عندما انتصف عِقد الخمسينيات كانت الفنانة هدى سلطان تبحث عن جديد يقنع المنتجين بأن تعتزل أدوار المطربة الجميلة المستضعفة، التي يتركها حبيبها من أجل راقصة. كانت تعتقد أن نجاحها في دور المرأة الجميلة و”الغلبانة” سيظل معلقًا في رقبتها إذا لم تجد دورًا أقوى منه، بالتزامن مع هبوط منحنى ظهورها في الأفلام السينمائية من 8 أفلام سنة 1954 إلى فيلم واحد في العام الذي تلاه! وجاء نجاح تحية كاريوكا في فيلم “شباب امرأة” (1956) ليلفت انتباه هدى إلى نموذج جديد في أدوار الإغراء بالسينما المصرية، بعيدًا عن الثرية التي تسكن القصور، أو المرأة المثيرة في خدمة عصابة؛ جسدت كاريوكا دور امرأة قوية، مسيطرة، مستقلة ماديًّا، من طبقة شعبية، تغوي رجلاً لا لشيء إلا لأنها تريده. وإذا كانت تحية تجيد الرقص وتستخدمه كوسيلة ناجحة في الإغواء، فإن هدى سلطان تجيد الغناء، وتمتلك بمظهرها سلطة المرأة الشقراء في مجتمع تسوده أغلبية من النساء السمراوات، وبدخولها هذا العالم ستكون منافسة قوية أكثر إقناعًا في دور المرأة الشعبية، من الوجه الجديد في عالم الإغراء هند رستم، لذا عندما قدم لها السيناريست الشاب عبد الحي أديب قصة فيلم “امرأة في الطريق”، في معالجة للفيلم الأمريكي Duel in the Sun أو “مبارزة في الشمس” إنتاج 1946، تمسكت بها واشترتها منه كي لا تمثلها فنانة أخرى، ودخلت في صراعات “طويلة عريضة”-كما وصفتها- مع فريد شوقي، وهددته بحرق الرواية إن لم تمثلها، واضطرت للجوء إلى حلمي رفلة ليقنع فريد أن يتركها تفعل ما تريد!
كانت هدى سلطان (أغسطس 1925-يونيو 2006) تشعر بالثقة من قدرتها على النجاح في أدوار الإغراء، بالقدر نفسه الذي نجحت فيه مع أدوار المرأة “مكسورة الجناح”، فقد كانت امرأة ناضجة في منتصف الثلاثينيات من عمرها، تزوجت 3 مرات وأنجبت 3 بنات، وعاشت في المدينة لعقد على الأقل، ابتعدت زمنيا بقدر ما عن تقاليد “كفر أبو جِندي” الريفية المحافظة، وعملت في السينما بأجوائها التنافسية والمثيرة للقلق والمليئة بالصراعات، والمستهلكة للموهبة في قوالب جامدة، والمستنزفة للشباب، وتعلمت أن الفنانة التي لا تصعد أسهمها، حتما ستنتهي يوما ما، ولذلك لزم التغيير، ونموذج المرأة المثيرة والمسيطرة، الذي قدِّم كنقيض شائع لما جسدته هي نفسها في الماضي، كان الانتقال إليه ربما ليس الاختيار الوحيد، لكنه الأكثر منطقية بالنسبة لامرأة لها سماتها الشكلية والنفسية، وخبراتها في الغناء والتمثيل.
وبعرض فيلم “امرأة في الطريق”، من إخراج عز الدين ذو الفقار، في ديسمبر 1958، بدأت مرحلة جديدة في حياة هدى سلطان، وقدمت نفسها للمرة الأولى في صورة المرأة المغوية، ودخلت في منافسة بالفعل مع هند رستم التي عُرض لها في العام نفسه فيلم “باب الحديد”، لكن هدى نجحت بنجاح الفيلم المدوي، أما هند فلم يلتفت إليها أحد بفشل الفيلم تجاريًّا بخلو مقاعد السينما من المتفرجين!
هذا النص محاولة نبش وإعادة اكتشاف، لمرحلة فنية قصيرة للغاية، امتدت من عام 1958 بفيلم “امرأة في الطريق”، وانتهت بـستة أفلام دفعة واحدة عام 1960، سقطت تحت ثِقل التعاطف مع “ست الحسن”، في المرحلة الأولى، وتقدير الأم القوية في المرحلة الأخيرة من حياة الفنانة هدى سلطان!
الثور في هيجانه خطر!
“لماذا تتنصلين من تهمة الإغراء، ألست بطلة فيلم (امرأة في الطريق) الفيلم الذي فيه الإغراء من الألف إلى الياء؟”، هكذا سألها محرر مجلة الكواكب، لـهدى سلطان عام 1963 الذي لم تقدم فيه أفلام سينمائية على الإطلاق، وقتها لم تكن قد أقامت حاجزًا نفسيًّا بينها وبين دور “لواحظ”، وأدوارها اللاحقة كامرأة مغوية، فأجابت “أنت عارف إن ده أحسن فيلم مثلته في حياتي (..) والإغراء مش تهمة، إذا كان الدور في بنائه الدرامي قائمًا على أساس الإغراء..”.
يدور فيلم “امرأة في الطريق” حول لواحظ “الغازية” التي تحب رجلاً وتسعي إلى الزواج منه، لكن أحداثًا معقدة دفعت بها إلى الزواج من شقيقه الأصغر، فكانت سببًا رئيسيًّا في صراع دموي بينهما، له جذور عميقة وقديمة! فتكوين “لواحظ” وماضيها يلعبان دورًا أساسيًّا قبل أفعالها في تحريك أحداث الفيلم، فهي “غازية” أي راقصة، يرتبط وجودها بأماكن الترفيه والموالد خارج المناطق الحضرية، ويربط البعض بين “الغوازي” ومجتمعات الغجر، ليس لها عائلة، وهنا أول ربط بين عمل المرأة في مجال الترفيه وبين غياب السلطة الأبوية، وهو ما سيتكرر كثيرًا في الأفلام التالية!
هدى سلطان نفسها أو (بهيجة حبس عبد العال الحو) لم تبدأ السعي لاحتراف الغناء والتمثيل إلا بعد وفاة والدها، عمدة كفر أبو جِندي، لكن شقيقها الأكبر الفنان محمد فوزي رفض مساعدتها، وقرر تزويجها وهي بعمر السادسة عشرة، وعندما جاءت إلى القاهرة للمرة الأولى في النصف الثاني من الأربعينيات كانت متزوجة وأما لطفلة صغيرة، لكن حياتها الزوجية لم تكن مستقرة؛ بسبب رغبتها في احتراف الغناء، وسرعان ما انفصلت عن زوجها الأول، ودخلت معه في صراع قضائي دفعها إلى طلب المساعدة من المحامية مفيدة عبد الرحمن وهي التي ستمنح “بهيجة” اسمها الفني!
