في البدء كان النزق…
به ومنه نخرج من التواطؤ مع البلادة والتكرار والأسى. هذه الفقاعات التي نعيش فيها، ونتخيلها حياة؛ لأننا ملتزمون بالقياسات النموذجية. والنزق إمكانية للتغلب على الرغبة في مثالية بلهاء، صنعتها كتب الطفولة وتعاليم الأسرة السعيدة على الغلاف الخلفي لكراسات المدرسة. وهذه المثالية البلهاء تتوحش بكل وداعتها لتلتهمنا ونحن في منتصف العمر أو ما بعده. ثم تخرج منا لتلتهم الشباب نفسه، ذلك النزق الذي يمنح طفولتنا مذاقًا في مواجهة العالم البليد.
لنفتح الصناديق…
دعوة حلوة تحمَّس لها خيري بشارة، هو يحب النزق، لكنه عقلاني تمامًا. تحسبه يمنحك نفسه بسهولة، وهو يسرِّب إليك شخصًا من شخوصه النائمة في داخله، ينظر إليك وهو مختفٍ عنك… قالوا له مرة إنه يجيد الاختفاء، لكنه يفضح نفسه عامدًا متعمدًا.
هل يكفي كل هذا لكي نعد برحلة نزق كبيرة في ظل جو عام مشحون بالكآبة، وشعور بأننا وصلنا إلى آخر نفق مسدود. نخبط رؤوسنا في الحائط… هل؟
بعد أهلاً وسهلاً… لم يسأل خيري بشارة؛ لكنه نظر حوله وأمامه، كانت هناك علامة استفهام كبيرة: ماذا سنفعل؟
قلتُ: لا أعلم…
ابتسم… وسادت لحظة صمت… اعتبرتُها علامة موافقة على الرحلة.
…
الرحلة ليست رحلة ترفيهية، أو احتفاءً، أو تكريمًا، أو مزيدًا من تأويل الأفلام، لكنها نداء لما لم نستكشفه بعد، ما لم نعرفه خارج الترتيب الذي وجدنا عليه الحياة والناس في هذه المدينة… خارج الأرفف المعبرة عن هيراركية ومراتب وسلطات معنوية… نحن في الداخل إذن ما دمنا نريد الخارج. ونحن فعلاً محشورون في داخلٍ صَنَعتْهُ تقييمات وأفكار مسبقة عن العالم، أفكار معبرة أو متطرفة من أجل الانسجام العمومي حول كل شيء، ذلك الانسجام الذي يسمونه الزمن الجميل.
هل لدى خير بشارة زمن جميل؟ حنين…؟
عندما قابلته قبل سنوات بعد غياب قال لي فجأة “أنت بتتكلم عن خيري الأول… أم خيري التاني؟”.
وربما هذا سرُّ اختياري للرحلة معه… أن أعرف كيف سافر من الأول إلى الثاني… وهل كان السفر هروبًا/ إحباطًا/ هزيمة/ عدمية… أم…؟
قلت لنفسي احذر، أنت تقترب من التنمية البشرية، التعامل مع الحياة بالوصفات/ الروشتات… احذر هناك فخ.
حكى خيري عن غرقه في مشروع فيلم جديد يكاد يبتلعه… يتقصى حياة رجل صيني عاش في القاهرة خلال الثلاثينات… وشرح “أنت تعرفه بالتأكيد…”.
ضحكت…
زاد الشرح “هو والد هاني يان…عميد الجالية الصينية في القاهرة، والمولود من أب صيني وأم مصرية… وصاحب مجموعة مطاعم بكين الشهيرة”. فعرفت أنه لسبب ما قرَّر التغاضي عن الزمن (المسافة بين ثلاثينيات القرن الماضي… وبين العشرين الأولى من القرن الحالي…) وبين المعرفة المباشرة، أو التي تأتي عبر القراءة والسمع والمشاهدة… حكى خيري كثيرًا عن استمتاعه بالغرق، وهي بالنسبة له متعة كافية، مع أنه لا يعرف إلى أين ستؤدي به؟ وهذه هي الرحلة بالنسبة لنا.
…
خيري يحب لعبة التخفي كما قلت، خلف الصادم الذي لا يشعر بالخجل من التعري النفسي والحسي، هناك خجول… أو متأنٍ ينظر ويستكشف ويصنِّف العالم في قوائم على حسب تلقي الصدمة… وبين الخجول والصادم الكثير من “خيري”؛ شخصيات تستيقظ وتنام… حسب إيقاع قد نفهمه في نهاية الرحلة…
لا نعد بشيء… لأننا لم نهدف إلى شيء.
…
نشترك في محبة عباس كامل، لاعب سينما من طراز مدهش… عرفته أولاً من فيلمه غير المتكرر “العقل والمال” وحكايات الأمير باشميل والأمير كاراميل… خيري بشارة عمل معه في فيلم “أنا الدكتور” وهناك اكتشف سرَّه السينمائي الذي أنوب عنه في تلخيصه “حرِّر إحساسك لكي يقودك إلى مجهول لم تتخيله… أما التكنيك فهذه بديهيات قد يتعلمها عديم الموهبة/ والشيء الغامض الذي يربطك بالفن… لكنها لا تجعله فنانًا”.
ولم يكن غريبًا أن نعرف بعد قليل أن المعلم الثاني لخيري بشارة هو توفيق صالح، الواقف على الضفة المقابلة لعباس كامل، الذي تجد في أفلامه أمثولة سياسية تلخص الصراع السياسي، وتقدم حكمة تمهد الطريق للتقدم، وهو هدف عباس كامل نفسه، لكنه اختار الطريق الهزلي، الساخر، لا القاتم التراجيدي، المنتمي إلى عالم “تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة”… أي طريق تحب؟ لم أسأل خيري، لكنه أدرك ترددي تجاه عالم توفيق صالح؛ فنصحني “لكن فيلم يوميات نائب في الأرياف حلو…”.
قلت له “…وأنا أحبه”.
…
“لقد قلتُ كل شيء…” قال خيري بشارة في نهاية جلسة اتفقنا أن نخصصها لوضع خطة الحوار… والتخطيط لرحلة حول السينما والمدينة والعالم والأفكار…
وهو قد يكون وصل إلى هذا الاستنتاج لسببين، أو ثلاثة:
*أن الحوار لم يكن وفق تخطيط يقظ، أي أنه كان ينتقل من السينما إلى الجنس، ومن البرجوازية وكتاب رأس المال، وحتى ظهور حياته في أفلامه، مرورًا بالأم والأب والعائلة والزوجة، ومن حولهم فكرة “العائلة” و”الطبقة” و”الفن؛ تكنيك الروح القلقة الموهوبة”…
(والتحديدات كلها محاولة مني لضبط الخطوط التي لم نقصدها للحوار، فالكلام كان يتداخل بمنطق الفتافيت الصغيرة التي تترابط وتتشابك وتنفصل وتتصل لتلمس حكايات قد لا تخُص كلها خيري بشارة ولا السينما، ولكنها تخص مرور رجل بكل تناقضاته على عالم تأرجح بين الاشتعال والبلادة، بدأ في القرن العشرين وأكمل حتى الحادي والعشرين…”.
