في العشرين سنة الأخيرة، مرَّت غزة بأربعة حروب، وعشرات الجولات التصعيدية، قُل مئة توغل بري عميق في أماكن مختلفة من القطاع، وكي لا نبالغ، لنكتفي بالقول: «مليون» عملية قصف تمت ما بين غارات جوية، وقصف بالمدفعية والدبابات، والزوارق الحربية. على امتداد عمر رحلة النار والدم الطويلة هذه، وبعيدًا عن أي شيء آخر تعلموه وابتدعوه خلالها، راكم الفلسطينيون في غزة معرفة ودراية في كيفية التعامل مع الصاروخ والقذيفة لم يسبقهم إلى مثلها أحد، لجهة الاحتياط منه، والحد من خسائره، وإذا كان لا بد من الموت منه، فكيف تجعل حصيلة الأرواح التي يقبضها الصاروخ في حدودها الدنيا. نحن هنا لا نتحدث فقط عن مهارات القفز والانبطاح أرضًا، ولا عن المسح العقلي السريع للمباني التي يوجد فيها الغزِّي لحظة تلقي الصاروخ لاختيار الركن الأكثر أمنًا، أو عن التمييز الفوري لنوع الصاروخ أو الطائرة او المدفع الذي أطلقه من صوت صفيره وهو يقترب من الهدف الذي سيفجره؛ نحن نتحدث عن مهارات أشمل وأكثر تعقيدًا من كل ذلك، لا تبدأ بالاستشعار والتقدير المبكر لنوع الصاروخ وحجم الخسائر التي سيوقعها ربطا بالظرف السياسي أو الحدث الذي سيفضي إلى إطلاقه، ولا ينتهي عند قرار يتخذه المرء في أقل من ثانية بعدم الاحتماء على سبيل المثال من صاروخ بشظايا بلاستيكية يزن 600 جرامًا تطلقه طائرة استطلاع بلا طيار، لأن الموت كيفما قلَّبته سيكون أفضل من نجاة منه، ولكن بنوع من إصابات لا مفر منها سيسببها هذا الصاروخ في حال كان الشخص المعني بأخذ القرار هو الهدف الأصلي له.
في مسألة الموت والنسبية عند إسرائيل
أكتب هذا النص لسببين: الأول، أنه وفي الساعات الأخيرة زادت احتمالات فرص الوصول إلى وقف إطلاق نار بين غزة والإسرائيليين، وعليه، فهذا بمثابة آخر خاطرة عاطفية من تلك التي يُسمح بها لمن هم في أتون المعارك بغرض الثرثرة الحرة من كل ما هو سياسي أو ما يسعى للدفع برأي ما في أي اتجاه. والثاني، وهو أن الليبراليين الصهاينة وحلفاءهم اليوم، وفيما يبدو أنه في سياق جهد منظم وبفعل توجيه مركزي، نفذوا انتشارًا دعائيًّا كثيفًا على كل وسائل الإعلام العالمية ومنصات التواصل الاجتماعي، يظهِّر للعالم إنسانية الصاروخ الإسرائيلي الذي وإن كان قد ألحق دمارًا هائلاً في غزة، فإن تكنولوجيا العقل الإسرائيلي المبدع جعلت خسائر الفلسطينيين من الضحايا المدنيين هذه المرة «منخفضة نسبيًّا» بحسب التعبير الذي كان استخدامه أكثر شيوعًا. لا نعلم ما المقياس الذي يعتمده الليبراليون الصهاينة في تحديد ما هو «مرتفع» و«منخفض» نسبيًّا عند قتل المدنيين في غزة، التي يبلغ تعداد سكانها مليونان فقط، ولكن لا هذا ولا الرد عليه غرض هذا النص.
دروس في الإحصاء وفي صون كبرياء الوحوش
حتى الآن، وعلى الرغم من الدمار الذي نرى صوره ونسمع عنه، لم تتح لنا بعد فرصة الخروج من ملاجئنا لنتحقق ما إذا كان هو الأكبر قياسًا بالحروب السابقة، والتي وخلافًا للعدوان الحالي والمستمر كان إحصاء الشهداء فيها بالآلاف، فلا يزال تعداد ضحايا هذا العدوان في خانة المئات. هذا العدد سيزداد بعض الشيء بعد وقف إطلاق النار حين تراجع الأرقام مجددًا وتدقق، وإضافة فصائل المقاومة لأعداد مقاتليها الذين سقطوا ولم تدرجهم بيانات أقسام الطوارئ في المستشفيات في قوائم الضحايا في أثناء المعارك، ليلحقهم تباعًا ومن ثم على نحو زمني متقطع، من سيلفظ أنفاسه الأخيرة في الأقسام التي تحتوي الحالات الخطيرة. في كل الأحوال، فمنظومة الجهاز الصحي المتهالكة في غزة، وبخاصة في زمن الوباء، لن تسمح لهذه الحالات أن تمكث طويلاً؛ لا في أقسام الحالات الخطرة ولا المتوسطة، وستصرفهم بسرعة إلى المدافن.