يحمل فيلم “امرأة في الطريق” عبر إشارات واضحة أن تكوين شخصية “لواحظ” في شكلها الحالي نتاج سلسلة من الأحداث، فتقول للشيخ أمين (عبد الغني قمر): “اللي فات عمره ما يتنسي يا معلم.. فاكرة لما طلعتوني حافية بالجلابية اللي عليا، فاكرة البلد كلها برجالاتها ونسوانها وهما طالعين يجروا ورايا ويحدفوني بالطوب. فاكرة كمان يا معلم وأنت واقف والسبحة في أيدك وبتقول لهم: أرجموها دي رجس، دي شيطان، أعوذ بالله من غضب الله”.
لن يمر وقت طويل قبل أن ندرك أن “لواحظ” المرأة التي عملت لأربع سنوات كراقصة، والتي جمعت كل مدخراتها في صورة مصوغات ذهبية حول معصميها، تعتبرهم بمثابة أهلها، فقد نُبذت من هذا المجتمع الريفي الصغير بسبب جمالها، هذا الجمال الذي صنع حالة من الاحتقان بين الرجال والنساء، فالنساء غاضبات منها بسبب إعجاب رجالهن بها، والرجال بمن فيهم “الشيخ أمين” يحاولون إغوائها لا للزواج منها، بل الجميع متزوجون، بل لأنها “غازية”، ولم يفهموا لما رفضتهم جميعًا، فهي من المفترض، عندهم، صورة من صور “العاهرة”!
لواحظ أحبت (صابر/رشدي أباظة) الرجل القوي والجميل، لكنه هو الآخر نبذها رغم حبه لها، فهو رجل صاحب تكوين معقد، فتزوجت بشقيقه الأصغر (حسنين/شكري سرحان) الشاب ضعيف الشخصية والمدلل، وفجأة تجد “لواحظ” نفسها بين رجل لا تحبه ولا تحترمه هو زوجها، وبين رجل تحبه ولطالما رغبت في الزواج منه هو شقيقه في مساحة أمتار يتحرك فيها الثلاثة في دائرة من الغليان ومعهما أب عجوز (فرج الصعيدي/زكي رستم) يشعل الأحقاد القديمة بين ابنيه!
في كتابه “الضلع الأعوج.. المرأة وهويتها الجنسية الضائعة”، يقول المؤلف إبراهيم محمود، إن في الثقافة الذكورية “تتحول المرأة إلى ثور يتم تهييجه بالمفاهيم المكونة لبنية هذه الثقافة، ليوحي إلى المتفرجين، قراء ومستمعين ولمن سيأتي بعدهم، أن الثور في هيجانه خطر، فلا بد من ترويضه والحجر عليه”، هذا بالضبط ما حدث مع “لواحظ”، هي وحدها من كانت ترى الرجال دون الأقنعة المختلفة التي يرتدونها، وإن غضبهم المعلن منها ليس له علاقة بغضبهم المكبوت، فهم وإن فشلوا في إغوائها، لم يفشلوا في أن يكونوا القوة المحركة خلف الانتقام منها، فقد اتهمها (الشيخ أمين) بأنها مارست الجنس مع شقيق زوجها، وإن على القرية كلها قتلها عقابا لها، فذهب خلفها (الشيخ أمين) ليقتلها بنفسه، لكن وهو يلومها على رفضه والسخرية منه، فتقتله هي في النهاية!
كان من الممكن أن ترحل “لواحظ” بعيدًا عن صابر وشقيقه، ربما كان هذا اختيارًا لكنه لا يحقق أي فائدة كبيرة لها، فهي وإن كانت قد طُردت من قريتها لأنها جميلة، من يضمن أن ذلك لن يتكرر، ولو سافرت بعيدًا ستجد الكثير من أمثال الشيخ أمين وسلامة وعبد الحي، الرجال الذين حاولوا إغوائها، لكنها لن تجد صابر، الرجل الذي تحبه، وتعتقد هي أيضًا أنه يحبها، لكن لرغبته المستمرة في إثبات إنه أفضل من شقيقه حسنين، حاول أن يتماسك أمامها، ويرفضها مرارًا، ويقنعها أنه يحب (بهية/آمال فريد) البدوية راعية الغنم، لكنه عندما ذهب إلى غرفة صديقه (علي/محمد توفيق) تأثر بصورها الملصقة على الحائط، وأظهر ضعفًا.
كانت “لواحظ” حتى اللحظة الأخيرة تتصور إن لها فرصة مع “صابر”، لكنه خنقها حتى الموت؛ لأنها المرأة التي انكشف أمامها ضعف وهشاشة تكوين كل هؤلاء الرجال بمن فيهم هو، وأن جمالها وتمردها وقوة شخصيتها قد خلخل بنيان علاقات مستقرة، وكان الانتقام منها أيضًا بسبب تماديها في السعي وراء هدفها في الحصول على صابر، وربما بسبب عدم احترامها لتقاليد المجتمع، لكنها في لحظة طردها منه لم يعد هناك ما يلزمها بالتمسك بتقاليده.
قُدمت شخصية “لواحظ” كنموذج لـ“المرأة الغاوية التي بوصفها حواء، تريد الإيقاع بالرجل، بوصفه آدم باستمرار. إنها صورة نسوية، تتفتح في مخيلة جماعية ذكورية، لا تخفي خوفها من آثامها، ومن مكائدها”، كما يقول إبراهيم محمود، ففي مخيلة “صابر” حتى وإن كان قد أحب “لواحظ” بشدة فإنه لا يستطيع الزواج منها، فالمرأة الجميلة تثير الخوف منها وعليها، ويتصور الرجل-خاصة في البيئات المشابهة لبيئة الفيلم- إنها بحاجة مستمرة إلى مراقبتها وحمايتها، كما إنه يتخوف من الشك من إن الغواية بالنسبة لها تعد بمثابة “هواية” لن تتوقف بالزواج منه، لذا أظهر إعجابه واستعداده للزواج بالمرأة التي قُدمت على إنها نقيضها، صاحبة الوجه البريء آمال فريد!
