Prelude
حالة من الجزع تجتاحك عندما تقرأ أن سمير غانم قد مرض وأن جسده المنهك موصول بخراطيم الأكسجين تحاول أن تمنحه قبلة الحياة ولكن المرض قد استشرى في الجسد المنهك المسن فاستسلم له.. حالة الجزع تجعلك تهرع في متاهة ذاكرتك لاهثًا تفتح كل الأبواب والأدراج مرة واحدة باحثًا عن كل ما تعرفه عن الرجل الذي خلق بداخلك حالة من الألفة تجاوزت كونه ممثلاً كوميديًّا، إلى مرحلة أنه أصبح مستقرًا بداخلك كرفيق عمر وقرين كؤوس ممتلئة بشوتات سعادة تجترعها على دفعات وواحة تستظل بها من إنهاك الحياة.
هناك عالم سمير غانم المليء بالأغاني والقهقهات والألوان الهادئة والفاقعة والحركة المتعرجة التي كان يرقص بها على المسرح فتنتشي معه وتحس أن يرقص لنفسه لا للجمهور وهناك العالم طبقًا لسمير غانم أو العالم برواية سمير غانم The world according to Samir؛ وهو العالم الذي ترفع فيه راية الهزل ويصبح الهتاف لا لسياقات آنية لحظية بل يصبح الهتاف مقترنًا بالضحك حتى الشبع والامتلاء، عالم تنهزم فيه الشعارات الرنانة الجوفاء وتتكسر على صخرة الفارس الخالص.. كم من شعارات قيلت فقدت بريقها وفسدت بعد أن تعرضت لهواء الزمان، بينما لم يفسد الهزل الخالص أبدًا، لأنه نزع قشرة الجدية المصطنعة فدام خالدًا لا يفنى.
أوهام رفعها الناس على الأعناق في الستينيات، وسقطت على جدور رقبتها في السبعينات، وأصبحت خرائب ينعق فيها البوم في التسعينات وهو الزمن الذي أتينا الحكيم سمير يرقص بين تلك الخرائب يهزأ منها ومنا ومن نفسه، ويأتي لنا بجوقة المخلوقات العجيبة ترقص وتحاكي الفن بشكل مغرق في الجروتسك المتنافر أحيانًا؛ فيرقص مع العجائز المرتدين لملابس الأطفالـ ويرتدي صدرًا ينفجر في وجه الضباط، فيخرج من بين قدميه قزمًا قصيرًا يجري على المسرح، فيصاب الناس بحالة من الذهول وتنفجر الضحكات ممزوجة بالدموع والاستغراب!
مرض سمير جعلني أفتح ضلفة الدولاب الموجود داخل عقلي؛ الضلفة المنبعجة أبوابها من الاكتناز والممتلئة بكاراكترات سمير، كما كان كاتب روايات روكامبول البوليسية يحتفظ بداخل صندوق في مكتبه بشخصيات رواياته مصنوعة من تماثيل صغيرة. فوجدت الذاكرة تحتفظ له بالكثير والكثير الذي يملأ صفحات عديدة… فتحتها لأني كنت أريد أن ألتقظ صورًا فوتوغرافية من الذاكرة لكل لحظة تجمعني مع سمير غانم سواء الشخص أو الممثل.. ذكريات مرتبطة بمسارح الإسكندرية المختلفة؛ مسرح سيد درويش قبل أن تؤممه الأوبرا المصرية، والذي كان تؤجره الفرق المسرحية لتعرض عليه فودفيلات الصيف الخفيفة عندما كان المسرح الخاص له “مشنة ومرنة” بتعبير سمير غانم نفسه، عندما أضاف حرف الميم لـ”شنة ورنة” حتى أصبحت لا أستطيع نطق هذين الكلمتين في أي سياق إلا بطريقته اللوذعية.
شاهدت على هذا المسرح “أنا والنظام وهواك” التي كتبها عبد الرحمن شوقي لسمير غانم. وعبد الرحمن شوقي هو أحد أهم من كتبوا لسمير في مرحلة احتاج فيها سمير لنصوص قوية متماسكة ترسم صورة مختلفة له عن الصورة الشائعة بأنه يقدم فقط كوميديا الفارس الخفيفة الشبيهة بالستاند أب كوميدي. وعبد الرحمن شوقي هو مخترع شخصية فطوطة التي نجحت نجاحًا مدويًا إلى حد أن سمير نفسه أعاد تدويرها مرات ومرات في قوالب مختلفة، وكان يؤديها أحيانًا في عروض واسكتشات مخصصة للأطفال تقدم في أوتيلات القاهرة.
