لا أعرف على وجه الدقة من الذي أطلق على سعاد حسني لقب (السندريلا). لكنه كان غالبًا أحد وسائل ترويض متعددة فشلت كلها مع مشهد النهاية المأساوي.
لم تكن سعاد حسني في حرب مع الوقت كما رسمت حكايات الطفولة، سندريلا، اليتيمة التي تتعرض لظلم من زوجة الأب وبناتها. ومنحها الساحر مهلة لتخرج من الحصار وتذهب إلى حفلة الأمير لتثير اعجابه، لكن الوقت داهم الفتاة وغادرت الحفل بسرعة أضاعت منها فردة حذاء، كانت العلامة التي أوصلت الأمير إلى محبوبته لتكتمل القصة بالعودة إلى القصر.
سعاد حسني مؤرقة لأن قصتها لم تكن العودة إلى القصر والفوز بالجائرة، وصراعها مع الوقت لم يكن البحث عن اكتمال القصة بل عن امتدادها، عن القطرة الهاربة في كأس النشوة، وكيف تلاحقها في زمن قبل اختراع طرق قياسه العلمية…وقبل قوانين الجاذبية الاجتماعية التي تثير الإعجاب والاطمئنان مع كل قيد يضعه الإنسان على روحه ورغباته.
سندريلا تطمئن القلقين على وجود ساعة حظ ينتصر فيها الخير، وتلتئم فيها قصة العاشقين ومعهما القصر والكوخ البسيط. الأمير واليتيمة المعذبة. الثراء والفقر. السلطة والشعب. في انسجام أبدي يحزن فيه الأشرار ويتناسل الخير عبر “الرفاة والبنين”، ويعود الكون إلى دورانه الطبيعي بعد قليل من الدراما.
تباع هذه القصص في أسواق مخصصة لعلاج الغضب، وتعد المستهلكين بأن يكون مقاس الحذاء شرط الخلاص والسعادة، يجعلنا ننام في اطمئنان لا نعرف فيه ماذا نفعل وكل أطراف القصة يعيشون في داخلنا. الطيب والشرير. الجميلة والأمير، والقاتل والضحية.. وأن كل هذه المسميات مثل مقاييس الوقت اختراع بشري للسيطرة. وليست تذاكر للفردوس يحصل عليها من يتوافق مقاس قدميه مع الحذاء.
عندما تكتب قصة سعاد من البداية ربما يكون المشهد هو وقوفها حافية أمام حوض مطبخ منزلى على سطح بيت بجوار جامع الكيخيا، تغسل الأطباق بعد عشاء مع والدها الخطاط السوري المحترف، الذي أعجب به ملك مصر واستدعاه ليكتب ما يطبع على أوراق البنكنوت ومانشيتات الصحف.
المشهد تختلط فيه الواقعية بالحكايات المتخيلة. البنت الحافية بأساطير الفنانين من عشاق فنون تخبو بعد قليل من السنوات لتوسع مساحات لفنون أحدث، مع احتفاظها، في ركن بعيد، بمكانة السلطنة والمزاج العالي.
اليتيمة لم تكن تعرف حروف الكتابة والقراءة قبل أن تقع عليها عين “الشواف” عبد الرحمن الخميسي، ليخلصها من قبضة الأب الذي استثمر، كما تقول الحكايات المتداولة، في صوت ابنته الكبرى نجاة، التي قدمت على أنها “الصغيرة”، ولكي يوقف نموها الجسدي وتظل الصغيرة قالت نفس الحكايات إنه كان يسقيها الخل، ليضمن استمرار الطلب.
الطرب كان ملك السوق في تلك الأوقات، وكان القبول باقتراحات عبد الرحمن الخميسي، صديق الأب، مغامرة كاملة الأوصاف، تغيير دراماتيكي يحتاج معرفة جديدة، تعبر فيه الفتاة خارج المقاييس، مندفعة إلى زمن جديد بكل ما يمنحها ذلك من تحرر وقسوة، من انفجار الرغبة وانتظار أب مفقود في الزمن الجديد.. من المساحة الممتعة في الحدود بين الطفولة والأنوثة.. حدود لا ترضيها التقسيمات ولا يمكن ترويضها إلا بالاستسلام.
وهو ما لم يحدث في قصة سعاد حسني كما حاولت تجميعها عبر سنوات طويلة.. وبطرق متعددة.. هذه القصة هي أشلاء الجثة التي نحتفل بها داخلنا ونحن أحياء.
تابعوا معي هنا تفاصيل من قصة سعاد حسني كما حاولت الاقتراب منها عبر أوقات متباينة.
باريس 1992
سعاد حسني في اللحظات الأولى لمرضها الكبير، تنتظر نتيجة العملية الأولى في العمود الفقري، الليلة عيد ميلادها الخمسين، هي الآن طفلة تقاوم إغراء استراحة الشيخوخة والجلوس في الظل انتظارًا لشفقة الآخرين ولسحر الذكريات والأهم أنها تقاوم أيضًا آلام انسحاب الأنثى الخرافية إلى الأبد.
في تلك الليلة ذهبت مع الأصدقاء إلى مطعم بعيد عن الدوائر التي يتحرك فيها العرب في عاصمة النور، كما يحبون أن يطلقوا عليها. كان البرد منعشًا ومثيرًا للنشوة والشوق إلى الأيام البعيدة. وكان الضيوف مزيجًا من الأصدقاء القدامى في عالم الصحافة والإعلام ونجوم يصعدون الدرجات الأولى في سلم الشهرة، الليلة أيضا هي احتفال بنجاح أحد أفلامهم في المهرجان العربي بباريس؛ أي أن كل شيء معد ليفتح الساهرون مخزن الذكريات لتخرج منه صور سعاد المبهرة القديمة، بينما تتسع الصور لتتألق النجمات الشابات، بدأت إحداهن في الرقص وجذبت الانتباه بخفة دمها، والنجم الوسيم الذي يشبهونه برشدي أباظة صامت؛ يعلق بين لحظة وأخرى بكلمة عابرة، بعد قليل اختلطت حكايات الذاكرة بنشوة الرقص، وفي لحظة سقط حاجز الزمن، وخرجت سعاد من صمتها العميق، بقوة غامضة انطلقت في جسدها المتعب فقامت ترقص وتغني وتضحك، وسيطرت على كل شيء حولها، وانسحبت النجمة الجديدة وجلست في مقاعد المتفرجين، لم يفلت الدون جوان الجديد من سحر السندريلا التي رفضت الدور الثاني، ولم تشبعها نظرة الامتنان. إنها ما تزال كما هي، ساحرة الرجال وصانعة فتنتهم، لم تكن يومها عجوزًا تتصابى لتنسى أزمة الخمسين، ولا امرأة تتعمد الخطأ في حساب السنين لتحافظ على وهم الشباب الدائم، بل كانت أسطورة تنتزع وجودها في لحظة خارج حسابات الزمن.
لكن الزمن عدو شرس، والحرب معه كأنها معاندة للقدر، بعد هذه الليلة قابلها صلاح السعدني في باريس وطلب منها أن تعود إلى مصر، فردت عليه “أرجع ليه.. علشان أعمل دور أمك؟”.
في الفترة نفسها عرض عليها المنتج سمير خفاجي العودة إلى القاهرة في عرض مسرحي، وهي لم تقف على خشبة المسرح من قبل، وستكون المسرحية عن كارمن؛ أسطورة الأنوثة، قال خفاجي “سأدفع لك ما تريدين”، لكنها ترددت بعد أن طلب منها إجراء عملية شد وجه خفيفة. كيف سأعبر بعد أن تتغير ملامح وجهي؟
هل ستكون تعبيراتي صادقة بعد أن أشد وجهي؟
ظلت سعاد تسأل نفسها والأصدقاء، حتى ظن المنتج أن صمتها نوعًا مهذبًا من الرفض.
هذه هي سعاد التي انتشرت حولها حكايات تجعل منها إلهة الجنس في عصرنا، وصلت أحيانًا إلى حدود لا تصدق؛ جعلتها الحكايات تذهب ذات ليلة في سيارتها إلى حارس استوديو الأهرام عارية تمامًا من كل ملابسها لتروي جسدها الذي لم يكن يشبع. كان وراء هذه الحكايات تفسير شعبي بأنها مصابة بمرض الشره الجنسي، ولكي تكتمل الحكايات إلى آخرها كان التفسير الجاهز أنها مرت بتجربة عنيفة قديمة؛ عندما أقامت علاقة محرمة كان بطلها مرة زوج أمها، ومرة أخرى أبوها!
على هامش هذه الحكايات والأساطير تولدت قصص مجنون سعاد حسني الذي يسير في الشوارع حاملاً جوالاً مملوءًا بالمجلات التي تحمل أخبارها وصورها. ربما هذا هو الرجل الذي حكي عنه جيرانها، أنه كان يأتي إليها بملابسه الرثة ووجهه المتسخ وشعره المنفوش وجسده الضخم وهيئته التي تشبه إنسان العصور القديمة، كان الوحش الغامض يدق باب شقة سعاد حسني وهو يحمل جوالاً كبيرًا على كتفه ويخرج بعد فترة من الزمن.
ويبدو أن قصة الرجل كانت تضايق الجيران، وسرُّه يحرك شوقهم للنميمة لكنهم حكوا بعد رحيلها أنهم عرفوا أنه كان يأتي من أجل الطعام وبعض المال ويخرج صامتًا كما دخل!