** والسبب الثاني هنا أنها محاولة تأمل… تأمل للتأمل، لا تمجيد ولا تفخيم ولا تعظيم. إنها رحلة عن الرحلة، ولا نعرف إلى أين ستودي بنا تحديدًا… كأن تبني مشهدًا، ثم تتركه يدفع الفيلم كله إلى محطات مختلفة لم تخطط لها…
أما السبب الثالث… فقد نسيته بعد أن كتبت كل هذا.
مسار أول: اكتشاف جماعي
عند الرومانسيين ولع خاص بكلمات مثل الاكتشاف والشغف… ولع يبدو أحيانًا ضد نفسه… بالوقوف عند الحدود الآمنة للاستعراض… وهذا ما حاولنا تفاديه منذ اللحظة الأولى… بعد وصلة غزل في الكمثري (تنظف الأمعاء) وسعادة الوصول إلى خفة الجسد (لا أحد يصدق عمري…) قررنا بدء العمل… وظهرت جميلة إسماعيل… تشاركنا بأدواتها في الاكتشاف: كاميرا تليفونها المحمول… وموقعها الذي ترى منه… بادرها خيري بالتحية لوالدتها المخرجة فريدة عرمان… الرائدة في مجال الأفلام الوثائقية (اسمها القديم التسجيلية)… قال خيري “عرفتها… وعملتُ معها”، وعلَّقتُ أنا “جميلة الآن تكتشف أمها بعد غيابها… تشاهد الأفلام وتتأمل الصور… كأنها تتعرف إلى أمها بعد اكتمال رحلتها”.
فاجأني خيري باقتضابه “إحنا كلنا بنكتشف”.
هل هو من النوع الذي يفقد القدرة على التدفق مع بداية دوران أجهزة التسجيل؟ لا أعتقد… جرَّبت أن أورطه أكثر… قلت “أحلى ما قرأت عن الاكتشاف بعد الموت هي رواية بول أوستر اختراع العزلة… عن اكتشاف الأب بعد موته… وإدراك أنه استطاع بناء عزلة حوله حتى أن من يعيشون معه كانوا لا يتمكنون من رؤيته”.
فاجأني خيري للمرة الثانية، وهو يبتعد قليلاً عن العلاقة بين الموت والاكتشاف كمدخل للمعرفة… هل هي حساسية من كلمة الموت؟ أم…؟
حكى خيري عن تجربته في تدريس صناعة السينما في معهد السينما بالقاهرة “تعرف، أنا درست في معهد السينما لدفعة واحدة فقط… بعدها توقفت… التدريس عملية مرهقة جدًّا… جدًّا…كانت دفعة فيها مروان حامد وأحمد علاء، وكانت محاضراتي في السنة الأولي كلها تقريبًا ليست عن أو في السينما… محاضراتي كانت في علم النفس… عن إيه؟ اعرف نفسك… دايمًا أي واحد بيتطلع إنه يشتغل في السينما لازم يفكر في الخيال… طيب إزاي يبقي عندك خيال وأنت مش عارف نفسك والمحيط بتاعك… إزاي هيبقى عندك خيال؟!
نبتدي بنفسنا الأول… إحنا عندنا ميول لإننا ننكر حياتنا، وبالذات الآلام اللي حصلت في الطفولة والمراهقة… في البلوغ… لما صرنا شباب… الحب الأول… الجنس… كل الحاجات دي… فطبعًا علشان أشجعهم ابتديت بنفسي… أنا عفوي وبحب أتكلم، وأحب أعري نفسي… ماعنديش مشاكل خالص إني أحكي حتي ما يبدو للآخرين عيب وفضيحة… كنت عاوز أعلمهم يتكلموا عن نفسهم دون خجل… تكلمت أنا دون خجل من ضعفي… ودا شجعهم يبتدوا يتكلموا… ولما قابلت مروان حامد السنة دي في الجونة قال لي “اكتشفت إن المحاضرات دي كانت مهمة جدًّا… وقتها ماكنتش فاهم قوي إيه أهميتها”.
لم يكرر خيري بشارة التجربة، لكنه منح شيئًا ما لتلاميذ مثل مروان حامد، ساروا في طريق مغاير، واختاروا التكنيك/ الصنعة/ الحرفة، بديلاً عن كل شيء… حتى أن الصنعة تحوَّلت، مع نجاحهم في السوق، إلى رؤية، أو بمعنى أدق إلى زجاجة تتخيل نفسها نبيذًا كامل الأوصاف.
مسار ثان: الإشراق الداخلي
تجربة التدريس… مدخلنا إلى قضية شائكة ومركزية…
في هذه التجربة اكتشف خيري “أن التعليم قائم على نظرية خاطئة”؛ ما هي هذه النظرية؟
خيري “التعليم يعتمد على منهج صارم… وبالتجربة اكتشفت أننا نحتاج إلى منهج مرن… يعمل حساب لما يعرفه الطلاب… اللي ممكن يبقوا عارفين في موضوع أكتر مني… أنا المُدرس”.
وهذا أدى به إلى أن يركز على الرؤية كلما واجه سؤال “يعني إيه مخرج؟”.
التكنيك مهم لكنه ليس هو الإخراج… يقول خيري ملحًا على فكرة “المخرج لا بد أن يكون عنده رؤية؟”.
المخرج بالنسبة له: شخص يعكس نفسه… يعكس روحه. هذا لا يعني أن الأفلام سيرة ذاتية…
أكدت على كلامه بمعنى قاله إبراهيم أصلان مرة “الكاتب يكتب بتجربته لا يكتب تجربته”.
أفاض خيري من عنده “المخرج يعكس رغبات مجهولة… أشياء غامضة جواه… فبالتالي لو هو مش عارف نفسه، ومش عارف المحيط اللي هو عايش فيه… مش عارف العالم الأوسع… مش عارف السياق العام اللي عايش فيه… السياق العام للبشر… في كل الأزمنة والأمكنة… لو أنت مش واعي في أي سياق إنت عايش… إزاي هتنتج أفلام لها قيمة؟”.
الانعكاس بالنسبة لي كلمة غامضة بعض الشيء… فطرحت سؤالًا بديهيًّا من نوع: ما تعريف الرؤية؟
لم يتردد خيري بشارة، وكأن البداهة شيء عادي؛ وقال “الرؤية ترجمة لـ vision”. وأكمل شارحًا “بالضبط مثل الاعتقاد عند الرهبان وعند المتصوفة سواء، أنه في حالة التركيز ينتج المخ حسيًّا استنارة illumination… وكأنه يري فعلاً… أنا رأيي إن المبدع كدا… يصل للرؤية عبر التركيز… التركيز وليس التعسف… التركيز يقود بشكل طبيعي إلى تدفق الرؤى… يجعلك ترى… وطبعًا لن ترى إذا كنت في عُزلة”.