شاهدت سمير أيضًا على مسرح العبد بالإبراهيمية في مسرحية من أنجح مسرحياته الحديثة جماهيريًّا وهي “أنا ومراتي ومونيكا” التي عرضت لسنوات عديدة، وكنت أجد لذة في أن أشاهد هذا العرض كلما هبَّ على الإسكندرية قادمًا مع حرارة الصيف فشاهدت العرض 3 مرات في كل مرة كان سمير يغير تمامًا في لزماته وإيفيهاته غير عابيء بالخط الدرامي للعرض، لاعبًا لعبته الأثيرة والجميلة في التجريب في الجمهور. وكأن الجمهور بالنسبة لسمير فئران تجارب يجرب فيهم خلطاته وتركيباته الكوميدية كل يوم، ليضع يده على المناطق التي تجلب تفاعلاً أو تفجر الضحكات وتجيب “صريخ” من الصالة كما يقول أهل المسرح الخاص، الذين يقسمون الإيفيهات ما بين إيفيهات تجيب صريخ في الصالة، وإيفيهات تجيب همهمات، وإيفيهات تجيب جبس. والجبس هو العدو اللدود للكوميديان الذي قد يلقي إيفيه مثل الساحر الذي يخرج أرنبًا من قبعته وينظر إلى وجوه الأطفال فيجدها جامدة ساكنة قُدت من صخر، وهذا قد يحبط الساحر ويريق ماء وجهه، ولكن سمير خبر الجمهور وأنواعه وأنماطه. وعندما سألته ذات يوم ما ماذا تفعل مع الجمهور الساكن أو الجمهور “السبتاوي” نسبة ليوم السبت الذي تقول الأسطورة إنه اليوم الأسوأ في المسارح، فقال “ساعتها أمثل لنفسي لمتعتي الخالصة.. أحاول أن أُضحك نفسي وكأني أمثل لصالة فارغة.. ولو ربنا جاد عليا بكم ضحكة أو كم همهمة تبقى زي الفل”.
وأظن أن تلك الحكمة القانعة التي أسمعني إياها سمير غانم لم تكن شعاره في الحياة، بل حكمة رجل مسن أدرك أن الشمس قد غربت عن لحظات التوهج، وأن عليه ككوميديان محنك أن يقنع بأن المنحنى متذبذب. وأظن أيضًا أن سمير غانم في كامل فورمته لم يكن يقنع أبدًا إلا بارتجاج الصالة رجًا، وانهمار الدموع من عيون المتفرجين الذي كانوا يتفاعلون مع حركاته وغنائه وألاعيبه “المرسحية” التي لا تنتهي.
مع الإبيارية؛ أسطوات مسارح القطاع الخاص، الذين ورثوا الفارس الخالص من والدهم أبو السعود الإبياري، قدم سمير مسرحياته الأخيرة في عقد الألفية الأول، حتى آخر عرض ظهر فيه ظهورًا خاطفًا وخافتًا على مسرح مكتبة مصر الجديدة، الذي كان يسمى في زمن ما مكتبة سوزان مبارك، وسمى الإبياري العرض “الزهر لما يلعب”، في محاولة لإدراك آخر عربة من قطار المسرح، ولكن بالطبع الجسد الواهن لم يسعفه لإكمال المسرحية التي كانت بمثابة عرض تكريمي للرجل. ولا أعلم إن كان قد سُجِّل أم لا..
سمير ليس فنانًا مسطحًا يعيد تدوير نفسه كما يحلو لبعض النقاد أن يتهموه، وليس “كداب زفة” كما وصفه محمود السعدني في كتابه “المضحكون” وصفًا غير موفق بالمرة. الكاتب الساخر الأعظم كال المديح لكوميديانات قماشتهم محدودة، ربما لأنهم كانوا أصدقاءه في الحقيقة، أو ربما لأنه شاهد تجربة سمير في مهدها، في اللحظة التي كان سمير يجرب كعادته ويضع المقادير ويضبط الجرعات حتى يصل للمركب الكوميدي الخاص به، والدليل أن السعدني نفسه اعتذر لسمير على حكمه المتسرع المتعجل، واستضافه لاحقًا في العديد من حلقات البرنامج الذي كان يقدمه.