في معرض حديث هدى سلطان مع أميرة عبد العظيم في برنامج “ليلتي” عن شخصية “لواحظ” وصفتها بأنها “بتاعة الخمارات”، وقالت إنها شخصية تبحث عن الشكل، عن الرجل القوي طويل القامة عريض الكتفين، نموذج رشدي أباظة في هذا الوقت، واضح إنها لم تعد تتعاطف معها، مع أن “لواحظ”- في رأيي- كانت تستحق هذا التعاطف، فهي لم تحب “صابر” لأنه رجل جميل وقوي فقط، فهي امرأة جميلة لكن بتكوين نفسي هش، لا تشعر بالأمان، ووعيها قد أقنعها إن حل المشكلة يكمن في الزواج برجل قوي مثل صابر يحميها، وإن الحياة معه مهما كانت العقبات أمامها ستوفر لها الشعور بالأمان، وحتى وإن بدا من خلال مشاهد الفيلم وأداء هدى سلطان إن هدف “لواحظ” هو علاقة جنسية مع “صابر” إلا إن هذا ليس صحيحًا تمامًا، فهي كانت واعية إن علاقة جنسية لمرة واحدة ليست حل المشكلة، لكن بحدوثها يعني إن الحواجز النفسية بينها وبينه قد سقطت واعترف بها أخيرًا، وسيكون بعد ذلك الحديث عن الزواج مسألة منطقية!
قالت هدى في حوارها عن الفيلم إن “ده يمكن الفيلم الوحيد اللي مكتوب في قايمة أفلامي تحت أدوار الإغراء، وكان ممنوع من التليفزيون 30 سنة باين، وعمل ضجة جامدة جدا في السينما المصرية”. ما لم تقله إن الأغنية الوحيدة التي قدمتها في الفيلم “يا صابر” رفضت الإذاعة المصرية اعتمادها؛ بسبب اعتقادهم إن بها إيحاءات جنسية، وترى ماجدة خير الله في مقال لها عن هدى سلطان إن “كان من الممكن والأفضل الاستغناء عن الأغنية، ولكن في هذا التوقيت لم يكن ممكنا أن تظهر المطربة على شاشة السينما دون غناء، حتى لو كان الدور لا يحتاج منها لذلك”!
النسخة النسائية من ``دون جوان``
كان فيلم “امرأة في الطريق” ناجحًا لدرجة إنه في العام الذي تلا عرضه (1959) شاركت هدى سلطان كبطلة في ثلاثة أفلام دفعة واحدة، مع رشدي أباظة قدمت “قاطع طريق”، وفي عام (1960) ستشاركه فيلم “نهايةالطريق”، وهي كلها أفلام حاولت أن تستثمر نجاح “امرأة في الطريق” بصور مختلفة، سواء عبر إسناد البطولة لهدى ورشدي معًا، أو نسج شخصية هدى على نفس منوال “لواحظ”، لكن من أراد إعادة تقديم الفيلم نفسه هو المخرج محمود ذو الفقار شقيق عز الدين من خلال فيلم “نساء محرمات”، باستبعاد رشدي أباظة وشكري سرحان، ووضع هدى سلطان بين رجلين آخرين هما حسين رياض وصلاح ذو الفقار، مع الإبقاء على نقيض هدى في فيلم “امرأة في الطريق” الممثلة آمال فريد كنموذج للمرأة البريئة!
تلعب هدى سلطان هنا دور “محاسن”، امرأة من الطبقة الوسطى، أرملة ولديها ابنة مراهقة، لم يُعنى الفيلم كثيرًا بالتنقيب في ماضيها، فكل ما هناك إنها قد خسرت قضية ميراث ولم تملك ما تنفق به على ابنتها سوى أن تعتمد على مجموعة من الرجال-لا يبحث أي منهم عن علاقة زوجية- المعجبين بها في الإنفاق عليها، ليست وظيفة محددة، بل يبدو أن دورها اقتصر على إشاعة جو من البهجة بين مجموعة من الرجال في منزلها، عبر الرقص، والغناء الذي لم تعد فيه هدى تتحدث عن الصبر أو اللوم أو تسأل ضاربين الودع، بل تخاطب الغزيزة الجنسية لدى الرجل مباشرة “حوش عني عيونك حوش.. في الأول يبقوا ملايكة والآخر يبقوا وحوش”!
ما يجعل قصص النساء اللاتي جسدتهن هدى سلطان في أفلام تلك المرحلة مروية من قِبل رجال ومن أعين رجال، أنها لم تهتم بالصراع الداخلي للمرأة المغوية، فجاءت مشاعرها وسلوكها وكأنها تلقائية أو محسومة، فلم يوضع أي إطار خلف السبب الذي جعل “محاسن” وهي التي تجسد النسخة النسائية من “دون جوان” وتعيش في عالم صاخب ومتحرر، توافق على الزواج من تاجر محافظ متزوج بالفعل (حسين رياض)، ويبحث عن امرأة يُنجب منها طفلاً، فتعيش معه دون أن تُمنح فرصة للخروج أو الحديث مع آخرين باستثناء زوجته الأولى “حفيظة/أمينة رزق”، واكتفى الفيلم بأن جعلها تخضع لضغوط صديقة لها (زكية/وداد حمدي) لكي تقبل الزواج بهذا الرجل، وهي تقول لها إن الرجال من حولها هم في الحقيقة “دبابير” يمتصون دمها ولن يتركوها سوى جثة، فوافقت “محاسن” على خوض التجربة!
كان من الممكن أن يصبح هذا الانتقال الحاد منطقيًّا إذا وجدت “محاسن” رجلاً تحبه في حياة تضمن لها الاستقرار، فثيودور رايك، في كتابه “سيكولوجيا العلاقات الجنسية” يقول: “..إن النساء لا يتخيلن أن العلاقات الجنسية مع رجال كثر سوف تمنحهن الإشباع. ومعظم النساء يعتبرن العلاقات الجنسية غير الشرعية شيئًا يجلب العار أو شيئًا “وسخا” على الأقل. وشعورهن أقل انقسامًا بكثير من شعور الرجال. والتماسك الانفعالي إما أن يسعدهن أو يشقيهن. بيد أنهن يملن إلى توحيد متطلبات الحنان مع متطلبات الحاجات الجنسية، هذه الحاجات لا تستيقظ في الغالب إلا بعد اهتمام طويل وشديد برجل مهتم بهن أيضًا..”، لكن فيلم “نساء محرمات”-تأليف أمين يوسف غراب- أراد أن يصنع فخًّا لـ”محاسن”، بأن يضعها في علاقة مادية تمامًا مع رجل يكبرها سنًّا ولا تكافؤ بينهما ولا حب هو زوجها وبين رجل آخر أصغر سنا منها (أحمد/صلاح ذو الفقار)، فتسعى هي إليه تحبه وتقيم معه علاقة جنسية، وهي وحدها من كانت تدري أن هناك صلة تربط بين الرجلين فالأول يعتبر الثاني بمثابة ابنا له!