العزلة تمنع الرؤية؟ سألته بتعجب، وفي إجابته بدا أنه يقصد أن العزلة أنواع… وضرب مثالًا بأغنية لفريق البيتلز اسمها النور الداخلي Inner Light، يغنون فيها عن لحظات الإشراق… من غير ما نفتح الشباك بنشوف… البيتلز في الأغنية متأثرون بالثقافة الهندية… حيث العزلة لا تعني البعد عن المعرفة… عُزلة صاحبها عنده رؤية… أي فهم لنفسه وفهم للآخر.
مسار ثالث: مجموعة الصيد السرية
عندما يكتب البعض عن السينما، ولكي يظهر مهارته، يتكلم عن التكنيك، وهذا فخ يجعل كل الكلام عن السينما مكررًا ومتشابهًا، لكنه في الحقيقة فخ يقع فيه الهاربون من مواجهة غموض كبير يتعلق بالروح والذهن والمشاعر، وهي ما يمكن أن نسميه: مجموعة الصيد السرية التي يتحدث خيري عنها وهو يقول ببساطة “التكنيك دا حاجة سهلة…”.
خبرتنا بالمأزق هي ما تجعلنا نستخدم تسمية مجموعة الصيد “أما السرية فهي بديل للغموض…أي التي لا يمكن الإمساك بها بسهولة… أو تلك العلامات التي ترتبط بصاحبها وليس هناك مساطر جاهزة لقياسها… باختصار الكلام عن التكنيك سهل… أما السينما فهي في مكان آخر”.
وهنا ننصت لحكاية خيري بشارة ومحمد خان وحماستهما للديجيتال “قالوا علينا مجانين… كنا في مرحلة مبكرة… ولم يكن هناك في مصر من يعرف الديجيتال… واتعملت علينا نكت أنا وخان لما حولنا الحماس إلى كلام وفعل… أو لما كنا بنتكلم عن موت السينما”.
لماذا قادنا خيري إلى حكاية عن طليعيته هو وخان ونحن نتحدث عن الرؤية؟ أظن أن هذا تفسير إضافي للرؤية… أن ترى ما لا يراه المنغمسون في القواعد… أولئك الذين سخروا، وبعد أن عندما قرأوا كتبًا عن الديجيتال فهموا ماذا يعني موت السينما…
يقول خيري “حتى يوسف شاهين مرة قلت له يا ݘو الماڤيولا هتنتهي… ولاحظ أن يوسف شاهين أكثر واحد تقدمي… أكثر واحد وعيًا بالتكنولوجيا… لكن عندما قلت له إن الماڤيولا هتنتهي ومش هتبقى موجودة قريب… قالي على طيزي”. وهذه هي النقطة الخطيرة من وجهة نظر خيري “وفعلًا اختفت الماڤيولا… ويوسف شاهين كان أول واحد تاريخيًّا/ إن مكنش طارق العريان/ اشتغل على المونتاج غير الخطي الـ non-linear editing”.
وأفصح خيري “إذن الديجيتال تعني إن أنا عندي حاجة عايز أقولها…حتى لو كنت مش محترف… أو مهنتي مش مخرج… أنا واحد أو واحدة بشتغل أي شغلانة في الحياة ولكن جوايا حاجات عاوز أعبر عنها من خلال صورة… الديجيتال هي وسيلة ديموقراطية إن يبقي في كل بيت مخرج… في كل شارع مخرج… في كل حتة مخرج… علشان كدا بقول إن التكنيك ثانوي… المهم إن يبقي في حاجة بتلح عليا عاوزة تخرج من خلال الوسيلة دي… من خلال الميديا/الوسيط اللي بيمنح الجميع حرية”.
الفن هنا أصعب؟ والتلقي والتقييم وقبلهما الفُرجة العادية؛ ستكون في فراغ دون مساطر النقد الكلاسيكي… وهذه مشكلة تمتد من قصيدة النثر في الشعر وحتى الديجيتال في السينما…كيف تدمر الحرية القواعد؟ وكيف تشاهد فيلمًا دون إرشادات موظفي هيئة التوحيد القياسي؟
هناك مفتاح من العدة الكلاسيكية قد يستعين به المتفرج إلى حد الابتذال، وهو الأسلوب… وهنا حكى لي خيري بشارة حكاية أرسون ويلز Orson Welles ليدلني كيف يرى الفرق بين التكنيك والأسلوب “أكبر دليل على إن التكنيك عملية مش صعبة… إن أرسون ويلز في أول فيلم له المواطن كين Citizen Kan إنتاج سنة 1941… كان جاي من الراديو ومن المسرح، ويجهل السينما تمامًا… خدوه الاستديو وعرفوه بالعدسات… فلما عمل فيلمه الأول المواطن كين العبقري اللي فضل سنوات طويلة يعتبر أعظم فيلم في تاريخ السينما… جدد في التكنيك… استخدم العدسات دي علشان يعمل ما يسمى عمق المجال Depth of field؛ إن يبقي عندك صورة wide وفيForeground وBackground إنفوكَس… في مجال البؤرة… ده واحد اتعلم التكنيك في شهور… التكنيك ده بالظبط زي ما أنت تتعلم القراءة والكتابة… وليس معنى إنك تتعلم القراءة والكتابة إنك تبقي كاتب… هي دي النقطة. الأسلوب حاجة تانية… الأسلوب هو في رأيي السمات والملامح ال Genuine & Unique أو الخاصة قوي اللي في شغلك سواء كان عن المستوى البصري أو على المستوى الاجتماعي… اللي هي حينما تتكرر في أعمالك تُشكل الأسلوب”.
لتكن الحرية في السينما من قبل ومن بعد… وهذا ما ينقلنا إلى عملية الهروب من السوق.
مسار رابع: سينما الألبوم العائلي
في الـ home video شيء ساحر…
قال خيري بشارة هذه الجملة وسط إجابة طويلة عن سؤالي “هل كان الذهاب إلى الديجيتال توسيع مجال أم رغبة ووعي بضرورة العبور إلى المستقبل؟
الإجابة بدأت بتحديد: أنا ذهبت للديجيتال لأنه الوسيلة الحُرة المتُاحة البعيدة عن تحكم المنتجين…
وحكى بعدها حكايته مع فيلم “مون دوج”، “فيلم أحبه جدًّا وأعتز به… وكان من المستحيل أن أجد منتج يتركني أعمل من سنة 2000 ل2008… لا أتوقف عن التصوير… وأتابع الناس وهي بتكبر في الفيلم… في أعمار مختلفة واللي يموت يموت… الفيلم عن اكتشاف ابني إني اختفيت وبقيت كلب… وفي هيئتي الجديدة أذهب لأزور قبر زوج أختي اللي مات خلال التصوير … والغريبة إن الكلب كان متعاطف جدًّا، وبدون أي توجيه مني… بص للنصب الرخامي المكتوب عليه، فصوَّرته بشكل غريب، وقعد جنبه حزين… وكان يومها إعصار كاترينا وحصلت على مشاهد لم يكن من الممكن في ظروف إنتاج عادية أوصل لها”.