وعلى الرغم من أن سمير هو صاحب فكرة الثلاثي، وهو الذي سعى لتكوين الفرقة، بل هو الذي كان يبحث عن الثالث دومًا، فإن الكريديت في البدايات كان يذهب لجورج والضيف، ويرى الناس سمير بقامته الفارعة مقارنة بهم مجرد قائد للفرقة، أو عازف وراء المغني الرئيسي. وكان سمير يجرب في ذاك الوقت فهو صاحب فكرة استخدام الطبلة في غناء سكتشات الثلاثي. وهو ومحمد سالم من أقنعا حسين السيد كاتب عبد الوهاب الأثير أن يكتب سكيتشات للثلاثي، فكتب صاحب “عاشق الروح” نفسه “كوتوموتو يا حلوة يا بطة”. وفي هذا الوقت كان سمير يرسم شخصيات في مهدها؛ منها شخصية المثقف المتحذلق الذي قرأ في مجلة يابانية أو إيطالية، ومنها دور السيدة الذي أجاد فيه تلوين صوته بشكل ينبئ عن أنه قادر على اللعب بصوته كيفما شاء. ثم مات الضيف، وهنا بدأ سمير في الانتقال ببراعة شديدة من منطقة عضو الجوقة إلى منطقة البطل، فكانت الباروكة أول ملامح هذا الانتقال التي منحته شيئًا فشيئًا سمت الجان بريميير، فظهر في جوليو ورومييت، بدور روميو الشعبي الذي يخطئ الناس فيتخيلونه أميرًا، ودور القبطان عز الدين الحسيني “ابن دين الحسيني” في “موسيكا في الحي الشرقي” المأخوذة عن sound of music ، ومصيلحي الصول الذي يؤجر زنانين أحد السجون ويديرها كفندق في “فندق الأشغال الشاقة”. وهنا يتموضع سمير ويتشكَّل ليأخذ شكل البطل في مسرحيات ابتعدت عن السكتشات التي قدمها الثلاثة في “حواديت وبراغيت” لتأخذ شكل الفوديفيلات الساخرة والمقتبسة من مسرحيات عالمية مثل “كل واحد وله عفريت” التي أخرجها الضيف للفرقة ورحل قبل عرضها.
في تلك المسرحيات بدأ سمير يخرج لنا ألعابه السحرية، فشهدنا لعبة باللغات المختلفة، والإضحاك باستخدام references من الإنجليزية والإيطالية واليونانية ودمجها بالثقافة الشعبية. وحتى الشعر، تجده في “فندق الأشغال الشاقة” يقول الشعر تغزلاً بفادية عكاشة بالإيطالية، ثم يقحم كجلمود صخر حطه السيل من عل، وفي “جوليو ورومييت” يغني لنا أغاني الكريسماس وهو يخدع أسامة عباس “الله الله يا بدوي جاب اليسراااااا”، وفي “موسيكا في الحي الشرقي” يسخر من شفيق جلال، فيقول إن شيخ البلد خلف ولد هي Strangers in the night. وتنهمر الإيفيهات من سمير غانم، وتتوالى فتوحاته المسرحية، وتجد الفرقة ضالتها في فيصل ندا، وتتوالى معه النجاحات في “من أجل حفنة نساء” و”المتزوجون” و”أهلاً يا دكتور” وقد انتهت المسرحية الأخيرة بمحاضر ومحاكم وخناقات وقضايا ما بين فيصل والثنائي جورج وسمير، وهي خلافات ألقت بظلالها على علاقة سمير بجورج وانتهت للانفصال. وفي المسرحيات الثلاث اهتم سمير غانم بأن يأخذ دور الأنتي – هيرو ليفجر الضحك من منطقة مغايرة؛ ففي “من أجل حفنة نساء” هو التاجر الانفتاحي المحتال الذي يخدع زبائنه في شارع الشواربي ، في مقابل جورج التاجر الأمين. وفي “المتزوجون” هو الرجل الذي تزوج من فتاة من أجل ثروة أبيها ليعيش على قفاها، وهو الدور الذي أجاده سمير ببراعة في “يا رب ولد”؛ أحد أروع ظهوراته الكوميدية التي وصل فيها للذروة، ثم في “أهلاً يا دكتور” أدى دور الطبيب المحتال الذي يوهمهم مرضاه ويستغلهم في دور شبيه بشخصية الدكتور كنوك Knock.
توصل سمير لصيغة أنه يستطيع الإضحاك من منطقة الجان الوسيم المستغل، فأجاد هذا الدور مما جعله متفردًا، وهي منطقة بكر، فالكوميديان الذي اعتدناه هو دميم أو بائس أو سمين أو مهرج. وقد جرب سمير في أفلام السبعينيات أن يلعب على المبالغات الشكلية والأزياء الفاقعة المبهرجة والأداء الحركي الهزلي المبالغ فيه، في أفلام مثل “ملوك الضحك” و”مدرسة المشاغبين” و”المهم الحب”، ولكنه عندما وضع يده على كاراكتر الجان الخبيث الدونجوان وصل إلى ذروته في “ميزو” أو معتز أبو العز؛ العاطل بالوراثة، ساحر النساء المفلس الذي يبحث عمن يتزوجها لتنفق عليه، والذي يزايد على لوحة لـ Piet Mondrian ويسمع نابليون بونابرت، ويرى أن هناك دفس ما في مسرحيات إبسن. ولا أعتقد أن هناك كوميديان استطاع الإضحاك من تلك المنطقة دون ذرة مبالغة كسمير في ميزو، اللهم إلا سهير البابلي في بكيزة هانم.