في علاقة “محاسن” مع أحمد كانت شخصية مختلفة تمامًا، تخلت عن ميولها التسلطية وانفعالاتها الحادة وتصرفاتها كما لو كانت نمر سجين، لكن تأتي مقدمات النهاية عندما تعرف “محاسن” بحملها وتظهر ابنتها المراهقة “ليلى/ آمال فريد” على ساحة الأحداث، ينجذب أحمد إلى الفتاة الصغيرة ويفكر فيها كزوجة مناسبة!
كان لافتًا أن يقدم فيلم “نساء محرمات” نقيض شخصية “محاسن” في ابنتها “ليلى”، فالمرأة البريئة – في عين الرجال صنّاع الفيلم- هي الصغيرة جدًا، وبراءتها تنبع أساسا من الجهل بالعالم وخلو حياتها من التجارب مع الرجال، يبدو نموذجا مثيرًا آخر في علاقة يكون فيها الرجل متفوقًا على المرأة، لكن “محاسن” بدت مناسبة أكثر من أجل مغامرة. من هذا الفيلم وفي كل الأعمال التالية في تلك المرحلة ستكون المرأة البريئة هي الأصغر سنًّا والأقل تجربة، من خلال نساء صغيرات تم تقديمهن على أنهن منزوعات الرغبة الجنسية بجمل حوار تميل إلى البلاهة وسلوكًا مستسلمًا وطموحًا متواضعًا!
الساتان لعلاقات قصيرة الأمد
ذكرت هدى سلطان في مقابلة مع يوسف شريف رزق الله “أنا اللي بعمل ملابس الفيلم بنفسي، كل أفلامي أصممها وأخيطها، من هوايتي التفصيل، لغاية لما أطلع الشخصية اللي أنا أبقى راضية عنها، طالما أنا راضية عنها مما لا شك فيه إن ده هينعكس على اللي بيشوفني”. كانت الملابس التي ترتديها شخصية المرأة المغوية في أفلام هدى سلطان من أبرز ملامحها، فيجب أولاً أن تتميز عن ملابس المرأة البريئة بألوانها والمساحات التي تغطيها أو تكشفها، وتعبر عن طبيعة الشخصية وعلاقتها بمحيطها من الرجال، وأن تعكس مهنة الشخصية، التي أحيانًا لا يُعرف على وجه التحديد ما هي، لكن في فيلم “حب ودلع” إنتاج 1958 كنا نعرف أن “بطة/هدى سلطان” هي عالمة تغني، لديها فرقة موسيقية وسرب من الراقصات يعملن معها في إحياء الأفراح والمناسبات!
كما كانت الشخصية تغني مخاطبة الجانب الحسي في الرجل في جو مشبع بالغريزة الجنسية أساسًا، كان تصوير الشخصية على نحو يتمحور عالمها حول الجنس والرجال، وحتى تفاصيل الحياة اليومية بالنسبة لها كامرأة عادية غير موجودة، واختفت المشاهد التي تعكس جانبها الحزين أو الضعيف، فالحوار عمن تريده من الرجال ومن سئمت منه، والرجل الذي تريد أن توهمه بالحب والرجل الذي تحبه فعلاً، والرجل الذي أنفق ماله كله عليها والرجل الذي يريد أن ينفق ما لديه من مال، حياة “بطة” كانت هكذا!
في كتاب “النساء.. الوقوف على الدوافع الجنسية من الثأر إلى المغامرة”: “..كما يتنافس الرجال لحيازة ما تريده النساء في الشريك الجنسي، تتنافس النساء لحيازة ما يريده الرجال في الشريكة الجنسية، وكما يصارع الرجال بعضهم بعضًا للحصول على المكانة، تأمين الموارد، اظهار حس الدعابة، الذكاء والبراعة الرياضية؛ لأن النساء يجدن هذه الصفات جذابة جنسيا، فأن النساء يتنافسن لإحراز وتنمية الصفات التي يجدها الرجال جذابة جنسيًّا. ومن أهم هذه الصفات الجمال الجسدي..”، كانت شخصية “بطة” في هذا الفيلم تستهدف علاقات قصيرة الأمد مع الرجال فاهتمت بمظهرها ليكون أكثر إثارة جنسيًّا- العلاقات طويلة الأمد تحتاج إلى الاهتمام بجوانب أخرى غير المظهر الجذاب-كما إن سلوكها عكس جانب غير متوقع من امرأة تعيش في حارة شعبية، فقد كانت تسير في الشارع وهي مرتدية ملابس النوم مثلا، أو أن تقف في شرفتها صباحًا للتحدث مع الرجال أو فقط تبادلهم النظرات وقت ذهابهم إلى العمل. كان شكل هذه الملابس يتحدث أحيانا بدلاً عنها، ويعبر عن طبيعة العلاقة التي تنشدها مع الرجل، كالفساتين القصيرة مكشوفة الصدر والذراعين، الضيقة في منطقة الخصر، كما أن أقمشة ناعمة مثل الساتان والحرير منحتها حضورًا له بريق جذاب ليلاً ونهارًا!
كتب فيلم “حب ودلع” وأخرجه محمود إسماعيل، الذي كان يؤدي دور “المعلم مدبولي”، الذي ترك زوجته وأولاده من أجل “بطة”، وكان يمثل لها مصدر الحماية إلى أن قررت أن تتركه فاستعانت بمعلم آخر، وفي هذا الفيلم أُضيف ملمح جديد في شبكة علاقات المرأة المغوية، فهي وإن كانت بلا أب أو عائلة، وتحتاج إلى فتوة يحميها، فما هو وضع رجل من عائلتها؟ منح الفيلم دور شقيق “بطة” إلى الممثل حاد الملامح صلاح نظمي، لكن الفيلم صنع له شخصية رجل مدلل صاحب مظهر وسلوك ناعم، سخر منه الفيلم؛ لأنه رجل يعيش مع “عالمة”، ولم يعترض بل على العكس لقد تركها تنفق عليها، عبر هذا المنظر الناعم وجمل الحوار التي منحت له شخصية كاريكاتورية بغيضة. وسيظهر شقيق العالمة مرة أخرى في فيلم “شلة الأنس”-1976- عن قصة لـمصطفى محمود، من خلال شخصية طالب الطب “سعد/نور الشريف”، شقيق “بسيمة/هدى سلطان”، كان متذمرًا من عمل شقيقته مغنية وراقصة في فرقة لإحياء الأفراح، وفي واحدة من شجاراته معها أخبرها أنها نقطة ضعف في مستقبله، ومع زملائه والفتاة التي يحبها لم يكن يتحدث عن عمل شقيقته، وعندما تخرج تركها وتزوج من فتاة من طبقة أعلى منه!