اختصارًا الديجيتال أتاح الفرصة لنوع من الأُفلام خارج حسبة السوق:
*لا يمكن أن يموله منتج سينما تجارية
*يصل إلى ما تعجز عنه السينما الكلاسيكية (متابعة حياة شخصيات حقيقية تمثل فيلمًا هو مزيج من السرد والتوثيق…).
بل إن خيري بشارة لم يكن هدفه أن يعرض الفيلم على الناس… كان نوعًا من النزق (…) أو كما يقول هو “أنا عايز أتطهر… أنا جوايا حاجات تؤرقني وعندي مشاكل وعايز الحاجات دي تطلع في فيلم علشان أتطهر وأتوازن… ده سحر الديجيتال… مين المجنون اللي هأقول له اعملي فيلم علشان أتطهر وهنحطه على الرف؟!”.
الجنون هنا سيمثل قيمة… قيمة في ذاته… خصوصًا وأنه لم يأتِ تدريجيًّا، ولا نتيجة لمشكلات مع المنتجين… لكنها رغبة تنامت في أن تكون الأفلام أقرب للحياة… تسير معها… تتداخل معها إلى حد أن تكون مثل ألبومات الصور العائلية…أو دفاتر الشخبطة الذاتية والاعترافات وتجارب الكتابة…ويشير خيري إلى فيلم عن رحلة عائلية إلى رودس في صيف 1999 “كانت رحلة ليا مع مراتي وابني… أعشق هذا الفيلم… لأنه لو كنت تشعر بأي قدر من الاكتئاب واتفرجت عليه هتبتهج… الفيلم عن ابني في سن المراهقة عندما كان يحب نوع معين من المزيكا… والأب (أنا) عمال يبصبص للنسوان ومراته شايفاه… وعامل تهويمات عن النساء اللي بشوفها… والفيلم أيضًا عن مراتي اللي خرجت من أزمة صحية جامدة وبقت طبيعية تاني… فالفيلم فيه حالة خاصة جدًّا… دا فيلم بيتحط زي ألبومات الصور… وأنا بعتز بيه، وباعتبره من أهم أفلامي… مش باعتبره حاجة أقل من أفلامي”. وفجأة تذكر بقية السؤال فقال “حتى بالنسبة لنظرية القيمة… الفيلم له قيمة”.
مسار خامس: الاختفاء والقسوة
عندي رغبة في الاختفاء والتحول…
وشريهان دايمًا تقول لي أنت تحب تختفي أو تتلاشى…
الرغبة دي جوايا… وده حقيقي.
هذه إعادة بثلاث طرق لمحبته للاختفاء والتلاشي تلاها بحكاية “سافرت وأقمت سنة كاملة في براج… لم أكن أرغب في العودة…ولا سماع أي كلام عربي… آه أنا مصري قوي، ومؤمن بعروبتي يعني ابن البلد دي… مع ذلك بيجيلي لحظات عايز أنفصل عن الواقع دا تمامًا…”.
هي رغبة إذن في أقصى درجات الحرية “هناك كنت أسكر وأمشي أغني في الشارع بصوتي الوحش… ولا يعترض أحد…كنت بأجعر في الليل… في شوارع براج بدون أن يوقفني أحد… عشت حياتي حر بشكل مخيف لا تتخيله… وجاء لي محمد خان وقالي: ارجع حرام عليك… رفضت وكملت… لأنه ساعات بيبقى عندي رغبة أن أعيش مغامرة للمنتهى… دون أن أعبأ فين الكاريير بتاعي… ولا يعنيني اسمي… أو عملي، ولا أي شيء إطلاقًا”.
الغريب أن خيري بشارة لم يقدم فيلمًا من أفلامه المعروفة عن هذه الرغبة… بينما محمد خان حكى في “مشوار عُمَر” عن التحرر من الحياة المستقرة إلى حياة أخرى مبنية تمامًا في المجهول/ دون معرفة مسبقة ولا شبكة علاقات… قلت له أشعر إنك قبل تجربة الديجيتال كنت مع كل فيلم تضع أصبعًا لك في الواقع، إلى درجة شعرت فيها أن أصابعك كلها متورطة بشكل مفرط في الواقع… وكأنك تقاوم رغبة الاختفاء.
يختلف خيري بشارة مع كلامي؛ ويدلل بإشارة من فيلم العوامة رقم 70 “في الفيلم جزء مني… جزء كبير مني… عن مخرج تسجيلي عايز يعمل أول فيلم روائي طويل… وبيحب واحدة واقعية جدًّا تشبه مراتي تقريبًا… وأنا /هو محلق في الخيال… وبعدين المخرج يحب واحدة أكبر منه في السن… وكان من رغباتي وأنا في مثل عمره إني أعشق واحدة أكبر مني… يعني تقريبًا أنا وأحمد الشاذلي (اسم بطل الفيلم) واحد…”.
لم أفهم ما علاقة هذا بالاختفاء… وقبل أن أقطع كلامه بسؤالي هذا… سارع بملاحظة (لم يلاحظها أحد حتى الآن…)؛ ملاحظة تتعلق بالقسوة…
كيف؟
حكى خيري بشارة عن لحظة القبض على أحمد الشاذلي/ أحمد زكي… وتعرضه للضرب بقسوة في الحجز… فقال “أحمد زكي اتضرب بجد، واتعدم العافية، لإني كنت متغاظ منه وزعلان منه جدًّا…فأعدت تصوير المشهد عدة مرات… لكن ليست هذه هي القسوة التي أقصدها وكانت بداخلي…”.
وانتقل من الفيلم إلى حكايته الشخصية “أنا في هذه الفترة كنت أذهب إلى أماكن underground…(قالها بهذه الطريقة ويقصد بها كما فهمت المناطق الخاضعة للمراقبة أو التي تضم مشاغبين ومناكفين للنظام السياسي في تلك الفترة بين الستينيات والسبعينات)… أذهب إلى الشيخ إمام في حوش قدم، اللي كان هربان ومختفي وبيدوَّروا عليه… أروح عوامات… أماكن تجمعات ليساريين …وفي كل مرة يتقبض على الناس كلها إلا أنا… رغم إني كنت أجرأهم… أتكلم كلام أكثر منهم صدامية… وقالي مدكور ثابت إن عنده تسجيلات لجلسات من تلك التي كنت أتردد عليها… وأقول فيها كلام جريء… طيب ليه ماكنش بيتقبض عليا؟ سؤال كان محيرني…وأنا كان نفسي يتقبض عليا وأبقى شهيد” لم يبتسم خيري وكنت أظنها تهكمًا على رغباته القديمة… لكنه واصل الخط الذي يبرر به القسوة “في الفيلم وضعت عقدتي من عدم القبض عليَّ… وجعلت أحمد الشاذلي/أنا، يواجه قسوة تمنيتها في الواقع…”.