هذه الحكايات هي توابل الأسطورة التي كان الحب والجنس والمتع الحسية جزءًا لا ينفصل أبدًا عن حياتها وصورتها عند جماهير عشقوها على الشاشة وسربوها في المراهقة إلى حجرات النوم وعاشوا معها أروع الأحلام..
وهذا ما يجعل الأيام الأخيرة في حياة سعاد حسني قاسية ومعذبة. هكذا كانت تشعر بألم داخلي عنيف وهى تخطو الخطوات الأولى في رحلة هروبها الكبير بين باريس ولندن. وجهها يشي بشيء آخر غير السندريلا التي عشق الناس نعومتها ودقة تكوينها الملحوظة؛ الوجه ممتلئ وملامحه تائهة في طيات كبيرة من الدهون، للوهلة الأولى لا يعرفها من سكنتهم الصورة المعروفة لسعاد، كان هذا قبل المرحلة التي غاص فيها الوجه أكثر تحت تأثير الكورتيزون والسمنة الناتجة عن مرض الشهية العصبية، حين كانت تأكل بشراهة غير عادية تفوق ولعها الطبيعي بالطعام، كان وجهها القديم يختفي تدريجيًّا وهى تقاوم معركة أسفرت في منتصفها عن العصب السابع الذي يجعل نصف الوجه مشلولاً وهو ما جعلها تشعر بالحاجة إلى المزيد من الهروب والابتعاد عن الناس. الغريب أن هذه العزلة منحتها سحرًا ينقلها من عالم التفاصيل والوقائع والأخبار اليومية إلى الأطياف والخيالات. بذكاء فطري اختارت أن يكون الصوت طريقة في الوجود وإثارة النشوة للعشاق عن الصورة المريضة. هكذا أصبح صوت سعاد حسني هو صورتها الجديدة. وقبل رحيلها بعام اتفقت بالفعل مع أشهر مخرج إعلانات في مصر على أن تشترك في عروض إعلانية لصالحه بصوتها. كان الاتفاق الذي لم يتم سيحل أزمة مالية تمر بها السندريلا بعد توقف الحكومة المصرية عن تحمل نفقات علاجها في لندن، في وقت كانت تحتاج فيه إلى مبالغ ضخمة لاستكمال العلاج، وهو ما دفعها إلى قبول عرض مخرج الإعلانات الذي لم يطلب شيئا إلا صوتها!
كان صوت سعاد حسني حاضرًا أكثر من مرة خلال السنوات الثلاث الأخيرة قبل مغادرتها الحياة؛ مرة عندما ألحت عليها صفاء أبو السعود لتشارك في برنامج تلفزيوني خاص عن صلاح جاهين، وهو ما جعلها توافق على أن تتكلم عبر التليفون بصوتها، الذي كان أكثر الفقرات حضورًا في البرنامج المصور.. ومرة حين أراد مهرجان القاهرة السينمائي الدولي تكريمها فأرسلت صوتها، وأخيرًا حينما أرادت البحث عن عمل جديد يكفل لها موردًا ماليًّا تعبر به نفق رحلة العلاج واختارت أن يكون تسجيلاً صوتيًّا لرباعيات صلاح جاهين. كان الصوت طريقتها الأخيرة في العشق، وطريقها الوحيد لاستمرار الصورة المبهرة التي كادت تتلاشى. أكثر من صديق كان يراها عن قرب ولا يعرفها إلا حينما تستوقفه هي: أنا زوزو.
زوزو كانت صورتها الكاملة الناضجة؛ الأنثى التي تجمع القوة الحسية الطاغية والقدرة على انتزاع الاحترام العقلي. وهي مثل الأساطير القديمة؛ نصفها راقصة ونصفها الآخر فتاة جامعية تخترق الصفوة لتثبت نفسها. تجمع بين الماضي والمستقبل من ناحية وبين الجارية والمرأة الحديثة من ناحية أخرى.
وكانت رسالتها على الموبايل أنا زوزو النوزو كونوزو، كأنها تذكر الجميع بصورتها الغائبة.
في فيلمها الأخير الراعي والنساء كانت الملامح أكثر وضوحًا وأقرب إلى الدور الذي لعبت فيه الأم التي غاب زوجها في السجن، وهي في جزيرة عزلتها دون رجل، تحبس رغبتها واشتياقها لعاطفة الرجال في صندوق مغلق في نفسها، وكلما مرت السنين ثقلت حمولة الصندوق، وغاص أكثر في النفس الوحيدة المنشغلة بابنتها التي تعيش على ذكريات بطولة الأب الخرافية، وعلى رومانسية عبد الحليم حافظ المعادلة لكل الجفاف المحيط سعاد كانت الأم التي دخلت حسبة تناقضات مذهلة عندما ظهر الرجل فجأة الرجل هذه المرة القادمة ليحيي ذكرى الأب الذي مات في السجن ليشغل للحظات موقعًا ملحقًا به، لكنه سرعان ما يحتل موقعه الخاص ربما كان البديل أو المنفرد وحده بمشاعر العمة التي لم تعرف الرجال قط، لعبت يسرا دور العمة المحرومة من متعة الرجل، والتي تنافس الأم سعاد حسني على امتلاك هذا الرجل.
في هذا الفيلم بدت سعاد في هذا الدور كأنها تصارع العمر والسنين الثقيلة كي تحافظ لجمالها وقوتها القديمة على موقع ومساحة تكاد تضيع منها، وفي الكواليس أدركت سعاد حسني الصراع الذي كان لا بد وأن تخوضه في الواقع والسينما في آن واحد؛ كانت سعاد تتألم وهي ترى نفسها منسحبة من مركز الاهتمام لتصبح مجرد ذكرى قديمة، هي في الفيلم مجرد مرآة ضمن المرايا الثلاث للرغبات المحمومة بين الرجل والنساء. وفي الواقع هي عطر قديم معتق لأنثى يتكلم عنها الرجال أكثر مما يحبونها بالفعل.
كان صلاح جاهين أهم رجل في حياة سعاد حسني، على الرغم من أنه لم يتزوجها، ولم تصل علاقتهما، كما يؤكد المقربون منهما، إلى حدود الجنس، لكنه الوحيد الذي لعب معها دور الرجل الكبير ببراعة، امتص قلقها الحارق، واستوعب جنونها، وقادها بمهارة إلى عالم سحري يمنح شخصيتها المتوترة الشرعية والأمان النسبي، والأهم أنه منحها بيتًا معنويًّا ضاع منها في سنوات الطفولة الأولى، ولم تحققه بالمعنى الكامل في خمس حكايات زواج خرجت منها دون عائلة أو رجل أو طفل يشعرها بالتحقق، أو بجدوى الاستمرار في الحياة بعد انسحاب الأضواء وترهل ملامح الوجه الصبوح الطازج.
كان الزواج الأول عابرًا؛ التقت بصلاح شقيق كمال كريم مدير التصوير المعروف، على شاطئ الإسكندرية في أثناء تصوير فيلم ليلة الزفاف، وفي المسافة بين أضواء الكاميرات وبين أضواء ملهى سانتا لوتشيا على كورنيش الإسكندرية الذي كانت ترقص فيه رقصة امتزجت فيها مشاعر الألم بالشوق إلى حب خاطف مجنون يسرقها في غمضة عين.
انتهت اللحظة سريعًا، لأن سعاد اكتشفت أن صلاح كريم يريد أن يعبر بها من موقع مساعد مدير التصوير إلى مرتبة المخرج السينمائي، على الرغم من أنها حاولت إلا أن اكتشافها فجر العلاقة التي لم يكن يعرفها سوى الأصدقاء فقط.
حكاية زواجها الثالث من زكي فطين عبد الوهاب مشابهة إلى حد كبير؛ فاللقاء كان في الاستديو في أثناء تصوير أهل القمة، والبطل كان مساعدًا للمخرج ويتمتع بنوع من الموهبة الخاصة التي تجمع بين السينما والرغبة في الابتعاد عن الضجيج.
لكن الفارق الكبير هنا هو أن زكي لم يكن يطمع في العبور على جسر سعاد إلى نجومية المخرجين، وربما كانت النهاية أكثر درامية لأنها جاءت عبر ليلى مراد أم زكي والمثل الأعلى لسعاد حسني في التمثيل والأنوثة، اختارت ليلى مراد الانسحاب وحجب صورتها عن جماهير عشقوا وجهها المتألق وعوضها عن كل هذا ولديها من فطين عبد الوهاب أحدهما هو زكي الذي كانت سعاد تريد تجديد قدرتها على الحياة معه.
المثير أن الزواج كان سريًّا وانتهى بمكالمة صامتة بين سعاد حسني التي كانت في القاهرة وزكي الهارب من الصراع بين أمه وزوجته إلى باريس. وفي باريس أيضًا كانت الحكاية الرابعة البطل هذه المرة منتج سعودي اسمه محمد القزاز أنقذ فيلمها أفغانستان لماذا عام 1983، وفي مكان التصوير بالمغرب بدأت القصة التي كان بطلها شابًا في الخامسة والثلاثين تخرج في معهد السينما بالقاهرة، وعلى الرغم من اكتمال القصة بخير وتحدثت الصحف عن إتمام إجراءات الزواج في مسجد باريس، إلا أن الجميع تعامل معها على أنها مجرد إشاعة.
