سدد سيفك
ليكن قدرك أن تفي بالعهد
وليكن قلبك حاضرًا
متأهبًا
ولو يضربك الآن
شعور بالتناوب بين الخدر
والألم المبرح.
هكذا سمع في محادثة يجريها مع شبح من بداية الطريق، توقف واقترب من الرجل الذي هناك، يجلس جوار مكتب متواضع، وأمامه تصطف الكتب والصحف. في المنتصف كومة كبيرة لأعداد اليوم من كل الصحف المحلية والعالمية، وعلى الجانبين رفوف من الكتب اللامعة، لنظافتها، ونباهة عقول مؤلفيها، ثم في الداخل لم يكن المكان يتسع لأكثر من شخص واحد أو اثنين على الأكثر إلى جوار المكتب، وجوار الشيشة التي تقبع في تواضع، في انتظارها الطوعي منذ الأزل أن تشتعل مُطلقةً أنفاسها المشعشة للهواء الطلق، فتطرد تثاؤب من يُقبل ثغرها.
نظرتُ إليه مبتسمًا، ومتحفزًا، وقد انتبهت لتساؤل داخلي، كيف يكون هو بائع الصحف وله ما له من شهرة عالمية؟ ألن يكون في هذه البلاد عدل أبدًا؟ حينها نهض يستقبلني بلطف، وبابتسامة ودود قال: اتفضل! قلتُ: مساء الخير يا أستاذ، إزي حضرتك؟ مبسوط إني شوفتك!
كنت أتكلم والفرحة ترتسم على وجهي وابتسامة بلهاء تتسع حتى أذنيّ. صافحني بحرارة بالغة خارجًا إليَّ من مجاورة المكتب إلى تصفح الكتب على الرصيف المجاور، يسأل ماذا تريد من صحف اليوم؟ اخترت عدد اليوم من صحيفة قومية تصدرها الحكومة للتعريف بمواد دستورية جديدة وتناقش فيها القوانين والتشريعات التي تقيد من سلطات رئيس الجمهورية، وتنظم عمل المؤسسات بما يضمن تحقيق العدالة ونفاذ القانون ومُضيه كسيف كاسر على رقاب الجميع. وإذ هناك بعض المواضيع التي أنتظر معرفة تفاصيلها. سألت: بخمسة جنيه ولا أكتر؟ رد بضحكة مستنكرة: لا يا حضرة، بقت بسبعة! ناولته ما تبقى من مال معي، أي عشرة جنيهات، فرد إليَّ ثلاثة.
في الحقيقة لم أكن أبحث عن الأخبار ولا غيره، لكن حين رأيت أنه من يبيع الصحف، قلت لن يشعر بي مثل هذا الرجل، صحيح أن هناك فارقًا كبيرًا بيننا؛ هو كاتب كبير، وأنا فقط ألعب، لكن الحالة التي مضى إليها بعد كل هذا النجاح الذي حققه في عالم الأدب، لا يرثى لها فحسب، بل تتنامى كنذير شؤم. فإذا كان هذا حال أديب مصر الأول، كيف سأصبح أنا؟ أنا الذي قد يغرق في كتابة قصة واحدة وكأنني أعاني آلامًا شديدة! ربما لن أنجح بما يكفي في الكتابة، وعليه لن أحصل على كشك للصحف أعيش مما يدره عليّ من مال قليل، وقد لا تنتهي بي قدرتي في الكتابة لأبعد من الصعلكة!
هكذا تقتضي النبوءة
القبول الطوعي للرحلة الثلجية
هكذا أخبرت العرافة كل من صادفت
في ليلة، اكتمل فيها القمر الأحمر
وقبل أن تودع القتيل مدفونًا في
مقبرة جماعية.
