في سبتمبر 1999 بدأ الكاتب الأمريكي المنكوب؛ كما يصف نفسه بنفسه، “ليموني سنيكت” نشر سلسلة الروايات، التي وصلت إلى 13 جزءًا “سلسلة أحداث مؤسفة“… بمصاحبة رسوم الرسام المنحوس “بريت هيلكويست“… وهي سلسلة مصنفة ضمن روايات أدب النشء؛ ومع ذلك فقد لاقت رواجًا هائلاً منذ ظهور جزءها الأول “البداية السيئة“… باعت السلسلة أكثر من 60 مليون نسخة، وتُرجمت إلى أكثر من 41 لغة، وها هي ذي أخيرًا بالعربية… كما تحولت؛ في 2004، إلى فيلم سينمائي حقق نجاحًا لافتًا، من بطولة ﭼيم كاري وميريل ستريب، وكذلك إلى لعبة فيديو… وفي 2017 حولتها نتفيلكس إلى مسلسل تليفزيوني من موسمين.
تدور أحداث السلسلة حول الإخوة بودلير الثلاثة؛ ڤيوليت وكلاوس وصني، الذين عاشوا رحلة مليئة بالبؤس والويل بعد رحيل أبويهم في حادثة فظيعة، وتعرضوا لمختلف أنواع المتاعب والمؤامرات من الكونت أولاف، الوصي الجشع، وظلت المشكلات تتعقبهم، والنحس يبحث عنهم، حتى ليظن المرء أن فيهم مغناطيسًا جاذبًا لسوء الحظ… تتناول السلسلة التغيرات النفسية التي تصاحب فترة تحول الأخوة بودلير من الطفولة إلى الرشد، في سخرية سوداء تنحو إلى بعض القضايا الفلسفية والأدبية.
عزيزي القارئ،
أنا آسف جدًّا أن أخبرك أن الكتاب الذي بين يديك كتاب حزين للغاية، فهو يروي قصة بائسة لثلاثة أطفال منحوسين، وعلى الرغم من أن الأخوة بودلير كانوا رائعين وأذكياء فإنهم عاشوا حياة مليئة بالبؤس والويل. في الصفحة الأولى من هذا الكتاب، سيكون الأطفال الثلاثة على الشاطئ، ثم يتلقون خبرًا رهيبًا، وعلى مدى القصة بكاملها يستمر البؤس، فتتعقبهم المصائب، وتتربص بهم المشكلات، حتى ليظن المرء أن فيهم مغناطيسًا جذابًا للمصائب وسوء الحظ!
في هذا الكتاب الصغير، سيواجه الأطفال الثلاثة كارثة الحريق، وسيلتقون شخصًا شريرًا وجشعًا ومثيرًا للاشمئزاز، وسيرتدون ملابس تسبب الحكّة، ثم يواجهون مؤامرة تحاك لسرقة ثروتهم، ويأكلون العصيدة الباردة على الإفطار.
للأسف من واجبي التعس أن أكتب هذه القصص غير السعيدة، ولكن طبعًا ليس هناك ما يمنعك من وضع هذا الكتاب جانبًا في أي وقت، وقراءة كتاب سار إن كنت تفضل ذلك!
وتفضلوا بقبول كل الاحترام،
ليموني سنيكت
الفصل الأول
إن كنت من هواة النهايات السعيدة، فمن الأفضل أن تذهب وتقرأ كتابًا آخر. فهذا الكتاب لا يفتقد فقط للنهاية السعيدة، بل إنه لا يحوي أصلاً إلا القليل جدًّا من السعادة، وهذا لأنه لم يكن هناك الكثير من السعادة في حياة الأخوة بودلير الثلاثة؛ ڤيوليت وكلاوس وصني. الذين كانوا أطفالاً أذكياء وساحرين وواسعي الحيلة، وجذابين، لكنهم، ويا للأسف، منحوسون؛ إذ كان معظم ما حدث لهم مليئًا بالبؤس والتعاسة واليأس… أنا آسف أني أخبركم بهذا… لكن هكذا تجري الأحداث.