هكذا أيضا كانت حكايتها مع ماهر عواد بين الواقع والحكايات الصحفية، وحتى اللحظات الأخيرة من حياة سعاد حسني لم يكن أحد متأكدًا من حقيقة علاقتها بالسيناريست الشاب الذي التقت به بعد فيلمه الأول الأقزام قادمون عام 1978، وخاضت معه مغامرة فيلمه الثاني الدرجة الثالثة، وعند هذا الحد تحولت العلاقة بينهما إلى إشاعة تقترب من الحقيقة، وفي أثناء رحلتها الطويلة للعلاج في باريس ولندن لم يسمع أصدقاء سعاد حسني اسم ماهر عواد إلا عندما تحتاج إلى أموال فتطلب منه أن يذهب إلى البنك ويصرف لها إحدى الودائع التي كانت تحتفظ بها من أجرها عن فيلم أفغانستان لماذا؟
غير هذا لم يكن ماهر عواد يتصل بها أو يزورها في باريس أو لندن، وظل بالنسبة لكثيرين بطلاً مجهولاً لحكاية الزواج الأخيرة في حياة سعاد حسني!
لكن السر الأكبر المجهول في هذه الحكايات هو انفصالها عن علي بدرخان بعد زواج استمر لأكثر من 11 عامًا، والذي انتقلت معه من أدوار الفتاة الشقية إلى البطلة صاحبة الأدوار السياسية والمثقفة الباحثة عن دور أوسع. معه تعرفت سعاد على لقاءات اليسار والمثقفين بشكل مختلف هذه المرة. وتحولت معه من نجمة إلى آلة فكرية في يد علي بدرخان الذي أراد أن يكون بالنسبة لها مخرج عرائس ماريونت، وبتعبير ألطف أراد أن يكون هو بجماليون الذي يخلق محبوبته بالشكل الذي يريده.
في هذه الأثناء عرفت سعاد حسني توتر السياسة، حتى إنها أخفت في بيتها أحمد فؤاد نجم، وعرفت قلق الثقافة الذي جعلها لا ترضى عن كل تاريخها السينمائي، لكنهما وصلا إلى الحافة الخطرة عندما فشلت في إنجاب أطفال؛ فانفجرت العلاقة بشكل مفاجئ في مطلع العام 1981 في أول إشارة إنذار تلقتها سعاد من الحياة بأنها لم تعد قادرة على خلق بيت بالمعنى الذي كانت تحلم به، وظلت تشعر بالتوازن في بيت الرجل الكبير صلاح جاهين حتى غادر الحياة بطريقة مربكة قبل أن يكمل عامه السابع والخمسين، وكأن هذه النهاية كانت البروفة النهائية لما حدث لسعاد ليلة 22 يونيو 2001 وهى تتجاوز السابعة والخمسين بعامين فقط.
1
السيرة العائلية
“هل هي سعاد حسني؟”. من الصفحة الأولى في رواية “أرتيست” ستكتشف أن صورة سعاد حسني موجودة بقوة. صورتها، أو روحها بمعنى أدق، تطل من بين السطور وتداعب الخيال الذي رسم ملامح حياة أشهر نجمة سينما عربية. هل هي سعاد حسني؟ يقفز السؤال ويهدد بتحويل الرواية إلى مجرد محاولة لكتابة سيرة سعاد حسني بشكل لا يثير مشكلات قانونية للمؤلفة أو لدار النشر؛ بخاصة أن عائلة سعاد حسني (وغيرها من عائلات مشاهير الفن) تطارد كل من يفكر في الاقتراب أو التصوير مطاردة تبدو هيستيرية.. وكأن العائلة توزع سيرة موحدة للنجم ممنوع الخروج عنها. وهي ظاهرة مثيرة للتأمل. السيرة العائلية، العائلة تريد سيرة مثالية للنجم. سيرة ابن العائلة المثالي.. قريب الشبه من محترفي مسابقات أوائل الطلبة.. هؤلاء الذين يذاكرون ليس من أجل متعة المعرفة بل من أجل الحصول على رضا وإعجاب الوالدين والمدرسين وكل طابور أولياء الأمور (حتى الرئيس). أغلب هؤلاء يقابلون الفشل الكبير في حياتهم الشخصية.. والحياة العامة.. لكن هذا لا يهم العائلة المهم أن يكون الابن عاش ومات على كتالوج الحياة السعيدة. هكذا تعترض عائلة أسمهان على من يرسمها في صورة العاشقة الغامضة المغرمة باللعب مع شخصيات تعيش على حافة الخطر، وتحذف من سيرتها الحكايات المثيرة عن علاقتها بالمخابرات المسؤولة عن لغز موتها المحير حتى الآن. وهو لغز شبيه بلغز موت سعاد حسني. ويبدو بعيدًا عن الوقائع والحقيقة الضائعة نهاية منطقية لحياة كانت أقرب إلى واحدة من تراجيديات كبرى تجسد صراع الإنسان مع الأقدار والمصائر القاسية. ربما تكون الحكايات عن أسمهان وسعاد حسني من صنع خيال مغرم بمتابعة سير النجوم.. وهما في الحقيقة آلهة العصر الحديث.. آلهة نكتشف معهم أجزاء خفية من حياتنا.. نعشقهم ونلعنهم.. ننام على صورهم ونعيش وداخلنا صورهم دون استئذان.
2
أسطوة الرغبات
النجم ليس فقط ابنًا مثاليًّا لعائلة هادئة. أقصد طبعًا نوعية فريدة من نجوم ونجمات تتجاوز مساحة النجومية حدود الشهرة في عالم أفلام السينما أو برامج التليفزيون، إلى حافة تلمس أعماق غامضة لجمهور واسع، لا يتأثر فقط بموهبة النجم في أفلام أو برامج.. بل بحياة تتداخل تفاصيلها.. أو الخيال الذي يضيف اليها أحداثًا ووقائع ربما لم تحدث.. كل هذا يلمس الشخص العادي فيحتفظ به في أدراج خاصة من ذاكرته المعقدة. هذه الأنواع من النجوم تسمى أساطير. وسعاد حسني واحدة، بل هي أهم هذه الأساطير في الخمسين سنة الأخيرة. سعاد حسني ضربت كل التوقعات.. خرجت عن كل قيد يكبل حريتها.. هي القلقة المتوترة بين أقصى تبتل القديسات.. وأقصى تطرف المتحررات.. سعاد التي عاشت على الحافة.. وفي قلب مغامرة بحث غامضة عن شيء مجهول في روحها.. هذه الأنثى الطاغية الباحثة عن الحب.. والنجمة التي راحت ضحية بحثها عن صورتها خالدة النضارة. هي غير سعاد التي تحاصرها روايات العائلة. سعاد ليست ملك عائلة تحبها.. بل ملك جمهور لم يهتم يومًا بوضعها كالتماثيل في المتاحف.. استمتعت في حياتها وبعد رحيلها المثير بحب الجمهور، وبصعودها إلى مصاف النجمة الأولى. وهي الدرجة المحجوزة لنوعية خاصة جدًا من فنانين يختزلون حياتهم كلما اقتربوا من هذه الدرجة ليتحولوا بالتدريج إلى “كائنات مقدسة” لا تخطئ.. ولا تمارس حياة تشبه البشر العاديين. أم كلثوم على سبيل المثال بذلت جهدًا خارقًا في إتلاف صورة التقطها لها مصور صحفي على الشاطئ وهي ترتدي مايوه أسود، وكانت الصحافة تحرص على أن تصفها دائمًا بأنها لا تدخن ولا تسرف في شيء، وكذلك فاتن حمامة تركز الصحف على قرارها بالامتناع عن القبلات الساخنة واعتبار ذلك “مثالاً أخلاقيًّا نادرًا”. كان على النجم صياغة صورته كما يفعل الزعماء بلا رتوش ولا هفوات ولا حركات طائشة ولا رغبات ولا ألم زائد أو فرحة غامرة. مقاييس دقيقة لصناعة مثال (أو تمثال) مطلق. سعاد حسني خدشت هذه الصورة عاشت حياتها على الشاشة وخارجها.. بالطول والعرض.. كانت أمام الكاميرا سمكة في البحر.. وفي الحياة طفلة شقية.. تبحث عن رغبات مجنونة وتلهث وراء إشباع حرمان أبدي.. ورغم أن أخبار مغامراتها العاطفية وزيجاتها والشائعات حولها كانت حاضرة على الدوام في صورتها أمام الجمهور فإنها لم تخسر موقع النجمة التي عبرت كما لم تعبر غيرها عن شقاء وعذاب وفرح وتألق المرأة. لم تكن سعاد حسني تؤدي دورًا في الحياة، بل كانت تشعر بحرية وتكسر “الدور المكتوب”، وتخرج عن النص الاجتماعي والفني تغني وترقص وتحب وتشتهي.. أحبت التمثيل حتى الثمالة، خسرت بسببه الحلم بحياة هادئة ومشروع بيت مستقر وظل رجل وغريزة أمومة جارفة. ظلت سعاد حسني على الشاشة جسدًا حرًا يفسح مساحة واسعة للروح تنطلق وتملأ المسافة بين السينما والواقع بشحنات نارية.. هذه الشحنات تفسد كل محاولات ترويض الطفل الرومانسي النائم بداخلها.
القاهرة 11 يونيو 1987
سعاد حسني تصعد إلى هضبة الهرم بفستانها الأبيض الذي تشبه فيه أميرات الحواديت، تكاد تطير مع النسمات الهاربة من جحيم شهر الحر الخانق والأحزان القاتلة في مصر، على قمة الهضبة وخلفها الصحراء الشاسعة الممتدة إلى ما لا نهاية، وهو على ظهر حصان أبيض يكاد يطير هو الآخر، يحتضنها شاب أسمر بشعر مجعد وبنطلون جينز وحقيبة جلد سوداء وعينين غائرتين بنظرة مندهشة.