هكذا مثل صوت يتردد صداه، حتى شعر الرجل بأن شيئًا يدور في نفسي، فاقترب بود، ولم تفارق وجهه تلك الابتسامة الحنون، المُحبة. كان يرتدي نظارة سوداء، وبدلة صيفية، رمادية اللون، وكرافتة أنيقة. وفي وسط اليأس الذي أحاطني حول ما أبحث عنه، لم يكن بد من السؤال وبلوغ الطريق إلى منتهاه، فسألته: حضرتك تقدر توفر عدد الجمعة اللي فاتت من جورنال الجمهورية؟ اندهش ونظر إليَّ باهتمام وهو يقطب حاجبيه قليلًا خلف نظارته: لا أخفيك سرًا، صعب.. أنت عارف الجمهورية بيخلص بسرعة.. وفات أسبوع كامل، لكن أحاول، متقلقش!
وكي أعطيه فكرة أني أفهم شيئًا عن هذه الصناعة، أخبرته أنه في إمكانه أن يسأل الرجل الذي يأتي بالأعداد الجديدة كل صباح، ربما يستطيع أن يوفر نسخة وحيدة، بالأخص أنه كان يوم عيد، وربما لم يشترِ أحد صحف ذلك اليوم، وعادت كلها إلى المخازن والأرشيف. ابتسم ثانية وارتاحت قسمات وجهه وتبدل امتعاضه تساؤلاً مندهشًا، من معرفتي بتفاصيل صناعة الصحف ودورة حياتها، أو هذا ما بدا من حديثه إليَّ، ولعله أخفى بلطفه المعتاد، تعجبه من غبائي وتصنعي ليس إلا، ولكن حفاظًا على الدور الذي خضت غماره للتو، رحت أخبره أني أعرف قليلًا عن تلك الأمور، وأن الحصول على عدد الأسبوع الماضي مُهم للغاية؛ إذ نُشرت أول قصيدة لي هناك، وأحببت أن أحتفظ بالعدد كتذكار سعيد، بعدما لم يرسل إليَّ المحرر ولا الصحيفة نسختي باعتباري ضمن من كتب بهذا العدد، ربما كنتُ شخصًا لم يره أحد، مهمشًا تمامًا، شبحًا.
مونولوج لم تسعفه الطاقة للغناء. أحيانًا يحدث، أو بالأحرى كثيرًا ما يحدث، أن أسأل نفسي، لماذا أعيش؟ ولماذا نعيش جميعًا؟! سؤال ساذج ومخزٍ. لماذا يموت صديق وأبقى أنا؟! كان من الضروري أن أموت هناك بدلًا منه. كل ما نحاول ليس إلا محض لهو؛ غرق كاذب وتعيس وهش. وكله مع ذلك جميل، حتى الألم جميل. ليس ثمة إجابة لهذا بالتأكيد، وليس ثمة مفر! أكتب فقط، وأحرق، في محاولة رديئة، للتخلص من هذا الصمت المفزع، ولو عشت للغد ولا أحب أن يحدث صراحة، سأبتسم، وأنسى ما كتبت، أمسحه. ولو أن المساء يشمل طقس العمل التعس كل ليلة، ويشمل كذلك رغبتي الطاغية في التحلل، التبخر، الموت بأثر رجعي. في التلاشي هربًا وكرهًا لما يحدث عادة هنا؛ وهذا يشمل الليل، هذا الوقت بالتحديد، أن أكون أنا أنا ولا شيء آخر كما يقول شاعر ما، في غرفتي، في السرير، مع كتاب وأغنية. لكن، في المساء ربما أسال مرة أخرى، نفسي. لماذا أعيش؟ وأنام من فرط اللاجدوى! بينما صوتًا لاح في الأفق يقول:
يا حاملي الرفات المقدس
الثأر آت لا محالة
اليوم يولد
أو بعد غد
من يحمل السيف
من يموت بالحديد والنار
فارسًا في ميدان
المعركة.