نعود إلى سمير مع عبد الرحمن شوقي، وهي مرحلة ما بعد فيصل ندا، عبد الرحمن شوقي كان مخلصًا جدًا لما يكتب، وأحبه سمير لهذا السبب، بل واستجاب له في أن يقول مونولوجات وبلوكات مسرحية بها العديد من الرسائل الجادة والناقدة على لسان فارس مهران في “فارس وبني خيبان” وهو دور الصحفي الانتهازي ودوري السيناتور الأمريكي وأخيه التوأم في “أخويا هايص وأنا لايص” ودور العالم الذي تزوره كائنات فضائية في “أنا والنظام وهواك”. وفي تلك المسرحيات تستطيع أن تلمح ببساطة قدرات سمير على التنوع، وبراعته في الإلقاء والغناء ومزج التهريج الصارخ الفانتازي بالجد بشكل ناعم جدًا، فتتحسر وتقول يا ليت ثنائية عبد الرحمن شوقي وسمير استمرت أكثر من فطوطة ومسرحيات تعد على أصابع اليد.
بالطبع مع بداية التسعينيات بدأ سمير يترنح سينمائيًّا تحت وطأة تغير المزاج وتغير ملامحه الجسدية، التي نقلته من خانة الجان السمبتيك الذي يجيد الغزل أو المهرج إلى خانة الرجل الخمسيني الراسي الذي ازداد وزنه قليلاً، وهنا نستطيع أن نقول بأريحية إن آخر ظهور سينمائي لسمير بطلاً تستطيع أن تستعيده اليوم هو في أفلام مثل “عبقري على ورقة دمغة” و”ليس لعصابتنا فرع آخر”، وهي آخر مراحل الاجتهاد السينمائي والابتكار قبل أن يبتلعه ثقب المقاولات الأسود، لنجده في المطب والغشيم والتريلا والسلاحف وبهاريز، وهي أفلام كان يبرر لعبها بالحاجة المادية، ثم عندما كبر وزادته السنون حكمة، قال إن هناك إيفيهات في داخل تلك الأفلام ومواقف تساوي 10 أفلام من بتوع اليومين دول. وفي التسعينيات، وبخاصة في نصفها الثاني بدأ سمير يكرر مرحلة السبعينيات السينمائية، وهو أن يحاول الوجود بلا تجارب ولا تجديد، باستثناء مسرحياته مع عبد الرحمن شوقي قبل أن يستسلم للإبيارية بخلطتهم التقليدية.
تلفزيونيًّا بعد “كابتن جودة” و”تزوج وابتسم للحياة” وهما آخر مسلسلين فيهما الرمق، سقط سمير في حفرة سوداء، واستسلم للإنتاج الخليجي، فقدم سلسلة من المسلسلات مثل “قط وفار” و”فرحات الوطواط” و”مستر عويس ومسز عنايات” و”عبد الحميد أكاديمي” و”معكم على الهواء هايم عبد الدايم”، وهي أعمال للأسف لم ولن تعلق في ذاكرة أي مشاهد، وستبذل مجهودًا شاقًا لتستطيع اقتناص موقف أو إيفيه قوي من تلك الأعمال، وربما يستطيع جيل تالٍ أن يعيد مشاهدتها في سياق آخر فيجد لها طعمًا مختلفًا؛ فالهلس الخالص أصدق إنباءً من الكتب.
