يبدو محمود مرسي بعد ١٠٠ عام من مولده وكأنه عاش في محاولة دائمة لأن يكون غير مرئي. أو بمزيد من الدقة أن يكون الجزء الظاهر منه عبر مسافة ما لا تجعله قابلاً للمس. نوع من الخجل المتصاعد منذ حياته غريبًا في بيت العائلة بعد موت الأب. وفي مدارس برجوازية يشعر فيها بمعاناة في مواجهة التعالي والعنصرية ربما. هذه الرغبة في الاختفاء كانت محور شخصيته الفنية، لم يطق العمل في المسرح واللقاء اليومي المباشر مع الجمهور. اختار الفنون المعتمدة على مسافة يتيحها الميكرفون في الإذاعة، ثم الكاميرا في السينما، وبعدها التليفزيون. تتيح له هذه المسافة شيئًا خاصًا جدًا هو الاحتراق الداخلي، ليتوازن مع مشاعر عارمة بالغضب والسخط على عالم ليس عادلاً.
مات محمود مرسي بسبب شراهته في التدخين. وفي أعماله البارزة كان يتحد مع شخصياته في عملية أشبه بانصهار المشاعر الداخلية كما يقول منهج ستانسلافسكي في فن الممثل. الاحتراق هو ما يجعل صفة الصدق ملازمة لتقييمات النقاد والجمهور الذي يضع محمود مرسي على رأس قائمة أفضل الممثلين رغم قلة الأعمال وابتعاد صاحبها عن دوائر الضوء ومجال الشهرة.
يعبِّر محمود مرسي عن شيء مفقود في عالم التمثيل. يمكن أن نمنحه سببًا سهلاً هو سحر المعتزل. أو العظمة المتولدة من الصدق. وكلها أوصاف من عالم الرومانتيكا الاجتماعية، لو حاولنا تقريبها من عالم التمثيل سنرى أنها قدرة على التعبير المفرط عن ذات غريبة، معذبة تبحث عن متنفس لانتقام من نوع خاص، يبني به مدينته الفاضلة.
هذه القدرات المعقدة جعلته يلمع في أدوار الشر والرعب أحيانًا. كان “شاكر” في “الليلة الأخيرة” أكبر مصدر رعب في طفولتي ومراهقتي الأولى. لمعة العين وهدوء الصوت والحركة الواثقة في ارتكاب جريمة تغيير شخص بآخر وصنع عالم افتراضي كامل يمحو فيه ذاكرة شقيقة زوجته لتظن وتعيش سنوات طويلة وهي تعتقد أنها زوجته التي قتلت في غارة من غارات الحرب العالمية الثانية.
هذا الشر لا يصنع نجومية سينمائية… والشرير من هذا النوع الذي يمسح ذاكرة شخص لاستبدالها بذاكرة أخرى ؛ويحارب لكي لا يصحو الشخص من غيبوبته… لا يمكن أن يتم دون احتراق داخلي لمشاعر تريد إطالة الزمن لتستمر زوجته (بعد الحادث) أسيرة حياتها المصنوعة بخياله ورغباته العنيفة.
هذا الشرير يعيش وحيدًا؛ ليس مثل شرير العصابات الذي تحبه السينما ويعيش في جماعة تمارس الشر التقليدي كما ترسمه الهندسة الاجتماعية. وفي هذه الوحدة يكون الصراع أساساً مع الزمن. يريد توقيفه. أو تمديده أو كل أشكال مقاومة حركة الزمن.
“عيسى الدباغ” صنع عالمه الموازي في “السمان والخريف” وكانت نهايته مع انقلاب الزمن ليكون ضحية الخريف… هذه النزعات الشريرة هي شراسة لا تجسدها ملامح ولا حركة عضلات ولكنها طاقة الاحتراق الداخلية تصهر كل شيء بداخله. تأكله خيالات الغيرة في “زوجتي والكلب” ويقضم الخيال زمنه ليعود إلى زوجته الوحيدة وهو يتخيلها مع زميله في الإجازة…. وحتى في “شيء من الخوف” بدا عتريس وحيدًا وسط عصابته، يقوده شر داخلي في توقيف كل شيء ليسيطر عليه.