واقعيًّا فهم خيري بعد فترة لماذا كان وحده خارج قائمة القبض الجماعي… ومع أنه كانت “العين عليه” لأنه “أول دفعته في معهد السينما” فقد فهم أنهم صنفوه بعد ملاحظة ومتابعة على أنه “رومانسي اشتراكي”.
وهنا يبتسم “والحمد لله إني طلعت رومانسي اشتراكي”
الخلاصة من هذه الحكاية “أنت في حضورك تختفي…أو تخبئ نفسك داخل نفسك…” وهو توصيف أكثر لطفًا بالنسبة لي من فكرة أقنعة التخفي… أو الوجه والقناع… أو حتى ألعاب التخفي التي حكى لي عنها…
“عندما قررت التوقف عن عمل أفلام للسينما… كانت الناس عندما تراني تعرفني وتقترب وتسأل: الأستاذ خيري بشارة…أقول لهم بحسم: لأ، أنا واحد شبهه… أنا مدرب التايكوندو في النادي…سنين لما بعدت عن السينما وقررت ما أعملش سينما تاني… فالناس في الشارع يعرفوني… وفي آخر واقعة كنت في السوبر ماركت وأمام الكاشير سألني البائع: موش حضرتك المخرج؟ قلت له: لأ…أنا لعيب كورة قدم اعتزلت… إنت مشفتش ليا مباريات زمان؟”.
خيري غاوي انتحال شخصيات وهمية.
هي غواية/ هواية، وليست حيلة للتهرب من معرفة الناس، فهو يحب معرفة الناس به أحيانًا… خصوصًا وأنه كما يقول “عندما ألحظ ذلك من نظرة العين… العين مهمة بالنسبة لي… أحس بها أقوى من أي شيء آخر… تأسرني… تصل إلى قلبي قبل مخي…”.
يحكي لي عن شاب عشريني منحه تلك الشحنة العاطفية “جعلني أفكر كيف يعرفني هذا الجيل وأنا معتزل… كيف تؤثر فيهم أفلامي؟”.
ما أكثر فيلم تأثيرًا من هذه الزاوية؟
“آيس كريم في جليم” يجيب خيري بشارة مشيرًا إلى حوار أخير بينه وبين داوود عبد السيد عن استغرابه من “إن الفيلم لسه عايش”.
الفيلم أعجب أيضًا الدكتورة هدى عبد الناصر؛ أي أنه فيلم عابر للأجيال والشرائح الاجتماعية، وعبر الإعجاب تمكن خيري بشارة من تتبع غواية عبد الناصر بالتصوير، ومشاهدة المواد التي صورها بكاميرات ٨ مللي و١٦ مللي… يكمل “أذهلتني الماتيريال اللي كان مصورها جمال عبد الناصر… قلت لها أنا مش عايز أعمل فيلم عن عبد الناصر في السياسة… أنا عاوز أعمل فيلم عن كاميرا عبد الناصر… وبعدين بعدها بشوية اعتذرت عن الفيلم… لإننا كنا نمر بلحظة غبية من تاريخ مصر… والماتيريال يتضمن صور شخصية خاصة قوي… لعائلة عبد الناصر وبينها صور بالمايوهات في المعمورة أو المنتزه… ودي حاجة لم تعد مقبولة بشكل طبيعي في المجتمع وسيؤذيهم عرضها… فتراجعت عن المشروع”.
لماذا حكى خيري هذه الحكاية ونحن نتحدث عن التخفي؟
ربما ليس هناك سبب سوى التداعي الحر…
قطع: فخ البراءة
بعد مشاهدة متأخرة لفيلم “العوامة رقم 70” كتبت هذه الملاحظة:
مفهوم البراءة أساسي في فيلم خيري بشارة العوامة رقم 70، حيث المثقف المصارع لعدميته، أو المسافر إليها، فالمدينة قتلت براءة مخرج الأفلام الوثائقية، المتورط في سوق إنتاج سينما تصنع “الخيالات” الكبرى لسكان المدينة، بينما هو يبحث عن “الحقيقة” كما كانت الفكرة السائدة عن السينما الوثائقية… وهذا المفهوم له معنيان؛ سياسي وجنسي، تختلط فيهما مفاهيم التورط في الدفاع عن “الاقتصاد القومي” بمفاهيم الجسد والعائلة والأخلاق وملكية المرأة بمعناه الذكوري المتأصل في ثقافات مختلفة، ليست الشرقية فقط، البراءة مفهوم مرتبط بالمثقف الرومانتيكي، المغترب بالتعبير الستيني، المقيم بين الماء والأسفلت، الممزق بين طفولة القرية الثقيلة بركودها، والحداثة بخدشها لكل ثابت وقديم… هذه مفاهيم سيطرت على السبعينيات في السينما والسياسة والأدب، ودفعت الانشغال إلى موقع المثقف، بين ملذات الحياة والالتزام بالقضايا الكبرى/ بين البراءة وخدشها/ بين الرفاهة والمعاناة… تطل الأشباح من ركام هذه التناقضات، كما يطل الضحية/ الشاهد مصادفة من مشهد عادي، وتطفو جثته على النيل الذي يتأرجح عليه بيت المخرج/ المثقف، وهنا السينما تدخل لا كتقنية محايدة، بل كسؤال باطني: لماذا نصنع سينما؟ هذه الحيرة تتصاعد في لحظات النهاية مع ظهور غلاف كتاب “الحقيقة السينمائية والعين السينمائية “… وخيري بشارة مغرم بمحو حياد السينما، سواء في مرحلته الباكرة، كسؤال مباشر، وحتى في مرحلته الأخيرة؛ حيث غادر نمط الإنتاج السائد تمامًا، مكتفيًا بالولع الشخصي بإنتاج أفلام لا يراها أحد، بينما وظف خبرات المخرج في دراما تليفزيونية تحافظ على أسباب الحياة…
في هذه الرحلة المثيرة سينمائيًّا، تظهر البراءة في مكان يبدو مقفرًا (القرية /الأب/ الأرض/ الملكية)، بينما العذاب مرتبط بالمتعة والأسئلة (الحب/ الجنس/ الجسد/ الفن)… وخيري بشارة يظل لاعبًا مهمًا في تتبع الأشباح المتوالدة بين عوالم البراءة والألعاب، بين الفن وأوهام البرجوازي الصغير في تغيير العالم، وبين الاغتراب والحقيقة.
يقولون في مديحه إن خيري بشارة أكثر مخرج في جيله، عندما يلعب، يلعبها “سينما”؛ أي من خلال مشاعر وحواس تختار المشهد واللقطة والزاوية، لا ذهن يرسم اللعبة قبل اللعب.