هذا المشهد لم يتم، على الرغم من أن كل تفاصيله كادت تكتمل، فالفارس الذي تمنت سعاد أن يخطفها على الحصان الأبيض هو ماهر عواد زوجها الأخير، وشهدت الليلة بالفعل حفلة صغيرة بمناسبة زواجهما الذي كان مفاجأة للجميع، لكن صورة الزفاف كما حلمت بها سعاد حسني لم تتم، ولم تكن تلك الليلة أسطورة مثل الأساطير التي يقال فيها إن البطل خطف حبيبته على صهوة جواده وركض بعيدًا.
على العكس تمامًا بدأت سعاد حسني أول مرة قصة زواج كانت فيها “ست بيت” أكثر من أي شيء آخر، هذا ما قالته أكثر من مرة، وربما كان هذا أهم ما تحلم به في تلك الليلة؛ أن تستطيع صنع بيت بالمعنى الذي ضاع منها منذ أن كانت طفلة في العاشرة من عمرها، وتتصور أنها تستطيع الآن أن تمسك به وهي امرأة ناضجة ذاقت لذة الحياة بنشوتها وقسوتها.
في باريس ولندن وفي فترات الاستراحة بين جولات العلاج كان سعاد تتجول بين فتارين المحلات المشهورة، ويفاجأ الأصدقاء بأنها دخلت لتشترى شيئًا يخص البيت، عصَّارة أو مبشرة، أو أدوات مطبخ، وتحكي وهي تحمل هذه الأشياء في يدها عن تفاصيل البيت الجديد.
لم يكن أحد من الأصدقاء يتخيل أن ماهر عواد سيكون الملك في هذا البيت، ربما لأنه منذ الإعلان عن زواجهما لم يرهما أحد مجتمعين، وحتى في أثناء تصوير الدرجة الثالثة الفيلم الذي جمعهما معًا كمؤلف ونجمة، رفض ماهر أن يظهر في صورة لهما معًا.
لأنه خجول جدًا ولا يحب الأضواء، ولا يحب أن يكون محور اهتمام الإعلام، هكذا كانت سعاد تجيب عن الأسئلة التي تلاحقها عن اختفاء ماهر عواد، أما الأسئلة عن سر زواجها من هذا الشاب الغامض، من وجهة نظر كثيرين، كانت تختصر الإجابة عنها بحكاية عمومية بلا تفاصيل “قابلته مصادفة في التليفزيون في أثناء تصوير حلقات هو وهي، وأعجبني كلامه عن السينما الجديدة التي يحلم بها والتي كان قد بدأ الطريق إليها فيلمه الأول الأقزام قادمون”.
لم تخرج حكايات سعاد حسني للصحافة عن ماهر عواد عن الإعجاب باللون السينمائي الجديد الذي يمكن أن يكون بديلاً عن كتابة صلاح جاهين.
هل كان ماهر مجرد بديل فني بطريقة مربكة كأنه طفل اختفى فجأة ليثير قلق أبويه الشرسين؟!
كان جاهين بالنسبة لسعاد طفلاً مدهشًا يسرِّب البهجة حتى في مشهد موته.
وربما كانت تسأل في أيامها الأخيرة كيف استطاع أن يضحك على العالم ويخرج لسانه لكل من اعتبره تكيف مع هزيمة أحلامه.
وهو من ناحيته كان يعلمها مهارة الهروب من السجون الأنيقة، يضحك ضحكته الصاخبة، ويتسلل من وراء الأسوار إلى شارع يبدأ فيه مغامرة جديدة يكسر فيها توقعات الجميع، ويلبي نداءً غامضًا يسير خلف إيقاعاته البدائية، يبحث عن أشياء مستحيلة عن نفسه ربما وهذا أول خيط في حكاية العشق النادر بين الشاعر صلاح جاهين والنجمة سعاد حسني؛ كلاهما يريد أن يكون نفسه، أن يتخلص من كل حمولة الزيف الاجتماعي ليصبح خفيفًا رشيقًا.
استمعت سعاد حسني بحب الجمهور، وبصعودها إلى مصاف النجمة الأولى، وهي الدرجة المحجوزة لنوعية خاصة جدًا من فنانين يختزلون حياتهم كلما اقتربوا من هذه الدرجة ليتحولوا بالتدريج إلى كائنات مقدسة لا تخطئ ولا تمارس حياة تشبه البشر العاديين..
أم كلثوم مثلاً بذلت جهدًا خارقًا في إتلاف صورة التقطها لها مصور صحفي عام 1929 على الشاطئ وهي ترتدي مايوه أسود، وكانت الصحافة تحرص على أن تصفها دائمًا بأنها لا تدخن ولا تسرف في شيء، وكذلك فاتن حمامة تركز الصحف على قرارها بالامتناع عن القبلات الساخنة، واعتبار ذلك مثالاً أخلاقيًّا نادرًا.
هكذا كان على النجم صياغة صورته كما يفعل الزعماء، بلا رتوش ولا هفوات ولا حركات زائدة ولا رغبات ولا ألم زائد أو فرحة غامرة مقاييس دقيقة لصناعة مثال مطلق.
خدشت سعاد حسني هذه الصورة؛ كانت نجمًا يمارس حياته على الشاشة وفي المجتمع، كانت زيجاتها والشائعات حولها حاضرة على الدوام في صورتها أمام الجمهور، إلا أنها لم تخسر موقع النجمة التي عبرت كما لم تعبر غيرها عن شقاء وعذاب وفرح وتألق المرأة.
لم تكن سعاد حسني تؤدي دورًا في الحياة، بل كانت تشعر بحرية وتكسر الدور المكتوب تخرج عن النص الاجتماعي والفني؛ تغني وترقص وتحب وتشتهي وترغب. ظلت سعاد حسني على الشاشة جسدًا حرًّا يفسح مساحة واسعة للروح تنطلق وتملأ المسافة بين السينما والواقع بشحنات نارية.
هذه الشحنات تفسد كل محاولات ترويض الطفل الرومانسي النائم بداخلها، وهذا ما جعل قصتها مع ماهر عواد تعبر في حياتها كوميض فلاش، حافظت عليه، على الرغم من أن تأثيره انتهى على ما يبدو بعد قليل جدًا من بدايته.
ليس صحيحًا أن علاقة سعاد حسني وماهر عواد محاولة فاشلة لإعادة أسطورة المؤلف آرثر ميلر والنجمة مارلين مونرو؛ لأن هذه العلاقة كانت نتاج زمن الستينيات الخاص، ولأن سعاد حسني في مرحلة من النضج لا تحتاج معها إلى بجماليون جديد يشكلها على هواه، كان يمكن أن يحدث هذا قبل عشرين عامًا عندما كانت أسطورة آرثر ومارلين تلعب برأس مجانين الثورة الثقافية في الستينيات، الزمن الذي حدثت فيه الحكاية التي حكتها مؤخرًا صافيناز كاظم عن انسحاب الشاعر صلاح عبد الصبور من حياة سعاد حسني لأنه خاف أن يصبح مجرد آرثر ميلر بجانب مارلين مونرو..
هل كانت سعاد حسني تبحث عن آرثر ميلر؟!
على الأقل لم يحدث هذا مع ماهر عواد الذي كان بالنسبة إليها وفي اللحظة التي قابلته فيها في استويوهات التليفزيون أقرب إلى نموذج زوج هادئ يعبر عن موهبته بعيدًا عن الاستعراضات، رومانسي يحلم بسينما جديدة، يمزج الأفكار بالحب، والأهم أنه يلاعب الطفل النائم في داخلها.
ويمكننا أن نضيف إلى هذه المواصفات ملحوظة إحدى صديقات سعاد التي فسَّرت غرامها في السنوات الأخيرة بالزواج من رجال أصغر منها على أنها محاولة للجمع بين الزوج والطفل، بعد أن عرفت من الأطباء في أوروبا أن عمليات الإجهاض التي أجرتها في بداية حياتها، في أثناء زواجها الأول من صلاح كريم، كانت السبب في عدم قدرتها على الإنجاب مرة أخرى، عرفت ذلك بعد محاولات الأطباء في مصر إنقاذ حملها من بدرخان.
كان فشل الدرجة الثالثة كان أول صدمة للحلم الرومانسي، في ليلة الهرم هل شعرت أن ماهر لا يمتلك الحصان الذي يعبر بها أزمة منتصف العمر في السينما، أم أن تفسيرها كان أقسى واعتبرته شريكًا في جريمة إلقاء تاريخها الفني في الزبالة؟ كما وصفت في حوارها مع مفيد فوزي أحاسيسها بعد الفيلم الذي جعلها تشك في فنها؛ هل أنا سعاد حسني أكذوبة؟
الأمر الذي دفعها إلى عيادة الطبيب النفسي الشهير مصطفى زيور لأنها تعبت من حالة الإحباط والاكتئاب التي لازمتها فترة طويلة، وتعبت من البكاء المستمر، ومن ضيق النفس ومن الكوابيس والأحلام الغريبة التي كانت ترى فيها نفسها وهي تغرق، أو وهي تسقط من أعلى عمارة كبيرة؟
كانت المرأة الساذجة التي تعرف الكثير عن الحياة.