للصديق عرفات الحاج نظرية تفسِّر اقتصاد المقاومة الفلسطينية خلال هذه المواجهة في تنفيذ عمليات عسكرية برية، على الرغم من أن نتائجها عادة ما تكون أعظم من حيث الكم والنوعية، بخاصة وأن من يسقط فيها هم من الضباط والجنود. هو يرى أن المقاومة حصرت إلى حد كبير جهدها العسكري بإطلاق الصواريخ، كي لا يمعن الإسرائيليون في استهداف مزيد من المدنيين الفلسطينيين كإجراء عقابي. وبحسب عرفات فإن الجيش الإسرائيلي لا يتسامح مع إذلال جنوده أمام الجمهور الإسرائيلي، وبخاصة حين يقول هذا الجيش إنه خارج لمواجهة غرضها المُعلن جلب الأمن لهم، من المزارعين والعمال المُستَعمرين الذين يحملون السلاح ليقاتلوا من يقتلهم ويحاصرهم عند حدود هذه المستعمرة.
سارع للموت لتشملك الحملة
في كل الحملات العسكرية التي تشنها إسرائيل علينا، يُخصص هامش في أنشطتها الحربية غرضه اختبار باكورة إنتاج صناعاتها العسكرية وتكتيكاتها القتالية. هذه المرة، ولأن لا أهداف ميدانية من الممكن تحقيقها للعملية العسكرية تتجاوز غاية القتل والتدمير العقابي، اتسع هامش التجريب والاختبار ليصبح الناظم والموجه الرئيسي للحملة وأنشطتها الحربية. هذا الاستنتاج لا يحتاج دراسة ميدانية لمسرح العمليات العسكرية أو لجان تحقيق. كل ما على المعني بالبحث فعله هو الوقوف على نافذته لبعض الوقت، أو مطالعة التسجيلات المصورة التي تتدفق بغزارة على شاشاتنا الضوئية. ليس ذلك فحسب، شخصيًّا، سأجادل بأن الترتيب الذي اعتمده الجيش الإسرائيلي في نسف الأبراج الرئيسية في غزة، والتي تحوي ضمن ما تحويه مكاتب وكالات الصحافة الدولية، قد وضع وصُمم بما يتيح للمصورين على أسطح الأبراج التي لم يكن وصل دورها بعد، لالتقاط أفضل الصور وأعلاها جودة ومن زوايا متعددة للبرج المقصوف، لتقوم إسرائيل بعدها بتصريف هذه الصور في قناتين: الأولى؛ شاشات التليفزيون ومواقع الأخبار التي تستأثر مشاهد التفجير والنسف هذه بأثير بثها للجمهور الإسرائيلي، التي هي وبحسب أبرز كتاب صحيفة هآرتس «العرض المفضل» له. والثانية، جمعها وتشذيبها وضمها إلى جانب صور أخرى جمعتها طائرات الاستطلاع من السماء لنفس الانفجارات وتضمينها لعروض الترويج للسلاح الإسرائيلي في المعارض الدولية كدليل دامغ على كفاءة وفعالية السلاح الإسرائيلي.
كيف يبدو الأمر من السماء
في غرفة عمليات الجيش الإسرائيلي التي تشرف على عمليات القصف الإسرائيلي لمنازل الفلسطينيين في قطاع غزة، تستقبل حواسيب ضباطها، سواء من أرشيف قاعدة بياناتها أو من الصور التي ترسلها طائرات الاستطلاع في سماء غزة، المعطيات المطلوبة عن المباني التي يُراد لطائرات F16 قصفها استجابة لطلب القيادة الأمنية، والتي تشمل أبعاد ومساحة وتقسيمات المنزل المستهدف بالمليمتر، كثافة الأسمنت وقضبان الحديد في أعمدته وسقوفه الخراسانية، المسافات التي تفصله عن المنازل التي تجاوره وأمور أخرى لا أعرفها ــ ولن أعرفها. تدخل هذه المعطيات إلى تطبيقات وخوارزميات هي فخر ابتكارات ال high tech العسكري الإسرائيلي، ليحصل المعنيون بعدها على الوصفة الأدق لتدمير المبنى وتحويله إلى غبار، والتي تحدد لطائرة F16 عدد الصواريخ اللازمة والنقاط التي ينبغي لها أن تصيبها في داخل المنزل، والوقت الذي يجب أن يفصل بين الصاروخ والآخر.