مسار سادس: البريفاتكا…أو حلاوة الهجين
خيري بشارة منظم جدًّا. على الرغم من أنه يحيا باللامبالاة. لديه أرشيف لكل كبيرة وصغيرة تخص رحلته. ومنها تعرفت عليه، بعد أن سمعت عن مرحلة “الاشتراكي الرومانتيكي.” الذي تحيره أسئلة عن السينما والفقراء، وكيف نصنع سينما عن الفقراء ثم نعود إلى بيوتنا البورجوازية؟ كيف تحرض السينما على الثورة؟ المسافات المقطوعة بين النضال السياسي والفن وكاميرا الحقيقية، وغيرها من شعارات شغلت بضجيجها تلك السنوات الملتهبة من الستينيات.
في أرشيف خيري بشارة تأصيل لعلاقته مع هذا العالم الفائر الذي خرج من وسطه، قصاصات كتبها في بريد القراء، تعليقات على أفلام ومسرحيات، إلى أي حد كان تأثير هذا الصوت الهادر في وعي السينمائي الذي بدأ في عز الهزيمة (يونيو 1967) وبعد عام تقريبًا من ثورة الشباب في أوربا (مايو 1968).
لم ينفعل خيري، كما تخيلت، لم يبدُ كمن مسَّته كهرباء الحنين والفقد، كما بنيت صورتي عن مرحلة خيري الأول، بل كأنه تدرب على هذا السؤال أكثر من مرة، أشار أولاً إلى مشهد في فيلم “العوامة رقم 70” حين خلع أحمد الشاذلي/ أحمد زكي دبلة الخطوبة معلنًا الانفصال عن خطيبته، وضعها على كتاب “سينما الحقيقة” لدزيجا فيرتوف، مؤكدًا “أنا بأعشق أفكار دزيجا فيرتوف”.
وقبل أن أهجم بسؤال عن “ما الحقيقة؟ وهل هناك حقيقة؟ و… و… تراجع خيري عن الحسم في كلامه وقال “ساعات بتستهويني مقولات ماركسية قوية وأستخدمها في التعبير عن أفكاري… مع إني لست ماركسيًّا ولا شيوعيًّا”.
هنا يظهر الشاعر السوفيتي المشهور ماياكوفسكي الذي يحب خيري بشارة مقولته: أمنحكِ طاقتي الشعرية فاهجمي يا طبقة. ويقول “أنا كنت باستخدمها مع نفسي وأنا باعمل أفلام… أقول معه: أمنحك طاقتي الشعرية فاهجمي… بس من غير يا طبقة… لأن أنا مختلف مع الثورات الشيوعية… لأن عندها مشاكل مع الفلاحين… ولا يمكن أن أترك المجال للطبقة العاملة لأنها منظمة وواعية… في بلاد السواد الأعظم من الفلاحين”.
يوضح خيري بشارة “هذه واحدة من مشاكلي مع الشيوعية… كما أن في الرأسمالية أشياء تبهرني… هذه طبيعتي… فطرتي… أنا هجين… أو نتاج زواج بين متناقضات… ولذلك لم أذهب إلى الإكستريم (التطرف) أبدًا”.
أنتظر قليلاً لكي يشرح لي “حلاوة الهجين” التي شعرت بها من كلامه… ولا أعرف كيف وصل كلامه إلى قصة زواجه…
سألخص الكلام قبل قصة الزواج في النقاط التالية:
* لا أحب تقييد حريتي… ولذلك أحب المجتمعات الليبرالية.
** انزعجت بشدة عندما استوقفني ضابط في مطار بألمانيا الشرقية ليفتش في بعض الصور العارية التي أحملها… لماذا يحقق معي شخص أيًّا كان كما لو كنت متهمًا عن صور وكتب أو أفلام أحملها معي؟
* سافرت في بعثة إلى بولندا، عندما كانت دولة شيوعية، وقبضة موسكو قوية عليها، لكن عندما عبرت من المطار وجدت مجتمعًا متناقضًا… يشبه التناقض الذي بداخلي… مجتمع شيوعي لكن الكنيسة الكاثوليكية موجودة وحية… وكان يقال إن بعض أعضاء الحزب الشيوعي كانوا يذهبون للكنيسة سرًا.
** لم يكلمني أحد طول إقامتي هناك عن الشيوعية… كانوا شعب يحب الحياة… وخيالهم ضارب إلى آفاق لا حدود لها… يحبون الحياة… إلى درجة أنهم يخترعون حفلات كل أسبوع… أشهرها يسمونها: البريفاتكا… وكنا نسهر ونغني ونشرب بشكل متواصل.
*** كنت هاموت من البريفاتكا…3 أو 4 مرات أسبوعيًّا… جنون كامل.
وسط هذا الجنون التقى خيري زوجته، أعجبه فيها قوة الشخصية والصوت العالي “في أي مكان صوتها عالي… تهاجم النظام بنفس علو الصوت… بدون خوف… وبقوة تمنع أي أحد من الاقتراب منها… جذبتني الشجاعة وقلت الشجاعة دي مش هاسيبها… لازم ترجع معايا… فهي رفضت تمامًا… قالت لي عندك شقة؟ قلتلها لأ… هتعيشي في أوضة مع أسرتي في شبرا، وشرحت لها شبرا علشان ما تُخدعش… سألتني عندك فلوس؟ قلت لها لأ… سألتني هتِخرِج سينما؟ قلت لها معرفش بس هتيجي معايا… واستخدمت كل طرق الإرهاب لأنفذ رغبتي… وقد كان”.
ما يزال خيري بشارة، وعلى الرغم من مرور كل هذه السنوات، يحكي القصة بنبرة فيها من حماسة المجذوب والمنتصر معًا، وهذا مذهل!
مسار سابع: حب وفئران
شبرا…؟
استوقفني موضوع “شرحت لها شبرا…” وربط هذا الشرح بتفادي “الخديعة”…
قاطعني خيري “تعرف أنا فيا حاجة غريبة جدًّا فعلاً… أقدر أسميها البرجوازية اللي فيا…
(ضحكت في سري؛ فهو يتحدث عن البرجوازية كمرض/ فيروس/عطب، استوطن داخله).
ثم رسم حدود خريطته العائلية:
* حتى وصلت إلى عمر 6 سنوات عشنا في قرية في سيدي سالم التابعة لكفر الشيخ… كان جدي لأبي غني جدًّا، يُقال إن أصوله من الصعيد… لكن لا علم لي لماذا ترك بلدته الأصلية واستوطن هذه القرية… شكله فرعوني قامته طويلة… شرس وقوي الشخصية… كان يملك طبعًا أراضي زراعية وبيوت ومحلات… كان يمثل السلطة… لأنه كان ساعات بيسجن ناس…
* أبويا تمرد عليه… وعبر الجسر إلى نصف القرية الآخر الذي يتبع شركة تفتيش إنجليزية…تستصلح الأراضي البور وتأجرها أو تبيعها… أبويا راح اشتغل في الشركة علشان يخرج من سطوة جدي… كان برضو قوي الشخصية وفيه بعض الشراسة زي أبوه.