المرأة المغوية صائدة رجال.. وبضاعة!
يبدأ فيلم “صائدة الرجال”-إنتاج 1960- برسالة من شرطة مكافحة الآداب “إن القانون والعقاب في أثرهن دائمًا، ونحن نقبض كل يوم على عشرات منهن، في الأماكن التي يمارسن فيها تجارتهن الوضيعة وأن المجتمع بأسره مسؤول عن وجودهن، فلو لم يوجد المشتري، لما وجدت أبدًا من تبيع عرضها!”. على الرغم من أن بطلة الفيلم “عزيزة” التي وُصفت بـ”صائدة الرجال” كانت مغنية في ملهى ليلي فإن الفيلم ضمها إلى فئة مقدمات الخدمة الجنسية، وألقى المسؤولية على الرجال لإنهاء وجودهن؛ لأن الرجال-وفق هذا المنظور- هم سبب وجودهن من الأساس!
يعتبر عام 1960 ذروة نجاح هدى سلطان في دور المرأة المغوية، فقد قدمت فيه 6 أفلام تؤدي الشخصية نفسها، وكان “صائدة الرجال”، إخراج حسن الإمام- الذي سبق وتعاونت معه في مرحلة “ست الحسن”- أول فيلم من ثلاثة أفلام تضمهم هذه المرحلة أخرجهم الإمام، الذي سيضيف تعقيدًا جديدًا لحياة المرأة المغوية في أفلام هدى سلطان، بأن يجعلها تنتقل بين عالمين مختلفين لا تشعر بالانتماء إلى أي منهما.
كان حسن الإمام نفسه تكوينًا يمتزج فيه عالمان؛ عالم الأسرة الثرية التي نشأ فيها، كابن لأكبر وكلاء توزيع السجائر الأجنبية في محافظة الدقهلية، الذي ألحقه بمدرسة الفرير بالمنصورة في عمر الخامسة، فكان يتحدث الفرنسية في عمر صغيرة، وبعد إفلاس والده ثم وفاته انتقل حسن الإمام الشاب إلى عوالم شارع عماد الدين بمسارحه ومقاهيه، وشارع محمد علي، حيث سكن لمدة ثلاث سنوات في غرفة في درب متفرع من شارع محمد علي، وبالتزامن مع عمله في “استديو مصر” كان الإمام مديرًا لمسرح فرقة بديعة مصابني، ومترجمًا لبعض أغاني الميوزيك هول الفرنسية، كما ترجم مسرحيات الفودفيل الفرنسية التي كانت تقدم كفواصل مضحكة بين الفقرات، وكتب المونولوجات لثريا حلمي وغيرها. (من كتاب: سلسلة الخالدون حسن الإمام، تأليف وليد سيف).
أي أن تعلق حسن الإمام بـتصوير “دنيا العوالم والراقصات” في أفلامه لم يكن مجرد هواية أو مجال للتميز عن مخرجين آخرين، بل لأنه كان جزءًا منه، ويدرك حجم الهوة التي تفصل بين العاملين في مجال الترفيه في شارع عماد الدين وشارع محمد علي وبين المجتمع، الذي يوصم هؤلاء ولا يحترمهم، لكنه كان يروي قصص هذا العالم من خلال نسائه، لا الرجال، على أساس إن الأقدار تصنع للنساء في هذا العالم مصائر معقدة ومختلفة عن الرجال، ومع ذلك، حسن الإمام كان واحدًا من رجال هذا العصر الذين تعصف بهم صراعات داخلية بشأن تقديم هذا النوع من النساء، فهو وإن كان يعرف القصص الحقيقية للكثير منهن، ويدرك أنهن في الغالب صنيعة هذا المجتمع، وقوانينه الهشة وغياب المساواة فيه، فإنه عند ترجمة هذه القصص إلى السينما لا يلبث أن يلقي اللوم عليهن كما في فيلم “زوجة من الشارع”، بل يقدم العاملات في الملاهي الليلية والكباريهات بوصفهن “عاهرات”، كما بدأ فيلم “صائدة الرجال” برسالة من شرطة الآداب!
لم يكن الربط بين العمل في مجال الترفيه وعمل النساء في البغاء فكرًا سينمائيًّا فقط، بل إن بعض الأبحاث التي نُشرت في عقد الخمسينيات من القرن العشرين قد أشارت إلى إن “مهنة (الخدمة في المنازل) هي أكثر المهن تسهيلا للدعارة بين محترفاتها، تليها مهنة العاملات، ثم الفنانات في الملاهي والكباريهات، ثم البائعات المتجولات، فالممرضات، فحائكات الملابس، فالفلاحات، فالممثلات، فالبائعات في المحال التجارية، فالتاجرات”، وكان عدد حالات “فنانات الملاهي والكباريهات” 50 حالة من أصل 600، هي دراسة “ظاهرة البغاء في مدينة القاهرة”، التي أجراها القائمقام محمد نيازي حتاتة، ونُشرت في مجلة الأمن العام سنة 1959، وفحص الحالات الاجتماعية لستمائة امرأة وفتاة ممن ضبطتهن شرطة حماية الآداب بتهمة احتراف البغاء أو إدارته أو اشتراكهن في إدارة منازل البغاء أو تحريضهن الجمهور علنًا على الفسق بالطرق والمحلات العامة، وهي الدراسة التي عرضها عبد الوهاب بكر في كتابه “مجتمع القاهرة السري (1900- 1951)”!