هذه مجرد أمثلة طائرة عن براعة محمود مرسي في هذا الشر الخاص… براعته في أداء أدوار الوعظ في أفلام ومسلسلات قدم فيها نسخ متعددة من دون كيشوت الذي يحارب طواحين الهواء… وهو هنا يريد إعادة بناء زمن قديم… حتى وهو يقيم “الجسر” مع حفيده (في آخر أفلامه من إخراج عمرو بيومي) كان يسعى إلى تمديد زمنه و ترويض الزمن الجديد لصالحه.
كان من المفترض أن يكون محمود مرسي بطل فيلم “باب الحديد”. حمّال الحقائب في القطارات. زعيم النقابات الشعبي. ابن الطبقة العاملة التي كانت ثورة يوليو تبشر بها. هذا في عام 1958، وهي الفرصة الأولى في التمثيل الاحترافي للشاب المنزوي في استوديو إذاعة “البرنامج الثاني”؛ يخرج مسرحيات جان أنوي وتينسي ويليامز وآرثر ميللر وهنريك إبسن. هذه هي بروفة البداية تقريباً. محمود مرسي وقتها كان شاباً في أوائل العشرينيات (ولد في 7 يونيو 1923)، وقد عاد من لندن بلا مال ولا عمل، ببطولة تحدثت عنها الصحف المصرية جعلته هو وسبعة مذيعين في هيئة الإذاعة البريطانية رمزاً للمشاعر الوطنية الرومانسية. حكى الحكاية الكاتب والدبلوماسي حسين أحمد أمين مشيرًا إلى أن الوحيد من السبعة (وأمين بينهم) الذي يستحق صفة “البطل” هو محمود مرسي. محمود مرسي حكى على طريقته الحكاية لكمال رمزي “.. لم تمض عدة شهور بعدها إلا وقام جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس. وكان عليَّ أن أذيع هذا الخبر. وعلى الرغم من محاولة كبح زمام مشاعري فإن الانفعال غلبني، وألقيت النبأ بصوت يرتعد نصرًا… أخيرًا تحقق أحد الأحلام الكبرى فقصة حفر قناة السويس وألوف المصريين الذين ماتوا في أثناء العمل الشاق فيها، كنت أستمع إليها بجوارحي كاملة في صباي، من المدرسين عندما انتقلت من المدارس الأجنبية إلى المدارس المصرية… في الغربة تغدو النزعة الوطنية أكثر حدة، خصوصًا حين يكون الوطن في لحظات مصيرية.. وما أن اندلع العدوان الثلاثي حتى قررنا جميعًا العودة إلى مصر لحمل السلاح..” قبلها بشهور قليلة طرده المدير المتعصب من الإذاعة الفرنسية التي اضطر للعمل فيها بعد انتهاء دراسته في “الإيديك”؛ (معهد الدراسات العليا السينمائية بباريس)، ليصرف على حلم الإقامة في باريس عاصمة الثقافة والنور كما يراها (لكي يسافر إلى باريس باع ميراثه وترك وظيفة المدرس في مدارس الثانوي بحثًا عن شيء غامض يجذبه في الفن..).
الحكاية أكثر تعقيداً من تأثير صعود جنرالات العداوة للاستعمار القديم (مرسي كان يصرح غالبًا بأنه كان مع عبد الناصر بل على يساره). تاريخ شخصي مركب مع الأجانب في إسكندرية لورانس داريل التي ولد فيها. هو ابن عائلة برجوازية صغيرة تريد العبور إلى سماء البرجوازية الأكبر. الأب نقيب المحامين في الإسكندرية. لكنه مبكراً انفصل عن أم محمود مرسي الذي وجد نفسه بعيدًا عن مكان يخصه وحده. لا يضطر فيه إلى التكيف مع كل مكان جديد.. والمكان عادة يكون أجنبياً: مدرسة إيطالية، إنجليزية، فرنسية “وكثيرًا كنت أسمع كلمة “مصري قذر” باللغات الأجنبية مما كان يحز في نفسي.. واستقر بي المطاف بمدرسة الدمبسكو وكان استقرارًا مؤلمًا، فالمدرسة إيطالية في سنوات الفاشية بكل ما تعنيه من غرور وغطرسة لا يمكن أن تخلو حصة من الحديث عن ثلاثة موضوعات كريهة إلى نفسي: عظمة الدوتشي، الزعيم الملهم، الذي يعيد أمجاد روما القديمة… وقوة شباب القمصان السوداء التي لا يحدها حدود… ثم ملاكمهم العظيم بطل العالم بريمو كارنيرا…” وهكذا.. “إزاء احتقار المدرسة بمدرسيها وتلاميذها لي كمصري، كانت سعادتي غامرة عندما هُزم بريمو كارنيرا وتهاوى على أرض الحلقة، وتكوَّم كجبل من اللحم أمام الملاكم الأمريكي الأصغر منه حجمًا ماكس بابر” (المقتطفات من حوار نادر يحكي فيه مرسي مشوار حياته ضمن كتاب كمال رمزي: محمود مرسي عصفور الجنة والنار).