وعلى الرغم من أنها وصلت شاطئ الأربعينيات من العمر فإنها ما تزال ترى نفسها بنت أربعتاشر بالضفائر والأحلام الغامضة والقلق العنيف. لم يكن الدرجة الثالثة أول فيلم يفشل لها كما يتصور الناس، لكنه الفشل الذي كشف عن الصراع بين الطفل بداخلها وبين الزمن الذي أصبح أصعب، وأن علاقتها مع ماهر عواد خسرت أول خطوة. صنع هذا الخوف الفجوة التي جعلت المحيطين بسعاد حسني يعتقدون أن ماهر انسحب من حياتها، خصوصًا وأنه لم يسافر معها في رحلات العلاج، وتحولت سيرته إلى ضمير الغائب فقط، واقتصرت مهمته على إدارة شؤون سعاد الزوجة العلاقة التي بدأت بحلم رومانسي ومرت بتجربة تراجيدية قاومت النهاية الكلاسيكية بفتور العلاقة بين الزوجين وشهدت نهاية غامضة تحولت إلى مادة للتحري الصحفي.
القاهرة.. مساء ٢ مارس 1959
سعاد حسني صبية في السابعة عشرة تعبر الشارع، بملامحها التي لم تتخلص من الطفولة وإحساسها الغامض بأنثى تكاد تقفز من خلف الملامح الخجولة الناعمة التي بدت لكثيرين من أصحاب النظرة العادية منكسرة.. قلبها يرتجف وأحاسيسها مشبعة بمزيج من الفرحة والخوف..
وصلت إلى باب سينما ميامي التي تشعر بأنها تراها للمرة الأولى على الرغم من أنها دخلت من الباب نفسه عشرات المرات، فوجئت بالمئات الذين يقفون على الباب ينتظرون حسن ونعيمة.. هل تقول لهم إنها نعيمة، أم تسير على أطراف أصابعها كي لا يراها أحد؟ حتى فوجئت بالرجل ويقول لها التذكرة يا مدموازيل ارتبكت ووقفت في حرج..
هل تقول له أنا نعيمة بطلة الفيلم..
ولماذا لا يعرف من نفسه؟
ولكن كيف يعرف؟
ثوان مرت كالدهر هكذا حكت سعاد عن شعورها بالصدمة، لم تكن هذه ه الصورة التي رسمتها في خيالي لحفل الافتتاح، لقد أفسد هذا الرجل إحساسي بهذه اللحظة النادرة، وأفقت من شرودي على صوت أحد موظفي شركة بركات يرحب بي، ثم جاء الأستاذ محمد عبد الوهاب الذي كان شريكًا في إنتاج الفيلم يعاقب موظف باب الدخول ويقول له أمامي: إخص عليك.. أنت مش عارف دي مين؟! رحب بي الأستاذ عبد الوهاب مما خفف عنى الإحساس السيئ الذي صدمني به موظف السينما. داخل القاعة لم أشاهد الفيلم، كنت أفتش في وجوه كل متفرج من الجالسين عن رد الفعل وصوت دقات قلبي يطغى على صوت شريط الصوت، وعندما ظهرت كلمة النهاية وصفق الجمهور والتف حولي لتهنئتي تركت جسدي بينهم في القاعة التي شهدت ميلادي وحلقت بروحي ومشاعري في الفضاء البعيد. كنت أشعر أنني أطير وأصرخ من كل قلبي صرخات تملأ الكون. صرخات تعلن عن وجودي في هذا العالم. صرخات مثل كل الصرخات الخالدة التي يطلقها كل مولود جديد يقول من خلالها أنا هنا. هكذا كانت صرخات الفرح داخلي تعلن عن ميلادي؛ عن سعاد حسني الجديدة التي طالما تمنيتها وناديتها ورقصت لها في المرآة علها ترضى.
هذه هي اللحظة الأولى التي يطير يها جسد سعاد حسني خارج جدران البيت التي تخنقها. تركت سعاد جسدها يذوب في حركته الجديدة التي لم يتعود عليها من قبل إنها حركة خارج الدائرة التي عرفتها أو كانت تساق إليها صبية تتزوج من رجل عجوز حسب السيناريو الذي رسمه الأب، وكاد أن يتم بالفعل لولا مصادفة مثل التي دفعت زوج أمها المغرم بعالم الفن والثقافة للدخول إلى مكتب عبد الرحمن الخميسي ليعيد معه أيامًا انقطعت، ويدعوه للغداء في بيته، وهناك يلمح الخميسي الفتاة المندمجة في غسيل ملابسها، ويلفت نظرة جمالها الطازج وملاحتها المبهجة وهو العاشق للنساء إلى حد الإدمان.
في ليلة افتتاح حسن ونعيمة انسحب الخميسي إلى الظلام؛ هذه هي اللحظة الأولى تقريبًا التي شعر فيها أنه لا يستطيع مقاومة حبها وهو الشاعر والسياسي المغامر والصعلوك والرومانتيكي والبوهيمي، وهو الوحيد وقتها الذي كان يرى في سعاد حسني فاتنة الفاتنات المرأة المثيرة المتوحشة التي تعيش في جسد واحد مع الطفلة الشقية والحزينة.
هي الصبية والأنثى في صغيرة على الحب، وهي نادية ومنى كما رسمها يوسف السباعي، وهي بطلة بئر الحرمان التي ذهبت مع إحسان عبد القدوس إلى الطبيب النفسي أحمد عكاشة ليشرح لها كيف تعيش الفاضلة والعاهرة في جسد واحد.
ربما احبها الخميسي، لكنها رفضت فيه الحبيب؛ إنه أقرب إلى صانع معجزات أو ساحر حول الفن بالنسبة إليها من قدر تسير إليه إلى اختيار يحررها من الحياة الضيقة كانت تعتقد أن أفضل ما يمكن أن تحققه هو إعادة السير على خطى نجاة أختها، التي كان الغناء بالنسب لها ليس مجرد موهبة بل حرفة تدر على العائلة مالاً يحارب الأب من أجل استمراره، حتى إنه كان يجبر نجاة على شرب الخل حتى لا يكبر جسمها وتظل صغيرة لكل تحافظ على موقعها في سوق الغناء والذي نزلت للعمل فيه في سن مبكرة، وهكذا أيضا كانت سعاد تعد للمشوار نفسه، فبدأت الغناء في الإذاعة وعمرها ثلاث سنوات..
المفارقة أنه في عام 1967 فكر عز الدين ذو الفقار في الجمع بين نجاة الصغيرة وسعاد حسني فيلم واحد عن الرواية الفرنسية المشهورة اليتيمتان، ولكنه لم يكمل مشروعه. وبعد سنوات كان إحسان عبد القدوس في مكتبه بروز اليوسف يحكي لسعاد ونجاة وفي ثلاث ساعات كاملة القصة التي أراد المنتج رمسيس نجيب تحويلها إلى فيلم بعنوان كروان يجمعهما معًا؛ تلعب فيه نجاة دور الأخت التي تعمل مطربة، بينما سعاد تمثل دورها الطبيعي في الحياة الأخت الممثلة.
هل كانت هذه محاولة سينمائية لإعادة أسطورة البيت الذي أطلت منه سعاد على ميدان الأوبرا بجوار جامع الكخيا، وعلى مسافة قصيرة من كازينو بديعة ودار الأوبرا. وكان محمد حسني البابا غريبًا لا يستطيع الحصول لنفسه أو لأولاده على الجنسية المصرية، على الرغم أنه ترك دكانه في سوق الحميدية بدمشق وحضر إلى أم الدنيا تسبقه شهرته في عالم الخطوط يتعامل مع فئة وحروفه بقدسية مخيفة، وفي الوقت نفسه تلعب الموهبة المذهلة برأسه أحيانًا، فيراهن الأصدقاء على مواهبه ويدخل حجرته ويخرج بعد أقل من ساعة ومعه ورقتان من فئة العشرة جنيهات، ويسأل من يستطيع أن يحدد الأصل من التقليد؟!
لا يستطيع أحد فالمهارة ليست مجرد صنعة، بل ذكاء فنان يمكن أن يلهو بالقوانين العادية ويسخر منها أيضًا.
في هذا المناخ المشحون بالمتناقضات والتربية المتطرفة لم تعرف سعاد الطفولة المرتبة، وقادتها أحاسيسها إلى فكرة الهروب الدائم تهرب من الصراع بين بيتين إلى حب ابن الجيران ومن الأقدار المرسومة إلى الرقص. كانت ترقص أمام المرآة، وفي الحفلات العائلية تتخلص من الشحنات غير المفهومة التي تتلقاها يوميًّا من العالم المحيط بها بالحركة على إيقاع الموسيقى الذي يدفع الجسد في لحظة منفلتة للتعبير عن رغباته وغرائزه دون احترام كبير للتقاليد المهذبة الخانقة التي تدفع البنت إلى كتم رغباتها كي لا تتهم بالفجور. الرقص هنا لغة تعبير حسية اختارتها المراهقة الصغيرة بعفوية لتعبر عن ذاتها التائهة وسط زحام الرغبات فوضى المشاعر في بيت العائلة.
بعد سنوات طويلة، وفي 1972 عندما مثلت مع يوسف شاهين فيلم الاختيار طلب منها ألا تكتم غرائزها، وتترك رغباتها تعبر عن نفسها من خلال النظرات والإيحاءات دون إدعاء رقة أو تهذيب مصطنع.