ذات يوم، على شاطئ بريني، بدأت محنتهم. كان الأخوة بودلير يعيشون مع والديهم في قصر هائل في مدينة قذرة ومزدحمة. أحيانًا كان والداهم يسمحان لهم بأن يأخذوا السيارة المتهالكة –وكلمة متهالكة هنا ربما تعني متقلقلة، أو التي على وشك الانهيار– وحدهم إلى الشاطئ، فيما يشبه العطلة، بشرط أن يعودوا قبل موعد العشاء. هذا الصباح بالذات كان غائمًا ورماديًّا، وهو ما لم يزعج الأخوة بودلير نهائيًّا. فقد كان بريني شاطئًا يمكنهم أن يفرشوا عليه مفارشهم ويجلسوا، وفي الأيام الغائمة كانوا يأخذون الشاطئ كله لحسابهم، ويفعلون كل ما يحلو لهم. كانت ڤيوليت، الأخت الكبرى، كأي فتاة في الرابعة عشرة، تحب أن تلعب لعبة رشق الماء بالحجارة، ولما كانت تستخدم يدها اليمنى دائمًا، كانت الحجارة التي ترشقها بيدها اليمنى تصل إلى أبعد بكثير مما تصل إليه الحجارة التي ترشقها بيدها اليسرى. وكانت بينما ترشق الحجارة، تتأمل الأفق، وتفكر في شيء تود اختراعه. لذلك كانت تبقي شعرها مربوطًا بشريط، ليبقى بعيدًا عن عينيها؛ أي شخص يعرف ڤيوليت سيعرف أنها تفكر بجدية، كانت بالفعل تحب الاختراعات، ولديها موهبة حقيقية في الاختراعات وتصنيع الأجهزة؛ وكان عقلها مزدحمًا بصور لبكرات ورافعات وتروس، لذلك فهي لا تحب أن يشتت انتباهها شيء تافه كشعرها. وفي ذاك الصباح بالذات كانت تفكر في اختراع آلة تمكنها من استرداد الحجارة التي ترشقها في المحيط.
أما كلاوس بودلير، الطفل الأوسط، والولد الوحيد بينهم، الذي يحب أن يجمع المخلوقات في برطمانات صغيرة ويتفحصها. فكان في الثانية عشرة أو يزيد قليلاً، ويلبس نظارات تجعله يبدو ذكيًّا. وقد كان ذكيًّا فعلاً. كان الأبوان بودلير يملكان مكتبة ضخمة في قصرهما؛ غرفة كاملة أرففها مليئة بآلاف الكتب في كل المجالات تقريبًا. ولكونه في الثانية عشرة؛ لم يقرأ كلاوس طبعًا كل الكتب في مكتبة أبويه، لكنه قرأ جزءًا كبيرًا منها، وحصَّل العديد من المعلومات الموجودة فيها؛ فهو يعرف مثالاً أن الأليجاتور Alligator هو نوع من أنواع التماسيح. ويعرف من قتل يوليوس قيصر، ويعرف الكثير عن الحيوانات الصغيرة الدقيقة التي يجدها على شاطئ بريني، التي يتفحصها الآن.
صني بودلير؛ الأخت الصغرى، كانت تحب أن تعضعض الأشياء، وهي رضيعة تقريبًا، شكلها أصغر من عمرها؛ بالكاد أطول من حذاء. صحيح أنها كانت تفتقر إلى الحجم، لكنها كانت تعوِّض ذلك بأسنانها الأربعة الحادة الكبيرة. كانت صني في العمر الذي يكون الكلام فيه عبارة عن سلسلة من الزعقات غير المفهومة. وعدا بعض الكلمات مثل “زجاجة” و“مامي” و“عضة“، لم يكن أحد يستطيع أن يفهم ما تحاول قوله. هذا الصباح مثلاً كانت تقول “جاك“، وتكررها مرة بعد مرة، غالبًا كانت تقصد “انظروا إلى هذه الشخص الغامض الذي يخترق الضباب!”. من المؤكد أنه كان هناك شخص طويل وكأنه يتجه فعلاً من السماء نحو الأخوة بودلير. كانت صني تنظر إلى الشخص القادم وتصيح، فرفع كلاوس رأسه عن الكابوريا التي كان يتفحصها، ثم توجَّه إلى ڤيوليت، ولمس ذراعها برفق لينبهها، فأخرجها من أفكارها الممتلئة بالاختراعات.
“انظرا إلى هذا” أشار كلاوس إلى الشخص الذي كان يقترب حتى استطاع الأطفال رؤية بعض التفاصيل؛ كان في حجم رجل بالغ، إلا أن رأسه كان طويلاً، وأقرب إلى الاستدارة.
“من تظنه يكون؟” سألت ڤيوليت.
“لا أعرف” قال كلاوس وهو ينظر بتركيز “لكن يبدو أنه يتجه نحونا مباشرة!”. بعصبية ردت ڤيوليت “نحن وحدنا تمامًا على الشاطئ، لا يوجد أحد غيرنا ليتجه إليه!”. ونظرت إلى الحجر الصغير الأملس في يدها اليسرى، الذي كانت تنوي أن تقذف به إلى أبعد ما تستطيع، وفكَّرت أن تقذفه تجاه هذا الشخص؛ إذ كان يبدو مخيفًا للغاية.
“يبدو مرعبًا” قال كلاوس وكأنه يقرأ أفكار أخته “ربما بسبب الضباب“، وقد كان هذا صحيحًا، فعندما اقترب الشخص منهم، رأى الأولاد أنه لم يكن شيئًا مخيفًا على الإطلاق، لقد كان شخصًا يعرفونه؛ إنه السيد بو، الذي كان صديقًا لأبيهم وأمهم، وقد التقوه من قبل في حفلات العشاء التي كانت تقام في قصرهم.