كيف يبدو الأمر من الأسفل
قبل أيام وصلنا إنذار بأن منزلاً مجاورًا لنا سيقصف مباشرة بعد أن تلقى صاروخًا تحذيريًّا من طائرة الاستطلاع. أقول لكم: في أي مكان في العالم أمر كهذا، كان ليصيب البلاد بكاملها بالذعر، ولبدا الأمر كما لو أنه يوم القيامة. في غزة، فإن الأمر عندنا ميكانيكي للغاية، لا وقت للإخلاء، من نافذتي ألوِّح بهدوء لجاري الأقرب مني للمنزل المستهدف بيدي في حركة هي ما بين «أتمنى لك السلامة»، و«الوداع»، وشاب ملتح في الشارع يشير لي بإصبعه بأن ألجأ إلى الجهة الشرقية، لأن المنزل المستهدف يحاذيني من الجهة الغربية، وأرد عليه بإشارة أن يذهب جنوبًا لأن “الضربة” بالنسبة لموضعه في الجهة الشمالية. أتحقق من أن النوافذ جميعها مفتوحة، وأن لا شيء عرضة للاشتعال، أنزل بسرعة إلى القبو نضع الأطفال الثلاثة؛ فيما نتخيل أنه أكثر الزوايا الخراسانية متانة، نحيطهم بالوسائد والفراش، نؤدي هذه التجهيزات ونحن نبتسم كي لا يشعر الأطفال بقلقنا.. وننتظر. الأمر لم يستغرق وقتًا طويلاً، طائرات F16 لم تتأخر لحسن الحظ، فأنت في مواقف كهذه تريد للوقت أن يمضي بسرعة حتى لو كان آخره قصف مدمِّر. نتأهَّب، طائرة الاستطلاع تقصف صاروخها التحذيري نصرخ نحن الأربعة الكبار «هييييه» كي لا يفزع الأطفال وليبدو الأمر كما لو أنه لعبة. يبدأ التوتر الحقيقي الآن في انتظار صواريخ التدمير. نقترب من بعضنا، تتأهب الأجهزة العضلية العصبية في أجسادنا للقفز على الأطفال لحمايتهم بها إذا لزم الأمر، يعلو صوت طائرة F16، يقترب، نبدأ بالغناء بملء حناجرنا لطمأنة الأطفال: «ماما زمنها جاية» ونضحك مرعوبين، فالانفجار الأول، قبل استيعاب ما يحصل، يعلو صوت الطائرة استعدادًا للصاروخ الثاني، يعلو صوتنا أكثر، تضرب فيجتاحنا شعور «مطمئن» لأننا لا زلنا أحياء، يبدده بعض الشك المتحفز من أن شيئًا في عملية القصف لم يمضِ كما يرام، ما قد يستدعي صاروخا ثالثًا، ولكن صوت الطائرات يبتعد، نشعر بالارتياح، نحضن بعضنا في انتظار سقوط الركام، ثوانٍ قليلة تمضي فيبدأ المنزل الذي صعد ركامه إلى السماء بالهطول علينا كالأمطار، نسمع أصوات الزجاج يتحطم، ألواح القرميد تتكسر، الأحجار تسقط في حديقة المنزل فوقنا، كل هذا لم يعد مهمًا.. فلا زلنا أحياء.
كيف تتحقق الكفاءة
في اليوم التالي لهذه الواقعة، وفي ليلة هي الأسوأ لي كأب، كانت الزوارق الحربية والمدفعية الإسرائيلية تدك حينا بهدف تدمير شارعه الرئيسي والمنازل المحاذية له. في تلك الليلة ونحن في القبو، كانت إيليا (3 سنوات) تنتفض وتتشبث بي عند دوي انفجار كل صاروخ وقذيفة. لم يفلح غنائي وابتساماتي في حجب حقيقة الموقف فيما يبدو، تلك كانت أشد المواقف سوءًا وألمًا بالنسبة لي كأب، وفي هذه المواجهة. اليوم بعد الظهيرة، وعلى حين غرّة، قصفت طائرات F16 هدفًا قريبًا للغاية مني، لم يتوفر لي ما يكفي من الفضول لأتبين ما هو حتى الآن. إيليا كانت تلعب بجانبي؛ لم تهرع إليَّ كما جرت العادة لتحتمي بي وتتحقق من ابتسامتي بأن كل شيء على ما يرام. في الحقيقة فإنها لم تنتفض حتى عند دوي الانفجار، كل ما فعلته أنها توقف عن اللعب للحظة، ونظرت هنيهة إلى اللا مكان كما لو أنها تصيخ السمع لشيء ما، ثم إليَّ، ظلت تعبيرات وجهي باردة وصامتة، وعادت لمواصلة اللعب. فكرت حينها أنه حتى الإحساس بالرعب نفسه حين يمتد ويتكرر بلا نهاية، تتسرب إليه الرتابة ويسقط في فخ الملل، ولا يبقى له من أثر إلا الموت المحقق، موت نستقبله في غزة بحس ميكانيكي وكفاءة.
النص نشره صديقنا محمد جميل على الفيس بوك قبل قليل من بداية الهدنة…واتفقنا على نشره وبعدها ذهب للنوم لأول مرة منذ اسبوعين*