*أمي أساسًا من القاهرة… وقصتها هي التي تصلح عندما نتكلم عن فتح الصناديق… أنا أخدت من أمي رسائل تخص علاقة حب بين أبويا وأختها… أختها ماتت عندها 18 سنة كان اسمها نعيمة… رسايل حب في الثلاثينيات، وعلى فكرة رسايل حب مخيفة فيها إشارات للزمن… المعرض الصناعي الزراعي في المنصورة… حفل عبد الوهاب… أنا فكرت في عمل فيلم من هذه الرسائل، وكلما قرأت ٤ رسائل منها أبدأ في البكاء…
* أمي تزوجت أبي بعد موت شقيقتها نعيمة في سن الـ 18.
*المهم إذن إحنا عيلة ميسورة… مش إقطاعية…وأتذكر لحظة انحيازي الفطري عندما شاهدت أبي يضرب فلاحًا في أرضه أمام عيني…ضربه بمنتهى القسوة حتى نزف الدم بغزارة من أنفه…(وبخيال طفل في السادسة إعتقدت أنه مات)… وكنت غاضب على أبويا ومتعاطف مع الفلاح… وكنت مبسوط قوي إن أبويا رجع مرعوب… لأن وقتها كانت ثورة 52 ما زالت وليدة… أبويا خاف من العقاب… أتذكر هذه الحادثة على أنها بداية انحيازي الفطري، وكان عمري وقتها 6 سنين، وطبعًا لم أقرأ “رأس المال” لكارل ماركس بعد.
* انتقلنا بعد ذلك إلى شبرا؛ حيث يسكن جدي لأمي… ودخلت مدرسة رهبان، وعوقبت ذات مرة بحبسي في أوضة الفيران… وأوضة الفيران دي عبارة عن مخزن كُتب تحت الأرض… فأنا مستني… وطول وجودي هناك كنت أنتظر الفئران تدخل عليا وتلتهمني…
* بقي هذا اليوم كابوس يهاجمني أثناء النوم على مدار 40 سنة من عمري… بيهاجمني كل يوم في كل مكان… أنتفض وأصرخ بالليل حتى يستيقظ الناس… وأنا أنتظر الفئران تقرقض فيا بأسنانها.
لم يقل خيري بشارة متى تخلص من الكابوس… بل قفز إلى كابوس من نوع مختلف.
مسار ثامن: سر العائلة
الحرب مع العائلة لم تكن عنيفة…
لاحظت ذلك؛ فقد خاض خيري بشارة حروبًا ناعمة لم تصل إلى حد الصدام… كانت أغلبها مشاعر داخلية… ها هو بعد تفكير يعيد توصيف العائلة “طبقيًّا أعتبر نفسي من الطبقة المتوسطة… الشريحة العُليا من الطبقة المتوسطة… عائلتنا لا ترقى إلى الطبقة العليا… مفيش في عيلتنا لا بهوات ولا باشوات… أو وزراء في عهد الملك… ولكن في عيلة أمي متعلمين كتير…”.
لاحظت أن جده لأمه سيلعب دورًا كبيرًا في مرحلة المراهقة (يستخدم خيري تعبير البلوغ…) سيمثل “سلطة الأبوة” التي يتمرن فيها على قتل الأب… بالمعنى الفرويدي (يسمها خيري انحيازات فطرية…). والجد كان يصلح للعب هذا الدور، فهو “وكيل بنك يهودي في وسط البلد، في شارع شامبليون… اسمه ليفي أوف جربوعة وشركاه… فاكر اسمه، لكن عمري لم أذهب إليه هناك… وطبعًا كان عندي مشاكل مع جدي”.
كانت المشكلات أقرب إلى صراع أجيال؛ مثلًا “كنت أشعر بالغيظ من جدي أثناء العدوان الثلاثي سنة 56… أتذكر الشبابيك كلها مدهونة أزرق… وجدي وأصدقاء له بيلعبوا كوتشينة… جدي كان عنده ملامح تقترب من النمط الكلاسيكي لليهودي… فكان يقول (يتكلم بخنفان) راح الملك وجه 13 ملك…كلامه كان يغيظني جدًّا… لأنه يعلن عداء للثورة التي كنت عاطفيًّا معها… عمري وقتها كان 9 سنين بالضبط … وحاولت التطوع في مدرسة روضة باشا، فرفضوا وسألوني عن أبويا وأمي… ثم عرضت التبرع بالدم… فرفضوا… أعتقد أن أبويا كمان كان معادي للثورة…لكن ليس بحِدة جدي… وكمان كانوا يحبون عبد الوهاب وأنا بحب عبد الحليم”.
صراع أجيال؟
ربما…
كيف تتشكَّل الأجيال داخل تناقضات العائلة؟ يقترح خيري هذه الزاوية للنظر في التواريخ العائلية… وأقترح أنا زاوية الأسرار الغامضة… كيف تعيش عائلات بسرٍّ غامض لا يقترب منه أحد؟ هذا السر في عائلة خيري بشارة يخص الثروة… أين ذهبت الثروة التي ورثها الأب والأم… ولماذا عاشت العائلة لحظات ضيق اقتصادي مؤلم… هذا هو السرُّ الذي لم يفهمه خيري حتى الآن.
وهو يحكي عن السرِّ بطريقته “في البلوغ وجدت أننا نعيش مشاكل مالية… ليه؟ كان سر غامض حاولت مرارًا إني أستدرج أمي للآخر لمعرفة أي شيء عنه… وفشلت. كل اللي فاكره إن فيه ظروف صعبة… لدرجة إني مثلاً لما دخلت معهد السينما كنت أتكسف أحط رجل على رجل علشان جزمتي مخرومة… أمي شبه فاتن حمامة في فيلم يوم حلو ويوم مر… اضطرت وأنا طالب في معهد السينما تخيَّط… بشكل محدود علشان تجيب فلوس… كان فيه مشكلة في دفع المصاريف، أو شراء فستان للبنت أو حذاء جديد…كنت لما بشوف أمي كنت ببقي متأثر جدًّا (كادت دموعه تنفجر وأوقفها بصعوبة…) أمي كافحت واحتفظت بالسر… واستمرت فترة مش قليلة تشتغل على ماكينة الخياطة… وربما يكون فيلم يوم حلو ويوم مر خرج من هذا الألم”.
مسار تاسع: قوائم الرغبة
طبعًا موش هاتقدروا تنشروا كل حاجة؟ قال…
وكان ردنا “نحن ننشر كل شيء… ليس عندنا محاذير…”.
