الجمادات على حالها. لقد أضعتُ عمري أجمع أشياء ستتركني أتحلل وأختفي. قد يوحي هذا بأنني أملك الكثير ولكني أميل للمبالغة، كل ما كان لدي كنبة متضررة وأربعة كراسي متهالكة ومنضدة. ولكن ألا يجب علينا دومًا أن نشكو من الأشياء والماديات ونتخلص منها؟
صلاح لم يتضرر، فطالما بقيت له مرتبة ينام عليها فهو راض بل ومزدهر. زاد وجهه توردًا واشتدت عضلات بطنه، وليلا سمعتُه يغني من الحمام وهو يأخذ دوشًا ساخنًا بعد العمل وتساءلت عن موضع العطب.
أنا جائع. تناولتُ عشائي مع صلاح ثم ذهبت للمرحاض أتقيؤه.
اتصلتُ بنهى فبدت ممتنة لاتصالي، أخبرتني أنها وجدت نوعًا رائعًا من الكوكيز لا يحتوي على الزيوت المهدرجة “هل تصدق هذا؟!” قالت بفرحة مبالغ بها. نعم، اكتشافات مبتكرة. لم تعجبني رنة البهجة في صوتها لذلك أخبرتها مجددًا عن موضوع الغدتين. انطفأ صوتها، وقالت هذه المرة بملل إن لديها غدتين مماثلتين، وأنها لا تفهم سر انشغالي بهما، وأنها كانت تحسبهما نوعًا من الورم الحميد. سألتها منذ متى تعتقد أنهما ورما فأجابت بلا اكتراث: منذ الأزل.
لا يمكن أن أسمح بهذا، أن أدعها تتكلم معي دون اكتراث لذا كان عليَّ تأزيمها أكثر. أخبرتُها أنني أتصور طعم هاتين الغدتين، ولا أستطيع التفكير في شيء آخر منذ فكرت فيهما، وأن هذا، ربما.. هو ما أحتاج أن آكله. ظنت أنني أمزح فعرضتْ بنوع من الغنج أن تُضحي بغدتيها من أجلي. أجبت بالرفض، بدا لي هذا مقرفًا؛ قلت “نهي، ليس بإمكاني أبدًا أن آكل ورمًا، كيف تريدين إطعامي أشياء لا أطيقها؟ يا لك من فاسدة!” وأغلقتُ الهاتف في وجهها.
في الظهيرة ذهبت للبقال ثم للفرارجي ثم لبائع الخضر ثم لسوق السمك. ووقفت بما في يديَّ أمام جبل الزبالة في مواجهة منزلي. قال لي السمسار عندما استأجرته منه منذ سنوات ماضية، أن كومة الزبالة هذه ليست الإطلالة المناسبة ولكن قريبًا، قريبًا جدًا.. ربما في خلال أشهر قليلة، سيزيلها أحدهم ويبني مكانها صرحًا إسمنتيًّا تسكنه عائلات مقززة، وستكون هذه إطلالتي، وأنه ليس عليَّ أن أقلق، فقط أُغلق نوافذي كيلا يتسرب لي الذباب حتى تصل الاطلالة المثالية. ثم أخرجَ بلغمًا من حلقه إلى الأرض وقال “البلد كلها زبالة على أية حال، ماذا تريد؟ ما يهمك مما خارج بيتك؟ لا تشغل عقلك كثيرًا”.
لم أشغل عقلي ولكن أنفي كان ينشغل، عيناي كانتا تنشغلان، وأمعائي لم تكف عن الانشغال.
ليلاً أخبرت صلاح أنني تراب. ليس بعد ولكنني سأنزوي. لأسباب كهذه لا آكل الطماطم ولا الكوسة أبدًا.. إنها تنمو على جثث الأجداد، وأنا لا أريد أن آكل أجدادي، ليس احترامًا، بل لأنهم كانوا مقرفين. لقد أوصلوني لما أنا فيه بعشوائيتهم. حدقتُ بالجثث في ثلاجتي ثم ذهبت واتصلت بنهى.
أخبرتها أنني آسف ولكني لا أريد غدتيها، وأنني سآكل غدتيَّ أنا، اليمني فاليسرى ثم سألعق أصابعي. استمرت نهى في عدم اكتراثها، وحضَّتني باستهزاء ألا أفعل. وأخبرتني أنه لفعل ذلك لا بد من قطع رقبتي، وإن فعلت سأموت ولن يكون بإمكاني تذوق أي شيء، بما في ذلك غُدتي. كان كلامها معقولاً لذا أصابني بالنكد. وددتُ لو هناك طريقة أكتشف بها وجودي دون أن أقتله. طلبت منها أن تُغلق الهاتف في وجهي. قلت: نهي، أغلقي الهاتف في وجهي الآن فأنا لا أتحمل الحياة. ففعلت بعد أن بكت وصاحت أنني مضطرب، وأنها لا تريد رؤيتي بعد الآن.
أنا لستُ مضطربًا، الفارق الوحيد بيني وبين المجانين أنني لستُ مجنونًا. أنا فقط جائع، ولا شيء يعجبني بثلاجتي.