في عقد الألفية الأول، أو بدءًا بنهاية التسعينيات، تحرر سمير غانم من قيد النجم، وذاق طعم الأفول المبكر، فكنت تجده في حفلات الأمير ترك وهند الفاسي، جالسًا بهدوء، لا يمارس الصخب، ولكنه حريص على الوجود والارتشاف من كأس الحياة، أو يظهر في العديد من المشاهد والأعمال كنوع من المجاملة، وأحيانًا يعيد تقديم فطوطة بعدة أشكال للعديد من القنوات المصرية والخليجية. كما أصبح ضيفًا دائمًا على البرامج كفقرة كوميدية، وبدأ النقاد في نقده نقدًا جارحًا، واتهام مسرحه باستغلال العاهات الجسدية، فأمعن سمير، كنوع من التحدي، في تقديم أعمال مفككة تمامًا، وكأنه أحس بالضجر والامتلاء. في تلك الفترة ربطت الأقاويل سمير بالعديد من العلاقات مع فنانات، وكان بابتسامته الهادئة يؤكد تلك الأقاويل، وكأنه كان سعيدًا بأن يظهر بمظهر الدونجوان متعدد العلاقات، رجل الليل، في رد فعل على الهجوم الذي يتعرض له، والإخفاق الذي أصاب معظم أعماله في تلك الفترة، باستثناء المسرح. لكن هذا الضجر الذي تسلل إلى سمير أوهن قدراته، وجعله يعيد تدوير ألعابه السحرية، حتى ملَّ الجمهور، وملَّ هو نفسه، وانطفأت لمعة عينيه، وصدأت أدواته وتكاسل أن يشذبها. وفي تلك الفترة أيضًا كان يردد في كل البرامج أنه لا يشاهد الأعمال المصرية، وكأنه ليس مشاركًا فيها، وأنه يشاهد الأعمال الأجنبية فهي “الأصل”، لأنه كما قال في إحدى الجلسات أحس من كلام الصحفيين والنقاد أن ما قدمه كله يساوى صفرًا، وأنهم أهالوا التراب على تاريخه وريبرتواره، خصوصًا عند جيل من الكتاب المسيسين المهيمنين على ساحة الكتابة كان ينتظر من الفنان أن يشتبك مع الواقع ويعلق على أحداثه ويتخذ مواقف، بينما كان سمير بعدميته الهازئة يرفض الاشتباك، ليس عن جهل كما يصدِّر للناس، بل عن ضجر وعدم اكتراث، فالرجل كان يسخر دومًا في دائرته المغلقة من حرائق الكلام والفنانين الذي يمتطون أحصنة الوعظ والهتاف الخشبية. حتى إنه كان عندما يقبل دورًا فيه شبهة مسؤولية، مثل دوره في “إنقاذ ما يمكن إنقاذه”، أو “جحا يحكم المدينة”، أو “الرجل الذي عطس”، كان يسارع في كل الأماكن بالتبرؤ من هذا الدور، والاغتسال من آثاره، كي لا تتملكه روح الجدية، ويتورط في فخ التبرير والشرح والدفاع عما قدمه، ولكن تلك الأدوار المتفرقة كانت تخفي قدراته الكامنة التي خاف أن يُظهرها، واشترى دماغه.
مع صعود بنات سمير وتحقيقهن لنجاحات كبرى بدأت مع إيمي في أدوار جادة، ثم أفصحت عن وجهها الكوميدي، حان الوقت للبنتين أن تكونا بارتين بسمير، فأعادا تقديمه إلى جمهورهما، ثم أعادت السوشيال ميديا تقديم إبداعات سمير لكل الأجيال التي تفاجأت بـ 4- 2- 4، و”يا رب ولد” و”ميزو” و”كابتن جودة” و”الأستاذ مزيكا” و”أهلا يا دكتور”، بل وبمشاهد من مسلسلات لم يعرفها حتى جيل سمير. لقد زاحم سمير بريبرتوراه القديم الجيل الحالي من الكوميديانات في عدد المشاهدات، وسقطت من حسابات الناس فترة كانوا يلومون فيها سمير على ما يقدمه وكأنهم يلومونه على تغيير الأمزجة وتبدل الأحوال.
Epilogue
حالة الحزن العامة على غياب سمير تهدئ من روع لحظة الرحيل التي لن تقترن بالنسيان أو الخفوت، بل ربما بالاستعادة المتكررة، والتنقيب بين ثنايا التراث الضخم للعثور على لحظات سعادة متفجرة وكؤوس نشوة وفرقعات ضحك فوار خالص، يحمل توقيع المتفرد سمير غانم المستمر والمنبعث من دخان ورماد السرديات الكبرى.
حاشية كوميدية:
بوست سكريبتوم
في أحد الأفلام يقوم سمير غانم بدور مُهرب مخدرات يسافر إلى اليونان ليقابل الراس الكبيرة “ستافرو”، وهناك على مكتب يجلس رجل قصير تتبين ملامحه بالكاد، ويدور حوار بينه وبين سمير، تكتشف بصعوبة كمشاهد أن سمير يقوم بالأداء الصوتي للدورين، ولكن صوت ستافرو مختلف لأنه صادر من الأنف. وفي نهاية الديالوج يقترب سمير من ستافرو وينتزع منه السيجار الذي يشربه ويقول: “بتشرب ممبار يا ستافرو”!