هكذا تكوّنت نفسية المدرس الداخلية. خجول يتحرك بغريزية تجاه الصور المثالية. يبني ثقافته الخاصة، ويقوي البناء النفسي في مواجهة العالم الذي يشعر أنه يراقبه. هذا فقط إذا كان يمتلك كاريزما باطنية هي غالباً التي جعلت زملاء المدرسة الثانوية يهتفون جميعًا باسم محمود مرسي عندما سألهم المدرس من يقوم بدور لويس الحادي عشر.
جورج أبيض كان يلعب نفس الدور على مسرح الأوبرا وسافر محمود مرسي.. وصفق بشدة لحالة البهاء والسيطرة على الجمهور التي صنعها الممثل الكبير. ربما هذه هي التلمذة المباشرة الوحيدة لمحمود مرسي خصوصًا أن جورج أبيض اختاره ليلعب “أوديب” في مسرحية لفرقة قسم الفلسفة في كلية آداب الإسكندرية. تعلم منه أداءً أقرب إلى ستانسلافسكي. واكتشف معه السيطرة على حركة الجسد والاعتماد على قوة الإيحاء. وتعلم منه حكمة النهايات: “تمزق قلبي ألماً عندما رأيت الجمهور يثور ويتضرر من أداء جورج ابيض (في مسرحية عطيل). أسدلت الستار ليخرج يوسف وهبي الذي يؤدي دور ياجو مؤنبًا النظارة على سوء استقبالها لفنان له تاريخ، وفتحت الستار لاستكمال العرض الذي تقبله الجمهور على مضض.. حينذاك أدركت أن لكل شيء نهاية.. ولكن من ذا الذي يعترف ويتقبل النهاية!”.
ربما أدرك أيضا خطورة اللقاء المباشر مع الناس. أن يراك الجمهور بلا حاجز الشاشة وبلا قدرة على الإجادة والتعديل وإخفاء ملامح القلق والتعثر. وربما ملامح النهايات. أن تصعد على خشبة لا تتيح لك الإعادة حتى تصل إلى درجة التشبع. هكذا لم يمثل محمود مرسي على المسرح. مع أن أسلوبه وقدرته على التعبير الجواني ترشحه ليكون “وحشًا من وحوش المسرح”. لكنه لم يذهب أساسًا إلى التمثيل مباشرة. حام حوله أولاً باعتباره طريقة لكسر الغربة والخروج من وحدة صنعها قلق المحروم من بيت عائلي هادئ. ثم بعد ذلك هرب منه إلى الإخراج الأقرب إلى هندسة من بعد لا تتورط في مواجهة الناس مباشرة. لكن التمثيل طارده.