هذا ما كان تشبعه سعاد حسني في جمهورها من النساء؛ الذين حكي لي محمد خان أنهن كن يذهبن إلى حفلة الصباح ليشاهدوا فيلمها موعد على العشاء، وما تزال شعورهن ملفوفة على البوكليتات.
المدهش أن سعاد رأت جمالها باهتًا في حسن ونعيمة، ربما تقصد الجمال الفاخر الذي كانت تمثله نجمات السينما في ذلك الوقت، وربما تقصد الجمال الذي بحثت عنه في المكياج الثقيل والرموش الاصطناعية في أفلامها التالية مباشرة لفيلم اكتشافها. وربما كانت تشعر بأن تحت سطحها الخجول الجمال المتوحش الذي أحبه الخميسي.
لم تكن وقتها على استعداد لقبول فكرة العودة إلى بيت، ومع رجل يكبرها بسنوات تراه الأب الفني وليس فتى الأحلام الذي تكلم النجوم من أجله كما فعلت بعد 9 سنوات، عندما قابلت على بدرخان.
الخميسي كان رمزا لرجولة مخيفة تعيد إلى سعاد ذكرى الأب المربكة.
وكانت هي كانت تبحث عن رجولة ناعمة شابة تسرقها من العالم القديم تمامًا لكي تصل معها إلى حالة الإشباع العاطفي الذي يمكن أن يعوضها عن الحرمان، ويقودها إلى معرفة جديدة تمامًا.
هكذا بدأت مع علي بدرخان بتعلم السباحة في أثناء التصوير فيلم نادية، مع أبيه المخرج الراحل أحمد بدرخان. كان علي عائدًا من حكاية مع النجمة الجديدة وقتها نجلاء فتحي وأحلامه في السينما تمزج الفن بالموقف السياسي والثقافة الموجهة بشكل واضح تمامًا.
الرومانسية في الفن والسياسة أبهرت سعاد التي يدهشها الرجل المثقف وتتوقع عنده مزيجًا من المعرفة يتسرب مع المشاعر والأحاسيس، كانت تتصور أن هذا يدعم وجودها في عالم الفن الذي اعتبرته منذ فيلمها الأول المكان الذي عوضها عن كل أماكنها السابقة.
لكنها كانت تشعر طول حياتها في الفن بأنها تقف في الهواء دون تحديد. كان الرجل هنا السند المعنوي والنفسي تبحث معه عن إشباع عاطفي لم تصل إليه قط على ما يبدو، وهو أيضًا المساحة الخاص التي يمكنها أن تصنع معه مكانًا آخر أكثر استقرارًا في البيت والعائلة.
لم يكن هذا الرجل هو يوسف السباعي أو صلاح عبد الصبور الذي خاف أن يكون آرثر ميلر مصري.
ولم تكن هي مارلين مونرو التي تخضع لابتزاز الرجل الكبير في الدولة لتكون إحدى محظياته، يومها أنقذها منه الخميسي الذي ظل يلعب بعد رفض الحب دور الأب من بعيد. سأل الخميسي نفسه عندما كتب قصته مع سعاد حسني أسئلة عنيفة؛ هل كان من الأفضل لسعاد ذاتها من الناحية الشخصية لو ظلت في دائرة الظل تعيش أم كان من الأحسن لها أن تخرج من الظل كما حدث وأن تحيا تحت الأضواء نجمة ساطعة؟ أتراني أسأت إلى سعاد حين فتحت أمامها باب النجوم أم تراني أحسنت؟!
لم يسأل علي بدرخان نفسه هذه الأسئلة، على الرغم من أنه حاول أن يلعب معها لعبة بجماليون، ويخلقها من جديد تعامل معها على أنها دمية سيعيد تشكيلها على حسب ذوقه السينمائي والفكري، والغريب أنهما لم ينفصلا لأن سعاد تمردت على هذا التصور، بل ظلت تتعامل معه على أنه جامعة كاملة، ولا بسبب أنه أراد أن يكسر في أفلامها معه فكرة النجومية وجعلها في أفلامها تبدو ممثلة أكثر من كونها نجمة. كان سبب انفصالهما عدم قدرتها على إنجاب الأطفال.
لم يعد مهما بعد 11 عامًا من زواج كان أول شروطه أن تترك سعاد حسني شقتها الحجرتين وصالة في شارع يحيى إبراهيم بالزمالك وتعيش معه في فيلا بدرخان بجوار استوديو الأهرام بالهرم؛ وهو شرط يعنى أن تترك عالمها لتعيش في عالمه هو لم يكن لديها ما يمنع لأنها ربما كانت تبحث عن الحياة في ظل عائلة كبيرة مستقرة، كما أن عالم السياسة والثقافة الذي غرق فيه بدرخان وقتها كان مثيرًا ويمنح سعاد فيه أنها في كل دور تصنع رسالة إلى الجمهور.
في تلك الفترة ارتبكت علاقة النجمة العفوية يصاحبه الدور الموجة حتى أنها رفضت في البداية فيلما خفيفًا مثل غريب في بيتي على أساس أنه لا يحمل رسالة.
لكن بدرخان الرومانسي دخل في أزمات في عمله السينمائي، وأصبح ينتظر بيتًا وطفلاً، كما أن النجمة الرشيقة بدأت في الابتعاد عن عمر الزهور إلى العطور المعتقة، ولم تعد قادرة على أن تخلع حذاءها في ليلة عيد ميلادها وتسبق رفاقها في تلك الليلة إلى فندق هيلتون، كان ذلك بعد أن انتهت حفلة حضرها في بيتها نجوم الأدب والفن، وبعد مغادرة الأغلبية رأت أنها تحتاج هواءً وسهرًا جديدًا فجرت حافية من الزمالك إلى وسط البلد في ساعات الفجر الأولى.
لم تعد الطفلة بداخلها تكفي؛ كان لا بد أن تخرج الطفلة منها لتعيد إليها التوازن الذي اختل ذات ليلة في ضباب لندن وابتلعها إلى الأبد.
3
البحث عن أب مفقود
ربما تكون سلمى حسن بطلة رواية “أرتيست” هي سعاد حسني.. وربما لا تكون.. هي لا تشبه سعاد حسني فقط في إيقاع الاسم، بل في ملامح الحياة وتفاصيل الشخصية الفريدة “إنها.. سعاد حسني”. تسمع هذه الصيحة في الرواية على لسان شخصيات يرون سلمى للمرة الأولى. سلمى هي “سوسو”؛ وهو لقب تدليل سعاد حسني المنتشر بين دائرة الأصدقاء الأوسع. ولا أعرف إن كان أحد من أصدقاء أو المقربين لسعاد حسني كان يدللها باسم “سالومي”. كما كان عشاق سلمى في الرواية ينادونها.. إلا أن سالومي أسطورة أخرى لامرأة ترقص عارية في دائرة النار.. تسير على حبل رفيع من تناقضات الخير والشر.. الاستقرار والخطر.. الحب والعذاب. وهذه لعبة الرواية التي قد يلخصها سؤال وضعته دار النشر على الغلاف الخلفي: “من هي الفنانة سلمى حسن التي تدور فصول الرواية جميعها حولها.. هل يمكن أن تكون هي نفسها الفنانة الراحلة سعاد حسني التي لا يزال لغز موتها محيرًا ومدوخًا”.