لا يخفي خيري بشارة شهوته. أحيانًا أتخيَّل أنه يحب الاستعراض… ومتعة النظر في العين الخجولة بعد الصدمة… كل صدمة تجلب حكاية وتجربة ومشاعر متفجرة… تلخصها عباراته التالية:
* لا يوجد وضع مثالي في الحياة…
* مراتي دايمًا تقولي بحسدك على ثقتك بنفسك… بتتصرف كما لو كنت ألان ديلون Alain Delon -موديل الرجولة الأنيقة والجذابة في السبعينيات والثمانينيات-ودي نعمة ربنا الحمد لله.
* عن نفسي أتصرف كمعدوم الإمكانات، وفي نفس الوقت باتصرف إني ممكن أكون فارس الأحلام… وهذا يتم بشكل غير واعي…
* ممكن أبقى أحكيلك عن مغامراتي؛ إزاي دخلت شمال وأُحبطت ورجعت تاني أخش شمال… دي منظومة تانية في الحياة…. فادتني وكونتني.
سافرت وأنا عندي 21 سنة… كنت عذراء بكر… رايح بملابس كانت موضتها انتهت من أوروبا؛ اشتريت قبل السفر جزمة ببوز من محل زلط، وبنطلون شارلستون، ودخلت أماكن لا أعرفها بمشاعر الفاتح الغازي…
* ربما نجحت لأنني كنت “كويك فاني”، بالإضافة إلى عامل الندرة… قادم من كوكب تاني، ودا حقيقي… حقيقي لدرجة مخيفة.
يحكي خيري “حدث هذا في شتاء 68، ولا يمكنني حتى الآن تفسير ما حدث من جنون… وفي هذه الفترة تكونت طريقتي في الحياة، بما في ذلك علاقتي مع النساء… من يومها وأنا مباشر لا أستخدم طريقة اللف والدوران والتمهيد… عفوي جدًّا ومباشر جدًّا لدرجة صادمة كمان…لولا… أعرف كيف أفعل ذلك وأنجح… الناس بتتصدم وتبقى عايزة تضربني، وفجأة يتم كل شيء كما أريد (يفكر في التوقف… لكنه يكمل) كنت مندهشًا من هذه الحالة حتى جاءت واحدة وفوقتني من كل أوهامي… التي كنت أسميها نجاحات…كنا في حفلة منزلية… فيها كل البنات بتوع الأكاديمية التي أدرس بها -مُزز جميلة جدًّا-ودخلت على الحفلة بمشاعر نجم النجوم… فاتح الكون… وفجأة واحدة من المدعوات كانت سكرانة تحركت تجاهي وأنا في عز نشوتي… وبصقت عليا (ههههه. يضحك بصوت عال) وبعد البصقة قالت لي: إنت فاكر نفسك إيه؟ بُص لنفسك… بُص لشكلك في المرايا… إنت nothing… إنت جاي عايز تعلق البنات هنا… امشي (ههههه… مزيدًا من الضحك)”.
ما يزال خيري يحكي… وكأنه في عرض منفرد “الحقيقة هذه المرأة هزتني… دخلت إلى الحمام أنظر إلى شكلي في المرايه… وتكرر الأمر عندما طلبني مخرج من جيل بولانسكي في بولندا عملت معه مساعد منذ سنوات، في مشهد لأنني أشبه الطلاينة… وعندما نظرت إلى لقطات التصوير (قبل المونتاج) اتخضيت… قلت لهم مين دا؟ قالو لي إنت… قلت لهم أنا! لقيت واحد شكله زي الكاريكاتير؛ جسمه من فوق طويل وتحت قصير… فقلت لهم لأ مش ممكن أكون كدا… فيه خطأ في التصوير… أُحبطت لأن كمان أول مرة أشوف شكلي على بعضه… المهم أن فترة عدم الثقة انتهت… وعُدت لطبيعتي المنطلقة”.
كلام كثير قاله خيري بعد الحكاية كان خاتمته “إنت بتتربى، وبتغير مفاهيمك ودا بفضل الحياة الحرة في سن مبكر” ثم أضاف “على فكرة أحب مغامراتي الجنسية أقولها كلها، ويتعمل منها مؤلفات، مش هزار… عندي قصص لا تنتهي… بس صعبة النشر… قلتها كاملة مرة واحدة دون خجل لباحثة في المغرب لن تذكر اسمي”.
وعلاقتك بالدين…؟
“لأ الحمد لله دا مهم جدًّا… أبويا كان تقريبًا مش متدين، وكان بيكره القسس ماعرفش ليه… وكان مصاحب أكتر بالذات في القرية الشيوخ… شيوخ المساجد… وكان ضليع في اللغة العربية، وله كتابات مُبكرة باسم مستعار باسم وحيد غانم… معرفش مقدارها قد إيه… بس هو كان بيكتب بلاغة عالية جدًّا… العربي هايل… أنا بدَّعي إني بكتب كويس… بس هو أحسن مني بكتير”.
احتفظت بالحاجات دي؟
“عندي بعضها… وجوابات كلها شعرية جدًّا وقوية جدًّا… وجواباته لحبيبته… هو كان متمكن من اللغة مش متدين… فدا أثَّر علينا… أمي والبنات، ليا 3 بنات أخوات… تدين هادي… يعني يروحوا الكنيسة يصلوا… يصوموا. بس أنا وأخويا طلعنا زي الأب؛ لا بنروح كنيسة ولا بنصلي ولا بنصوم… وفشلت أمي طول عمرها إن تخليني أصوم… ساعات كدا كنت أصوم وأكل جبنة في وسط الصيام… وهو دا علي فكرة ميزة إني… يعني أنا فاكر مثلاً بنتي لما كانت في المدرسة؛ مدرسة الراعي الصالحCollege du bon Pasteur… كان ساعات ييجي مدرس الأحد… فمراتي تشلَّق لهم… مراتي خواجاية بولندية… بس عندها ما يكفي من الإنجليزي والعربي في الوقت دا إنها تشلَّق… وتشوَّح بحيث يخافوا ييجو بعد كدا… هي كاتوليكية بولندية… بتراعي التقاليد والعادات وبتحترمها، بس في الآخر بقت شبهي جدًّا. فبالتالي في الوقت دا أمي ما كنتش تنزعج من مراتي لما تعمل كدا… لأن أمي عندها إيمان هادئ… مثلاً لما بنتي جت تتجوز مسلم… أنا طبعًا حاربت علشان بنتي تعمل اللي هي عاوزاه طالما فيه حب… طبعًا مراتي معندهاش مشكلة يتصاحبوا، بس جواز لأ علشان فيه تقاليد… مش وجهه نظر متعصبة… فيه حاجة اسمها كريسماس. لكن أمي أخدت موقف غريب جدًّا… قالت هو صعب بهدوء… أمي وديعة وجميلة وساحرة بوداعتها… قالت هو صعب… هما بيحبوا بعض؟ قلت لها آه… قالت ربنا يوفقهم… وفضلت لآخر عمرها زي ما هي”.
….
إلى أين تقودنا التسع مسارات….؟
سنرى