حكى الممثل عبد الغني قمر عن “ممثل كبير” مختبئ في ستوديوهات الإذاعة. لم يكتمل المشروع مع يوسف شاهين. لكنه أعطى إشارات للخروج من مأزق جديد مع العمل عندما وجد محمود مرسي نفسه في الشارع بعد الاستغناء عنه في التليفزيون. كان هو وحسين كمال أولى دفعات أرسلتها الدولة لدراسة الإخراج التلفزيوني في روما. نجح مرسي في التمثيليات وحصل على إشادات من الرئاسة. طالبه الوزير بتكرار التجربة وفق سياسته “الكم.. لا الكيف”. اعترض مرسي منحازاً لـ”الكيف”. وجاء التمثيل منقذًا. استدعاه المنتج رمسيس نجيب وتصور أنها الفرصة ليخرج فيلمه الأول. لكن هناك وجد نيازي مصطفى يعرض عليه الدور الأساسي في “أنا الهارب”. وكانت هذه هي البداية (1962). أصبح محمود مرسي ممثلاً في عز عصر الثورة وصعود الطبقة الوسطى بأفكارها الكبيرة واليوتوبيا ونماذجها النبيلة. فتى الشاشة في ذلك الوقت كان ينتمي إما إلى فرسان وأبطال وأنبياء اجتماعيين كما كان أحمد مظهر بملامح وجهه التي تجمع بين ملامح الفارس الأرستقراطي وصورة الرجل الشرقي، بالإضافة طبعًا إلى فكرة أنه ضابط من سلاح الفرسان تخرج في الكلية الحربية عام 1938 في الدفعة التي تضم كلاً من جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسين الشافعي وعبد اللطيف البغدادي وخالد محي الدين.. وهم الذين عرفوا فيما بعد بالاسم الشهير: الضباط الأحرار. وقتها كان الضابط فتى الأحلام. يحمل رسالة تغيير للمجتمع، وفي نفس الوقت يحمل إغراء السلطة والنفوذ. أحمد مظهر كان المرحلة الوسطى بين فرسان الملكية بوجوههم ذات الملامح الأرستقراطية (الأمير الظريف في “الأيدي الناعمة”)، وفرسان الثورة التي كان زعيمها ابن موظف في البوسطة (في “النظارة السوداء” كان داعية القيم الفاضلة وحقوق العمال الذي انحرف قليلاً لكنه عاد بعد قليل). مظهر كان ينافس رشدي أباظة بوسامة العائلات الأرستقراطية القديمة، والذكورة الحسية المباشرة الذي قفز إلى مصاف النجوم الأوائل مع نهاية الحرب العالمية الثانية في ظل قائمة جديدة لنجوم ملامحهم أكثر مصرية مثل: فريد شوقي وعماد حمدي وكمال الشناوي وشكري سرحان. كان هؤلاء يستعدون لاحتلال مواقع النجوم الذين كانوا انعكاسًا مباشرًا للنجوم في أوروبا وأمريكا. هكذا كان النجم اللامع هو أنور وجدي أو كلارك جيبل المصري. محمود مرسي قدم من مساحة مختلفة، لا من أيقونات المرحلة ولا من دفعات معاهد المسرح. كان في مستوى مختلف عن صناعة النماذج. مكانه كان محجوزاً في الألعاب النفسية. أزمات الشرير بالعقل لا بالجسد (الليلة الأخيرة والباب المفتوح). والديكتاتور في مأزقه العاطفي (شيء من الخوف). والثوري الذي أكل الثورة على جسر نزواته (السمان والخريف). والخائن المهووس بخيانة زوجته (زوجتي والكلب). والمستبد الذي يلهو به تابعه (الخائنة). وهكذا حتى مفارقة الموظف الكبير الذي يعزف خلف راقصة من أجل توفير الأمان المالي لعائلته في زمن الانفتاح (فيلمه قبل الأخير: حد السيف). صنعت السينما صورته: ديكتاتور في لحظة صدام بين قوته وعاطفته. والتليفزيون فتح له طريقًا آخر: دون كيشوت. أبو العلاء البشري محارب طواحين الهواء القادم من الريف إلى المدينة بالأحلام والهزائم المتتالية.
في التليفزيون عثر محمود مرسي على موقعه المحبب في السنوات الأخيرة. استراح لفكرة المشاهد التي يمكن تجويدها واستراح لصورته الجديدة. (وهكذا رحل وهو على موعد مع مسلسل جديد). وكلاهما، الديكتاتور ودونكيشوت، أقرب إلى حالات الدفاع عن تاريخه مع الغربة. إنها الدفاع الأمثل عن ذات طفل في مواجهة عالم ليس له. والمدهش أن محمود مرسي غاب وهو يشعر بالغربة كما بدا من تعليقاته النادرة في السنوات الأخيرة. وكما بدت عزلته المهندسة على الطراز الكلاسيكي. هل كان محمود مرسي يخاف من أن تكون نهايته مطفياً وسط “شطار” السوق الجديدة في السينما؟! شطار لم يتدربوا على التجويد ولا يعتنون بثقافة أبعد قليلاً حتى من نثار الأفكار السطحية العمومية؟!