وفي لحظة بدا كأنه انتبه لأمر ما، فقال: قرأت القصيدة، كانت جميلة! انتظر، أنا أحتفظ بصفحتها معي.. لتأخذها، هي ملكك الآن، أما العدد كاملاً سنبحث عنه. وبينما يربت على كتفي، أتبع: الحكايات تحدث دومًا لمن يستطيع روايتها، لا تجزع، فقد ينفتح الباب! تمامًا في الوقت الذي ظهرت فيه امرأة يرق منها المُحيا، لجمالها الملائكي، ترتدي فستانًا قطنيًّا، أخضر، ربيعي اللون، به نقوش وردية، نُثرت على أرضيته كأنها لوحة بديعة، فاتنة. يُشكل مع وجهها صورة شاعرية للغاية، ترنو بعيون خمرية، تتعاجب بدلالها وشعرها الذي يميل إلى الذهبي، جدائل غزلتها يدُ الشمس، وترتدي حذاءً يتشكل من أشرطة جلدية متقاطعة، في تناغم ساحر مع أصابعها فريدة التقسيم والتناسق الخلاب، كما لو أن الخالق انتهى لتوه من تشكيل هذه المرأة، وإبداعها، وخلقها كأجمل معجزة قد تخطر لقلب بشر، لكنه ربما نسي قدمًا عاجزة، فأخذت عوضًا عنها عكازين جميلين. قطعت الحوار الدائر بيننا بلطف جم، كُنا نتحدث عن الكتابة وسوق النشر وآخر أعماله، وعن الخوف من الكتابة عمومًا، حتى إنه أخبرني لو أن كاتبًا لا يخاف الكتابة لن يكتب، لو أنه غير صادق، لن يصدقه أحد، لن يكون ذا قيمة، ولن يعيش طويلاً.
أخرجت المرأة من حقيبتها جهاز تسجيل صغير الحجم، يملأ كفها، محاولةً تشغيله، وقالت: هل نستطيع أن نستكمل حوارنا؟ قال: طبعًا طبعًا! شعرتُ للحظة أنه امتعض قليلاً حين وقعت عيناه خلف تلك المرأة؛ على الرجل الذي يحمل كاميرا تلتقط وجه الأستاذ أينما دار، أو لعله كان يريد أن نستكمل حديثنا عن الكتابة!
استأذن في الذهاب لاستكمال حديثه التليفزيوني، وعاد مع السيدة يتصفحان الكتب ويتحدثان، بينما كنت أُقلب نظري متلفتًا بريبة في كل اتجاه، كأن هناك من يتلصص عليَّ، حتى وجدت رجلًا ضخمًا يعبر الشارع من الجهة المقابلة هرولة ناحية الكشك، كأنه يزحف من جحر الخيال إلى أرض الواقع، وكما لو أن قدماه تحفظ هذه البقعة عن ظهر قلب، بخفة رغم عمره الذي شارف أرذله، انتقل بين الأرفف وأكوام الصحف والكتب، رافعًا ذيل جلبابه بين أسنانه ليضمن سهولة الحركة، وقد بدا على هندامه بعض البلل، ربما كان في دورة المياه العامة جوار الرصيف المقابل، فيما يعتذر لسيدة اختارت بعض الكتب وتنتظر منذ مدة كي تدفع ثمنها، قائلاً: لا مؤاخذة يا ست هانم، عطلتك! حينها حمدتُ الله أن بائع الصحف ليس الأديب الكبير وأن شكوكي لم تكن في محلها. أردت أن أستأذن الأستاذ وأرحل أتركه يستكمل فيلمه التسجيلي على راحته، لكني لم أجده، بحثت عنه كثيرًا ولم أجده، تلاشى تمامًا، كأنه حلم أو رؤيا عابرة. فيما تردد فقط صوته، سرمديًّا ينتمي إلى عالم آخر:
مثل جمع
غفير
من الخلق
رُحتُ
مجذوبًا
أفتش
عن رشفةٍ
من الحب
وَجَدتُها؟
وَجَدَتني؟
لا يَهُم.
الطريقُ
علامةُ
الحب.
هممتُ بالرحيل كي أتمكن من الوصول لمنزلي مبكرًا بخلاف ما يحدث يوميًا، كي أنتزع بعض الراحة من فم العمر، وربما وقعت نتيجة الإرهاق الشديد في تصور أمور لم تحدث مُطلقًا. بائع الصحف يتطلع إليّ الآن غارقًا في نوبة من الضحك، وما أن رفعت عينيّ دون توقع لما قد ترياه، لم ألبث لحظة واحدة حتى وجدت لافتة عريضة، مكتوب عليها بخط عربي جميل “المعلم عاشور الناجي لبيع الصحف والكتب المستعملة”!