لا تبوح الرواية بتفاصيل كثيرة عن نسب “سلمى حسن”. ثمة أوجه شبه كثيرة بين سيرة سلمى حسن وسعاد حسني. لكن الرواية تصر على إبقاء الاحتمالات كلها مفتوحة، وتبقى هويتها الأصلية عرضة لكثير من الجدل. وتكتفي فقط بتقصي بوليسي عن لغز موتها. هل ماتت حقًّا، أم انتحرت، أم ربما دفعت إلى موت ظل غامضًا بما يشبه حالة غريبة بين موت وقتل غامض. لكن الرواية تستحضر “بأسلوب بوليسي مثير، شخصية أخرى تسميها “مس إكس”.. وهي شخصية غامضة أيضًا وجدلية.. ربما تكون صحفية لكنها تملك كثيرًا من الخفايا والأسرار عن حياة الفنانة الغامضة “سلمى حسن” ربما تساعد على معرفة “لغز” موتها.. ولغز حياتها نفسها. هل سلمى حسن هي سعاد حسني؟ نوستالجيا العصر الذهبي. هاديا سعيد مؤلفة الرواية أديبة وصحفية مولودة في بيروت وتعيش الآن في لندن. “أرتيست” هي روايتها الثالثة بعد “بستان أسود” و”بستان أحمر”. ولها تجربة في بغداد كتبتها تحت عنوان “سنوات مع الخوف العراقي”. الرواية مشغولة بإحساس المحبة الغامرة للفن ونجومه وأماكنه. وهو إحساس نادر هذه الأيام؛ ندرة تكتشفها وأنت تتابع موجات الهجوم على الفن، وتوبة النجمات. موجات متخلفة تهب من صحراء قاحلة. ورغم أنني لا أقع في هوى الحنين إلى أزمنة سابقة، ولا أحب فكرة الزمن الجميل، أو العصر الذهبي فلم أشعر بالضيق طوال 358 صفحة تبحث عن أسرار سلمى حسن. من الصفحة الأولى لا تنكر المؤلفة وقوعها في هوى الماضي السعيد.. تهدي الرواية إلى “روح أزمنة الخمسينيات والستينيات الجميلة وروح الأمكنة في بيروت والقاهرة والإسكندرية.. وإلى روح السينما والأغنيات”. إهداء يهزك عاطفيًّا لأن كل هذه الأشياء: النجوم والمدن والفن تعيش لحظة انحسارها الآن. الرواية عن نجمة تعيش على حواف القلق لاكتشاف نفسها.. لتحرير روحها.. لكننا الآن نعيش فترة تحريم الخيال وتحجيب الروح.. وبدلاً من قلق فنان يقود المجتمع إلى مساحات أوسع من الحرية، يتحرك القلق الآن في اتجاه عكسي. قلق يرغب في التوافق مع المجتمع.. وصنع آلهة للعفة. قلق يتخذ دليله من رحلة رابعة العدوية. وحتى هذه يتم اختصارها في نقطة الوصول بلا تفاصيل للرحلة ومغامرتها ولذة الاكتشاف والانتقال من نقطة إلى نقطة. الرغبة في صنع آلهة للعفة لا تنفتح على الحياة. لكنها تروج لثقافة محافظة تتقصى في السر المتع التي تلعنها في العلن. هذه النظرة المغلقة السطحية هي الوجه الفني لظاهرة حجاب الطبقة الوسطى. التي يقابلها في نفس الوقت ظاهرة أخرى؛ هي الانفلات الكامل. الرغبة في الخروج من التقاليد البالية. نحن نعيش بين صراع الحجاب والتهتك. الانغلاق والانفلات. نعيش تلك اللحظة المرعبة دون نجمات مثل سعاد حسني أو سلمى حسن. أرتيست الزيتونة، أم سلمى حسن كانت “أرتيست” من الزيتونة (شارع كباريهات الدرجة الأولى في بيروت الستينيات). هذه واحدة من حكايات مثيرة عن الأم التي قالت لهم إنها أصلا من الإسكندرية وتاهت من عائلتها في بيروت، وعاشت حتى أصبحت أرتيست تزوجت من البودي جارد الذي يحمي الكباريه. رحلة الأم في الاتجاه المعاكس لفنانة مشهورة هي فاطمة اليوسف.. أو روز اليوسف التي عاشت مع عائلة مسيحية بعد موت عائلتها. وفي أثناء الهجرة من بيروت إلى أمريكا هربت، وعاشت بين الإسكندرية والقاهرة حتى أصبحت سيدة المسرح في مصر. ثم مؤسسة أحد أهم المؤسسات الصحفية. لكن أم سلمى لم تكن سوى أرتيست من الزيتونة. عاشت عائلتها في كوخ فقير على هامش مدينة صاخبة مثل بيروت. وهنا لا بد من إشارة إلى أن لعبة الرواية ليست فقط في صنع اسم للبطلة له نفس رنة الاسم، بل في صنع عالم كامل لبطلة مثيرة باستخدام نتف متناثرة من حكايات مشهورة، واستخدام أماكن وشخصيات حقيقية لا تبدو سلمى غريبة وسطها.. انتهاءً بأن الشكل الروائي يعتمد على فكرة برنامج إذاعي في الـ BBC يبحث عن وفاة سلمى حسن… هذه هي الأدوات التي قد تقول إن سلمى حسن هي سعاد حسني، وهذا ما جعل المؤلفة قبل الإهداء تذكر 3 ملاحظات مهمة: 1- جميع شخصيات هذه الرواية “درامية”، وأي تطابق بينها وبين شخصيات حقيقية هو صدفة. 2- أضيفت أسماء شخصيات أدبية وفنية حقيقية إلى بعض أحداث الرواية لإضفاء لمسة من “الواقعية” على الأحداث، وتؤكد المؤلفة أن “المشاهد” التي ظهرت خيالية تمامًا. 3- تمت استعارة أجواء البث المباشر في إذاعة BBC العربية لضرورات درامية، وكل الآراء المطروحة في “البرنامج المتخيل” مفترضة. والإذاعة غير مسؤولة عنها. اللعبة إذن تعتمد على الصدفة والخيال. صدفة التشابه؛ التي تجعل سلمى حسن ترى وتعيش جو أبطاله فريد الأطرش، وعبد الحليم حافظ، وفاتن حمامة، وأم كلثوم. هؤلاء أبطال عالم سلمى، ليسوا أبطال الرواية في الحقيقة، نراهم معها في حفلات، وتقف أمامهم في أفلام، وتكلمهم في التليفون. هي نجمة لامعة وسطهم. ونحن الذين نعرفهم ونعرف تاريخهم لا نراها. إنه الخيال الباحث عن أسرار لن نشبع من الدوران حولها. أسرار أسطورة لن تغلق ملفاتها. سعاد حسني في السينما المصرية، ومارلين مونرو في هوليوود. وسلمى حسن في الرواية. أنج جيه. الغريب انه لم تكن في الرواية سلمى واحدة، يوجد 3 سلمى، غير “سالومي” أو “سلمى وان”، أو “سلمى تو” رفيقتها في أيام المرض بباريس، وبدت في حلقات الإذاعة كأنها تريد أن تكون متحدثة باسمها. وفي النهاية تتهمها سلمى الثالثة بالاشتراك في جريمة اختطاف أو قتل سلمى وأن وسلمى الثالثة هي Miss X التي كانت ترسل إلى مذيع البرنامج عبر البريد الإلكتروني أوراق سلمى حسن وقصتها التي استمعت إليها بنفسها؟! من هي سلمى الثالثة؟ هذا هو السر البوليسي في الرواية. هي بطلة اللغز واللعبة التي بنت عليها هاديا سعيد روايتها. هي أولا ابنة أخت سلمى. أختها نوال الكبرى التي كرهتها أمها لأنها رأتها تنام مع أبيها. اقتسمت مع سلمى الموهبة، وأخذت الصوت الجميل.. وأخذت سلمى الفتنة والتمثيل. لكنها ابتعدت عن الشهرة بعد 4 أغنيات فقط، ارتضت بعدها بالزواج والحجاب وعائلة أبعدتها تمامًا عن عالم سلمى. نوال هي التي قادت خروج العائلة من الكوخ الفقير؛ تركت الدراسة وعملت في مشغل خياطة. لكن النقلة حدثت عندما عملت “أنج جيه” في كباريهات الزيتونة. “أنج جيه” هن بنات الصالة في الكباريهات. عملهن تسلية الزبون ليشرب أكثر ويدفع أكثر. مع نوال أصبحت العائلة للنساء فقط. انتقلت النساء الثلاث إلى شقة غرفتين وصالة، وتركن الأب مدمن الكحول برفقة أخ أضيفت إلى لمسات بلاهته وراثة الإدمان. وسلمى التي كانت تعيش مع أحلامها تحت اللحاف.. صعدت خطوة إلى مصيرها الجديد. السلالة الغريبة. السر الأول الذي كشفته سلمى أن خالتها هي نفسها النجمة المشهورة. الشبه بينها وبين سلمى وان أكبر من الشبه بأمها. وكانت رحلة اكتشافها هي أهم رحلات حياتها. هذه هي لعبة الرواية الحقيقية. اللعبة هي اكتشاف سلالة من الشخصيات يشعرون أنهم غرباء في أي مكان ووسط أي مجموعات. هم خلاصة المشاعر الإنسانية.. يجمعون بين الخير والشر في لحظة.. التفاني والأنانية.. الإخلاص والخيانة. سلالة نادرة نادت فيها روح سلمى وان على توأمها الروحي سلمى الجديدة (اسمها نفس اسمها). هي أيضًا خارج الحسابات الاجتماعية، وضد الأسر في علب ينظر إليها الناس على رف الحياة. جعلت المؤلفة سلمى حسن تحب أن تغني أغنية داليدا)؛ واحدة أخرى من سلالة الغرباء): “مع الوقت… كل شيء يذهب؛ الوجوه.. الأصوات.. مع الوقت”. إنه شعور بألم الغربة والفراق والشوق إلى شيء مجهول.. بعيد.. ووجوه تعيش داخلك. الألم لا يفارق المتعة.. البحث عن الشيء البعيد.. ليس أكثر من رغبة في الراحة.