يدور الصراع في فيلم “صائدة الرجال” على “عزيزة/هدى سلطان” بين رجلين يمثلان الإغواء والبراءة: فؤاد/محمود المليجي الذي يرى فيها جسدًا جميلاً ويحاول أن يقنعها أن تصبح عشيقته وسلاحه في هذا هو نفوذه وثروته، والآخر “أحمد/شكري سرحان” المهندس الذي أحب عزيزة وتزوجها في شقة صغيرة يسكنها مع والده المريض، لكن الحياة سرعان ما تعيد اختبار علاقة “عزيزة” بالرجلين من خلال سلسلة من الأحداث الميلودرامية بالطبع، إلى أن ينتهي الفيلم بإنقاذ أحمد لعزيزة من الانتحار وعودتهما معا إلى المنزل. الفيلم منذ البداية وضع على عاتق الرجال مهمة إصلاح ما أفسدوه!
من الملامح الجديدة التي قدمها فيلم “صائدة الرجال” لشخصية المرأة المغوية هو رؤيتها لنفسها، فعندما صفع مدير الكباريه (صلاح نظمي) واحدة من النساء العاملات، قالت لها عزيزة ساخرة: “أنتي فاكرة إن إحنا ستات، الستات هما اللي في البيوت مع أجوازهم وأولادهم، إنما إحنا بضاعة”! الملمح الثاني، على عكس الأفلام السابقة التي قدمت المرأة المغوية دون عائلة، بالتحديد دون أب، وربطت بين غيابه وبين عمل المرأة عالمة أو عاهرة أو مطربة في الملاهي الليلية أو غازية، هنا في “صائدة الرجال”، كان لـحضور الأب دورًا في تكوين شخصية “عزيزة”، فقالت لأحمد قبل زواجهما “إنت بتحب أبوك لكن أنا بكره أبويا؛ لأن هو سبب تعاستي، حرمني من أمي وأنا صغيرة، وجعت واتعريت واتمرمطت معاه في كل حتة”.
إيه يحرر النسا قال بُعد الرجال عنهم “مثل شعبي”!
“منذ بداية العبودية، منحت الجواري قدرًا من الخصوصية التي تتماشى مع مقرهن النهائي ألا وهو الحرملك في بيوت النخبة. ففي أسواق القاهرة، قلما كان يتم عرض الجواري البيضاوات على الملأ، فكان المشترون يدعون إلى شقق خاصة تم تسكين هؤلاء النساء فيها، أو كان يتم عرض العبيد لتفحصهن في البيوت. ومع بيع بعضهم للنساء الثريات للقيام بأعمال الخدمة داخل “الحريم”، كانت الكثيرات من هؤلاء الجواري يشتريهن أعضاء العائلة المالكة وكبار المسئولين الأتراك والتجار الأثرياء ليصبحن محظيات. وبمرور الوقت اندمج هؤلاء الجواري ضمن أفراد الحريم أو حتى كزوجات أو قريبات لمشتريهن”، هكذا يصف كتاب “نساء مصر في القرن التاسع عشر” وضعية الجواري البيضاوات في مصر قبل إلغاء نظام الرق والعبودية بالتدريج خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين، ما يجعلني أستعيد تجربة هؤلاء الجواري، أن إلغاء نظام العبودية بشكل رسمي لم يلغ فكرة وجود “المحظية” في حياة الرجل المصري الثري في العصر الحديث، بل إن نموذج المرأة المغوية في أفلام هدى سلطان قد جسد هذه العلاقة بين السيد والجارية، عبر إعطاء المرأة مسمى آخر “عشيقة” مثلاً!
يبدأ فيلم “زوجة من الشارع”، تأليف وإخراج حسن الإمام، بحوار محتدم بين “دلال/هدى سلطان” و”حسين/كمال الشناوي”، تطلب فيه هي أن يتزوجها بعد 3 سنوات من الحياة المشتركة، لكنه يرفض؛ ففي رأيه إن الزواج لا بد أن يكون بين عائلتين متكافئتين، لكن دلال مطربة في كباريه يحب هو أن يراها بمثابة “زوجة من الشارع”!
لا يمكن تصور إن الرجل المصري في القرن التاسع عشر قد واجه مأزقًا كهذا، فكان النظام الاجتماعي قد وفر للرجل وقتها سبلاً تمتعه بالحرية الجنسية، دون صراعات داخلية عميقة بشأن ما هو قانوني وما هو شرعي وما هو أخلاقي، فكان تعدد الزوجات نهجًا قائمًا، خاصة بين أثرياء الطبقة العليا ورجال الطبقة الوسطى، وكان الزواج نفسه يتم في معظم الحالات تدعيما للوضع المالي أو للطموح السياسي أو حتى بهدف تعزيز الصلات بين العائلات الكبيرة، فالزواج عن حب في مجتمع انتهج نظام الفصل بين الجنسين لم يكن طقسًا عاديًّا، بالإضافة إلى أن هذا الرجل نفسه، عبر نظام الرق الذي كان قائما يمكنه أن يشتري ما يستطيع من الجواري من كل الألوان المتاحة: البيضاوات والسوداوات والحبشيات، كما يمكنه شراء الخدمات الجنسية من البغايا في البيوت المرخصة والسرية، التي يديرها مصريون أو أجانب، يمكن طبعًا أن يصاب بالعديد من الأمراض التناسلية أو يموت في عمر مبكرة، لكنه على الأقل لم يكن ليعاني صراعًا داخليًّا أو احتياجًا جنسيًّا، ومع إلغاء الرق وتجريم البغاء وعدم القدرة على تحمل تكلفة إعالة أكثر من زوجة، في مجتمع تمقت نسائه التعدد وتحاربه، أصبح الرجل يعيش في حيرة بين تقاليد الزواج التي لم تتغير كثيرًا وبين قلبه، فيمكن تصور أي صراع كان يعيشه “حسين”، ولما واجه هذا المأزق مع “دلال”، التي لو كانت جارية أو محظية في القرن التاسع عشر لم تكن لتشعر بالغبن “..وحتى باعتبارهن خليلات خارج نطاق الزواج الشرعي، حظيت الجاريات ببعض الحقوق والمزايا عند إنجابهن أطفالاً من أسيادهن. فإن قدرة الجواري على الإصرار والتصميم على هذه الحقوق، وسيادة نظام معترف به للجواري والمحظيات دعم موقفهن خلال عهود العبودية والرق ثم في أعقاب التحرر والعتق”، كما يقول كتاب “نساء مصر في القرن التاسع عشر”!