إن واحدًا من الأشياء التي كانت ڤيوليت وكلاوس وصني يحبونها في أبويهم أنهما كانا يسمحان لهما بالانضمام إليهما في حال وجود ضيوف في القصر، وكانا يسمحان لهم بالمشاركة في العشاء والمحادثات، ما داموا يشاركون في تنظيف المائدة لاحقًا. وقد تذكَّر الأطفال السيد بو على الفور لأنه كان مصابًا بالبرد دائمًا، واعتاد أن يستأذن ويقوم من على المائدة ليسعُل على راحته في غرفة مجاورة.
خلع السيد بو قبعته التي تجعل رأسه تبدو أكبر وأكثر استدارة في الضباب، وتوقف لحظة ليسعل بصوت عالٍ في منديل أبيض. فتحرَّك كل من ڤيوليت وكلاوس نحوه مرحبين.
“كيف حالك؟” قالت ڤيوليت.
“كيف حالك؟” قال كلاوس.
“ك.. ي… ف …الك؟” قالت صني.
“بخير… شكرًا” قال السيد بو، لكنه كان يبدو حزينًا جدًّا. ولبضع ثوان ساد الصمت التام؛ كان الأطفال يتساءلون ماذا يفعل السيد بو على شاطئ بريني، بينما من المفترض أن يكون في البنك، حيث يعمل، إنه لم يكن حتى يرتدي ملابس مناسبة للشاطئ. حاولت ڤيوليت فتح أي حوار، فقالت “يا له من يوم لطيف!”، وزمجرت صني بصوت يشبه صوت طير غاضب، فرفعها كلاوس واحتضنها.
“نعم… إنه يوم لطيف” قال السيد بو بشرود، وهو ينظر إلى الشاطئ الخالي. ثم تكلم “أخشى يا أولاد أنني أحمل إليكم خبرًا سيئًا“. تحسست ڤيوليت الحجر في يدها اليسرى، وشعرت بالإحراج لأنها كانت تفكر أن تقذفه نحو السيد بو، الذي قال “أبواكما… احم.. لقد ماتا في حريق ضخم“. لم ينطق الأطفال بكلمة، فأكمل السيد بو “ماتا… في حريق قضى على المنزل بأكمله… أنا آسف جدًّا جدًّا أن أخبركم بذلك يا أعزائي“. نقلت ڤيوليت عينيها من على السيد بو ونظرت إلى المحيط. لم يسبق للسيد بو قط أن خاطب الأخوة بودلير بـ“يا أعزائي“، وقد فهمت ڤيوليت ما قاله، لكنها فكرت أنه لا بد يمزح، أو يلعب لعبة ثقيلة الدم معها ومع أخويها.
قال السيد بو “لقد ماتا“، أعني “…قُتلا“. فرد كلاوس بسخرية “نحن نعرف جيّدًا ما الذي تعنيه كلمة ماتا“. كان طبعًا يعرف ما الذي تعنيه كلمة ماتا، لكنه كان يواجه مشكلة في فهم ما قاله السيد بو بالضبط؛ ربما هي زلة لسان.
قال السيد بو “جاءت المطافئ طبعًا، لكنها جاءت متأخرة للأسف… لقد أكلت النيران المنزل بالكامل“. تخيَّل كلاوس كل الكتب التي أكلتها النيران في مكتبة المنزل ولن يعود في إمكانه قراءتها قطعًا. سعُل السيد بو في منديله أكثر من مرة قبل أن يقول “أُرسلت لأخذكم من هنا إلى منزلي حيث ستبقون لفترة، حتى نرى ما يمكننا فعله… أنا مُنفذ وصية أبويكما، وهذا يعني أنني سأدير ثروتهما الضخمة، وتحديد إلى أين يذهب أطفالهما، وعندما تبلغ ڤيوليت السن القانونية ستحصل على الثروة، ولكن حتى ذلك الحين سيديرها البنك“. وعلى الرغم من أنه منفذ الوصية شعرت ڤيوليت وكأن السيد بو هو الجلاد. كان يتمشى على الشاطئ في هدوء وقد غيَّر للتو حياتهم إلى الأبد!
“تعالوا معي” قال السيد بو، ومد يده ليمسك بأياديهم، اضطرت ڤيوليت إلى إسقاط الحجر الذي كان في يدها، ومدَّت يدها للسيد بو، أمسك كلاوس بيدها الأخرى، وأمسكت صني بيد كلاوس الأخرى، وهكذا ابتعد الأخوة بودلير، الأخوة الأيتام الآن، عن الشاطئ، وعن حياتهم السابقة كلها.
هذا هو الفصل الأول من أول أجزاء سلسلة الأحداث المؤسفة، والتي ستنشرها كاملة دار المحروسة للنشر