بعد 7 سنوات من الحوار العاصف بين دلال وحسين، يدخل “مصطفى/عماد حمدي” إلى حياة المطربة الحسناء، التي ظلت تتنقل من كباريه لآخر حتى وصلت لكباريه “النحلة”، وهنا طلب منها “مصطفى” الزواج، فردت: هيقولوا لك جايب لنا زوجة من الشارع! رد عليها بثقة: “أبدًا.. أنتي هتكوني أعظم زوجة في الدنيا. أنا بحبك يا دلال، أنا ابيع الدنيا بحالها علشانك”، وبدأ الفصل الثالث والأخير من حياة “دلال”، حيث الفخ المعتاد الذي يقام للمرأة المغوية، بحيث تكون ضلع في مثلث مع رجلين، بصدفة عجيبة يدخل “حسين” إلى حياة “دلال” من جديد، فتحاول أن تعيد الماضي البعيد، وعندما يرفض ويختار “فاطمة/نادية الجندي”، ترتكب جريمة ثم جريمة أخرى وينتهي الفيلم بأن يُحكم عليها بالإعدام!
أظهر الفيلم إن التسامح الذي تعامل به “مصطفى” مع “دلال” يعود إلى إنه رجل طيب وساذج أغوته عروسة بحر من بنات المدينة، إنما لا أرى ذلك، فقد اختارها زوجة ستعيش وسط مجتمع ريفي، يتعامل مع الغرباء بحذر، وإذا عُرفت طبيعة مهنتها ربما يضر بسمعة “مصطفى” كرجل ثري وله سلطة داخل مجتمعه، لكن “مصطفى” كان رجلاً في منتصف العمر يبدو قد تجاوز الخمسين، لا أب له على قيد الحياة ليبرر لماذا اختار راقصة في كباريه لتكون زوجة له، كما أن “دلال” امرأة شقراء، قد يكون زواجه منها هو تتويج لسلطة يمتلكها بالفعل في مجتمعه الريفي، وسط الفلاحين أصحاب البشرة البنية، لون قريبته التي تريده والدته أن يتزوجها “فاطمة”، لكنه لم يشعر أن عليه الخضوع لرغبة والدته، فسلطتها عليه كرجل مسؤول هي سلطة أدبية غير ملزمة، ففرض عليها “دلال” كزوجة له، وتحمس لزواج “فاطمة” من “حسين”، وكان يمكن أن ينتهي الفيلم هكذا، لكن صنّاعه الحائرين بين أن تكون المرأة المغوية ضحية أم مجرمة، قد نسجوا نهاية تُدان فيها بالقتل ويُحكم عليها بالإعدام، على مع أن الفيلم لم يعرض في ماضي “دلال” ما يجعلنا نعتقد أنها قد ترتكب جريمة عنف، لكن الإدانة هنا بغض النظر عن نوع الجريمة، لامرأة مجرمة أساسًا لأنها “مغوية” ولأنها تنتمي للعالم السفلي للمدينة حيث لا فرق بين راقصة في كباريه أو مغنية أو عاهرة، وتقريبًا كل أفلام هذا العام من بطولة هدى سلطان قد انتهت بأن ماتت البطلة أو دخلت المحكمة: فيلم “سر امرأة” لعاطف سالم أُتهمت بقتل عشيقها، فيلم “الغجرية” دخلت البطلة السجن بتهمة سرقة خاتم ووقف محامي المدعية في المحكمة يقول: “إنها من أشد المجرمين خطرا على المجتمع .. هذه غجرية أفاقة من أحط أنواع البشر”!
من اللافت إن التهديد بالقتل كان جزء من حياة بهيجة/ هدى سلطان، على الأقل في المرحلة الأولى التي كانت تحاول فيها إيجاد موضع قدم في الوسط الفني بالقاهرة، فقد عرَّفها البعض على الموسيقار محمد عبد الوهاب، سمع صوتها وأُعجب به وأراد أن يتعاقد معها لبطولة واحد من أفلامه، لكن ما إن سمع شقيقها محمد فوزي بهذا الخبر حتى اتصل بعبد الوهاب وهدد بقتل (بهيجة) إذا شاركت في الفيلم، بالطبع فسخ محمد عبد الوهاب العقد، سيعود فوزي للتهديد بالقتل مرة أخرى عندما شرعت هدى في المشاركة بفيلمها الأول “ست الحسن”!
في عام 1949 كانت شركة (نحاس فيلم) تبحث عن وجه جديد لمطربة للمشاركة في فيلم “ست الحسن” بطولة ليلى فوزي وكمال الشناوي، كانت هدى قد تقدمت بالفعل للإذاعة المصرية، ونجحت في الامتحان وبدأت في تقديم وصلات غنائية باسمها الفني، سمعها المخرج نيازي مصطفى وزوجته الفنانة كوكا، ووافقا على مشاركتها في الفيلم، لكن محمد فوزي هدد شركة نحاس وقال لـحلمي رفلة “أنا هقتلها ومش أنا بس اللي هقتلها ده أهلها كمان، وأنت هتخسر كده”، فما كان من رفلة إلى أن سخر من التهديد وقال له: “أخسر أخسر أنا معايا صوت كويس وصورة كويسة ولو يعني (لو قتلتها يعني) تبقى دعاية للفيلم”، كما قالت هدى لـ أميرة عبد العظيم في برنامج “ليلتي” عام 2000. تعتقد هدى سلطان إن تهديدات شقيقها لها في تلك الفترة كانت بدافع “الخوف” عليها من العمل في مجال صعب، وظلت القطيعة بينهما لعدة سنوات، لكنها تصالحت معه في فترة مرضه الأولى، ولحن لها محمد فوزي بعد ذلك عدة أغنيات كما أنتج لها فيلم “فتوات الحسينية” عام 1954.
أعتقد أن النهايات التي تحمل قتل أو إعدام المرأة المغوية تعكس شعور الرجال بالتهديد، فبدلاً من أن تقضي عليهم عروس البحر بسحرها يقضون هم عليها بقوة القانون، الذي لا يوجد مادة فيه تجرم الإغواء، لذا يجب إيجاد لها ذريعة أخرى ” أما النموذج الذي يوضح لنا بطريقة أخرى مفهوم الغواية في تكوينها الأنثوي، فهن عرائس البحر، اللواتي كن يجذبن البحارة إلى الأعماق المائية بأصواتهن الشجية العذبة والرخيمة، ثم يقضين عليهم بعد ذلك (..) كورس نسائي، يطفحن أنوثة، ويفضن جاذبية، ويشتعلن إغواء، وهذه هي سمات المرأة الغاوية التي توقع بالآخر. الغواية هنا إخراج الذات من مكمنها، تجريدها من عناصر قوتها. ونحن في هذه الحالة نواجه قوة أنثوية تؤكد حضورها، تحاول إثباته في مواجهة قوة ذكورية موجّهة تهددها. وفي الحالتين، تكون المرأة هي المنقذة، إنها رحم الأمان، وطريق الخلاص، رغم أنها من جهة أخرى تبرز مهلكة”، كما يقول إبراهيم محمود في كتابه “الضلع الأعوج.. المرأة وهويتها الجنسية الضائعة”.
امرأة فقدت سحرها
لم تتوقف هدى سلطان عن العمل الفني منذ فيلمها الأول “ست الحسن” عام 1950، وحتى منتصف الستينيات، لكن المتأمل فيلموجرافيا الخاصة بها سيجد فجوة زمنية لم تقدم فيها أي عمل على الإطلاق لمدة 3 سنوات من 1965 وحتى 1960! ولا يمكن فهم هذه الفجوة الزمنية بعد النشاط الكبير في السينما والمسرح والغناء دون النظر إلى صراعات هدى سلطان مع زوجها الثالث فريد شوقي، الذي تزوجته في الخميس 1 فبراير 1951، واستمر زواجهما عشرين عامًا، وشاركته الكثير من أفلام مرحلتها الفنية الأولى، وحتى بعد نجاحها في أدوار الإغراء عادت لتشارك فريد بطولة الأفلام التي صنع شهرته من خلالها كوحش الشاشة، فقدمت معه في سنوات الستينيات، أفلام: سوق السلاح (1960) وعبيد الجسد (1962)، وآخر أفلامهما معًا كان فيلم “العائلة الكريمة” (1964) في معالجة جديدة لفيلم “لعبة الست” بطولة نجيب الريحاني وتحية كاريوكا، لكن علاقتهما الزوجية قد أصابها التوتر ودخلت في موجات من الصراع المتصاعد بعد إصرارها على بطولة فيلم “امرأة في الطريق”!
وذكر فريد شوقي في مذكراته “ملك الترسو”، إنه لم يرغب في أن يشارك هدى بطولة هذا الفيلم، واعترض بشدة على أن تقوم هي ببطولته مع أي فنان آخر، لكنها أصرت، وبعد نجاح الفيلم المدوي وعمل هدى بمفردها بدون فريد في عدة أفلام لاحقة، وتزامن ذلك مع فترة فشل وركود فني عاشها هو، طرح عليها فكرة اعتزالها الفن نهائيًّا “وطلبتُ من هدى الزوجة الحبيبة أن تعتزل التمثيل، وتبقى بالبيت لتهتم أكثر بحياتنا الزوجية، شعرتُ بأن عملها الفني بدأ يؤثر على واجباتها وكأم خاصة بعد أن كبرت بناتنا. لقد خصصنا لهن دادة ترعى شؤونهن أثناء انشغالنا بعملنا ونشاطنا الفني، لكن حنان الأم لا يعوض أبدًا. وقلت لها: يا هدى سأعطيك كل شهر مبلغ خمسمائة جنيه، سأوفي كل الالتزامات بالبيت، لقد أشبعتِ هوايتك الفنية بما فيه الكفاية، وهدى الفنانة يجب ألا تطغى على هدى الأم، ولا تنسي يا هدي أني طلبتُ منك قبل زواجنا أن تتفرغي لحياتنا الزوجية”!
كانت هدى سلطان في تلك الفترة تمر بأزمة نفسية حادة بسبب الأخبار التي تتداولها الصحف عن علاقات فريد النسائية، وبعد طلاقهما لمرتين متتاليتين يبدو أن عهودا قد تبادلها الزوجين، يتوقف فيها فريد عن لعب دور “ساحر النساء” في الحياة، وتعتزل هدى الفن وتتفرغ لعائلتها، وأعلنت هدى في الصحف اعتزالها الفن والتقطت صورًا لها مع عريس ابنتها الأولى “نبيلة” في حفل الخطوبة، لكن ما إن نقض فريد وعوده رغبت هدى في أن تستعيد حياتها الفنية، وقدمت بالفعل مسرحية “وداد الغازية”، لكن مع هزيمة الخامس من يونيو 1967، شهد العمل الفني والسينمائي تحديدًا اضطرابات كبيرة على أثر هجرة العديد من الفنانين إلى لبنان، فريد شوقي نفسه عمل في أفلام تركية ولبنانية في تلك الفترة، لكن هدى لم ترحل مع الراحلين، وظهرت للمرة الأولى بعد الاعتزال في فيلمين سينمائيين سنة 1968، في دور غجرية مغنية في فيلم “السيرك” إخراج عاطف سالم، والفيلم الثاني هو “ثلاث نساء” وشاركت هي في القصة الثانية التي أخرجها صلاح أبو سيف في دور “توحيدة”!
كان من الصعب على هدى سلطان أن تعود بعد اعتزالها إلى المكان نفسه الذي توقفت فيه سنة 1960، فقد كانت في منتصف عقدها الرابع، وخلافاتها العاصفة مع فريد شوقي قد تركت آثارًا على ملامحها ونفسيتها، لذا دخلت في مرحلة جديدة، يمكن أن نعتبرها مرحلة انتقالية، بين أدوار الإغراء وبين أدوار الأم القوية، وكان دور “توحيدة” هو واحد من أدوار المرحلة الانتقالية، لعبت فيه شخصية أرملة جزار، ميسورة الحال، تحب موظفًا بسيطًا في مجمع التحرير “شكري سرحان”، متزوج ولديه أبناء، وهي ترغب في أن تكون زوجة ثانية له، استخدمت أسلحتها القديمة في الإغواء لكن الرجل لم يستجيب، فلجأت إلى دجال يساعدها، هذه المرأة لم تعد تثق في سحرها الخاص وقدرتها على التأثير في الرجال وتحتاج إلى قوة أكبر، كما إن الرجل قد تحول -وللعجب- هدف بعيد المنال، فأعطاها الدجال أحجبة وأقام لها زار، ورأت “توحيدة” نفسها معه كزوجة في الكثير من أحلام اليقظة، لكن سرعان ما تبددت الأحلام وأخبرها الرجل إنه يريد أن يقترض منها مبلغًا ماليًّا بسيطًا لكي يُجري جراحة لزوجته، وظهر أن كل هذا التودد لم يكن بدافع الحب بل مقدمات لكي يطلب منها المال. وانتهت القصة!