اكتشاف السلالة ربما هو أهم ما في الرواية، وأكثر ما يجمع سلمى حسن بسعاد حسني؛ لبحث عن أب مفقود. سلمى حسن هي الأخرى لها قصص مع الرجال. كانت تبحث في كل منهم عن أب غاب عن حياتها منذ اليوم الأول. أب يحميها ويصرف عليها ويقودها إلى اكتشاف العالم المغلق، ويمنحها من خبرات حياته خرائط تكتشف بها الناس والحياة. مدحت هو الأخير؛ كاتب وصحفي وسيناريست مثقف قلب حياتها رأسًا على عقب. هو رجلها الوحيد كما حكت لسلمى الصغيرة. تزوجته وهي عذراء رغم كل العلاقات السابقة. اكتشف عذريتها ليلة الزفاف.. وكانت المفاجأة المدهشة؛ هو نموذج آخر أراد إبعادها عن سينما المقاولات والسهرات التافهة وتسول الإعجاب من الجمهور والصحافة. عرفها على مثقفين وسياسيين وحصرها في سينما (المهرجانات). كانت العلاقة بينهما أقرب الى علاقة كاتب مسرح مرموق مثل آرثر ميللر ونجمة مدهشة مثل مارلين مونرو. وهي أسطورة تعيد إنتاج فكرة بيجماليون الذي كان يصنع تماثيل عشيقاته على مزاجه وهواه ووفق صورة مثالية في خياله. كان يتهمها بأنها تريد أن تكون سلعة في فاترينة. واكتشفت هي أنه يريد أن يحبسها في صورة من صناعته، لكنها ظلت تحبه بعد أن مات على يديها في نفس المصحة التي مات فيها عبد الحليم (أو حليمو) الذي صالحته في يوم من الأيام مع فريد الأطرش؛ أول من استضافها في بيته قبل أن تخرج من دائرة الطفلة الكومبارس إلى عالم النجومية. في بيت فريد الأطرش قابلت كميل أنجلوس المليونير هاوي الشعر الذي كان يحلم بأن تغني له أم كلثوم أو عبد الوهاب قصيدة، لكنه توقف عن الشعر تمامًا بعد اكتشاف سرقته لقصيدة من جورج جرداق مؤلف “هذه ليلتي” الشهيرة. هو رجل أعمال وتاجر سلاح فتح لها الأبواب كلها.. صرف على رحلتها هي وأمها ونوال إلى الإسكندرية ثم القاهرة؛ حيث أقامت في شقته بالزمالك. وتجولت معه في ليل الفن وسهرات الفنانين حتى عرفها بعاطف سالم الذي أعطاها أول فرصة. كميل لم يطلب من جسدها غير متعة الاقتراب. كانت تنام بجواره عارية وفي لحظات النشوة ينام هو عاريًا في البانيو ويطلب منها أن تتبول عليه. ظلت عذراء إلا من تأوهات جسده الرخو. كما كان الرجل الأول في حياتها مسيو جابي مخرج أول تمثيلية مثلتها وهي طفلة في المدرسة. مسيو جابي كان من عشاق لمس أجساد المراهقات. ظل فتى أحلامها فترات طويلة تحلم بالتمثيل في فيلمه الأول الذي مات محترقًا قبل أن يكمله.
القاهرة 26 يناير 1976
عيد ميلاد سعاد حسني، وليلة عرض فيلمها الكرنك، ظلت تحكي وتتكلم في بيت الدكتور عبد المنعم تليمة، أستاذ علم الجمال في كلية الآداب الصحبة أغلبها من اليساريين القريبين من عالم الفن والأدب. مناخ الحوارات دفع سعاد إلى أن تقول بحماس “أنا مِلك الحركة الثقافية وأنا كفنانة أضطر للموافقة علي بعض الأفلام التي لا أرضى عنها، ولكنني أعتبر نفسي مستعدة لو تبناني المثقفون أن أمثل فيلمًا كل سنة متبرعة بأجري يكون هذا الفيلم طليعيًّا وفكريًّا وعميقًا”.
قالت أيضا “أنا لا أعرف الكلام في السياسة”.
وهي بالفعل لم تكن مسيسة على مستوى الذهن والأفكار، لكنها على مستوى حسي يربط بين الأحداث السياسية ومنطق الخير والشر البسيط فهي التي رأت من نافذة بيتها دخان حريق القاهرة في 26 يناير 1952، وسمعت في جلسات والدها عن فساد الملك فاروق آخر ملوك مصر، وشاهدت صورة الضباط الأحرار في حجرات استقبال الطبقة الوسطى، وتمنت أن ترى عبد الناصر في الحقيقة، وحجزت لنفسها دور زوجته في فيلم عن حياته وتحدثت القاهرة عن مشهد رومانسي لها وهى تسير في جنازة عبد الناصر وسط الحشو الضخمة تبكي وتستند إلى ذراع علي بدرخان حبيبها ومعلمها السياسي.
لكن سعاد كانت أقرب إلى منطق صلاح جاهين في القدرة على قول أصعب الأفكار في صيغ سهلة تمر إلى الناس بدون أن تطلب منهم انحيازًا مسيسًا واضحًا. كانت أغنياته مع عبد الحليم وكمال الطويل مدرسة سياسية تدربت فيها انفعالات وأحاسيسها.
كانت زينب في الكرنك تفسير حلم علي بدرخان، زوج سعاد في ذلك الوقت ومخرج الفيلم، ممثلة لها موقف سياسي وفيلم يطرح رؤية ملتزمة واضحة في نقد نظام عبد الناصر وسعاد أقرب إلى صورة فانيسا ريدجريف أيقونة اليساريين في التمثيل والسينما.
وهذه هي الخطوة الأكبر في محاولة بدرخان إبعاد سعاد عن تأثير زوزو بل وتحويلها إلى عقدة ذنب.
لم تكن زينب هي سعاد على الرغم من أن القصة أقرب إلى أن تكون بطلتها الحقيقية سعاد حسني؛ بعدما أشيع أن صلاح نصر رجل المخابرات المرعب في منتصف الستينيات حاول استغلالها في عمليات جهازه السرية، وأنه ظل يضغط عليها حتى نفذ خطته المعروفة في التوريط، ودس عليها مترجمًا شابًا وسيمًا لعب عليها دور الحب، وصدقته سعاد وأحبته فعلاً، بينما كانت عيون المخابرات ترصدهما في غرف النوم، لتبدأ عملية ابتزاز قذرة رضخت بعدها ونفذت ما طلبه منها صلاح نصر.
يلعب الخيال هنا لصالح القصص المثيرة لكن اعتماد خورشيد زوجة المصور السينمائي الشهير أحمد خورشيد أصدرت في منتصف الثمانينيات اعترافاتها في كتاب حكت فيه عن دورها في تجنيد الممثلات وسيدات المجتمع في جهاز المخابرات ومن ضمن رواياتها أشارت إلى الحروف الأولى من اسم نجمة مشهورة لم يكن لها مقابل واقعي سوى سعاد حسني.
وفي هذا الخليط من الخيال الشعبي والشائعات المرسلة من بقايا دولة المخابرات، عاشت سعاد إحساسها المشحون بالقهر والذي كان وراء اللقطة الفريدة التي أعطت فيها انفعالاً مذهلاً لفتاة تغتصب أمام حبيبها كوسيلة ضغط، لإجباره على الاعتراف. والغريب أن هناك من رأى في الفيلم المأخوذ عن قصة لنجيب محفوظ صورة رمزية، لعبت فيها سعاد حسني رمزًا لمصر التي انتهكت من أجهزة الدولة الشمولية، وأن الحبيب اليساري المحبوس في الزنازين المرعبة ليس إلا الأمل المحاصر للخروج من عنق الزجاجة.
تبدو هذه القراءة ساذجة الآن، لكنها صنعت نجاحًا مذهلاً للفيلم الذي كان الأول في فتح ملف المخابرات، والأول في سلسلة أفلام الهجوم على عصر عبد الناصر، خصوصًا أن منتج الفيلم ممدوح الليثي أضاف إلى نهاية الفيلم نهاية جيدة ألحت عليها الرقابة تمجد خطوات قام بها السادات لتصفية خصومه، وسماها الإعلام وقتها ثورة التصحيح وعلى سبيل المفارقة المركبة كانت سعاد مشغولة بشيء آخر في أثناء تصوير الفيلم، وهو التخفيف عن أحمد زكي الممثل الصعلوك وقتها والذي حاول الانتحار مرة بالقفز من أعلى بناية يسكن غرفة على سطوحها، ومرة بابتلاع كميات ضخمة من الحبوب المهدئة، ضاع حلم أحمد في أن يكون بطلاً أمام سعاد واعترض الموزع على أن يلعب دور حبيبها اليساري المسجون.
أحمد زكي بشبه سعاد حسني في الهوس بالتمثيل وفي الفطرية المتوحشة يشبهها في تركيبة نفسية متطرفة تعتصر ذاتها في لحظة حسية مشحونة لتصل إلى ذروة النشوة.
كانت الشخصية في الفيلم تمتص سعاد حسني، التي كانت طفلة تولد مع كل دور ولم يكن يتوقع أحد ممن يرونها تملأ الشاشة بصخب لطيف يتوقع أنها هادئة متأملة، تنصت كثيرًا ولا تحب الألوان الصارخة، ولغة العيون أقوى أدواتها في التعبير تعطى لكل شخصية معناها الخاص وتتجاوز بها التغييرات المباشرة بلغة الكلام أو حركات الجسد.
هذا ما لم يجعلها في يوم من الأيام ثرثارة مترهلة، على الرغم من الوحدة والأزمات النفسية، وكانت كما رأت نفسها دائمًا؛ امرأة ساذجة تعرف كثيرًا عن هذه الحياة.
في فيلم الزوجة الثانية اقترحت على المخرج صلاح أبو سيف إضافة للمشهد الذي تريد فيه إغاظة زوجة العمدة القديمة، شعرت أن المشهد المكتوب ذهنيًّا سيكون ناقصًا واقترحت أن تخبط برجلها في الأرض لتوحي للزوجة بأنها غاية في السعادة، هذه الإضافة الحسية يشهد بها جميع المخرجين الذين تعاملوا معها، وشعروا بأنها لا تتعامل مع السيناريو بخبرة الحرفة، بل بخبرة حسية تجعلها تتوقف أمام جملة تشعر أنها خارج السياق أو تدفق في تفاصيل مشهد لم يهتم الكاتب بشحناته غير المفتعلة. محمد خان المخرج الذي لعبت معه فيلم موعد على العشاء يعلن أنه عرف بعد نهاية التصوير أنه كان قادرًا على تفادي الإصابة بقرحة المعدة التي أصابته نتيجة توترات سعاد.. ذلك لو كان أدرك الوسيلة التي يستفزها ويداعبها بها فهي السهل الممتنع بمعنى الكلمة، دائمة القلق والتردد والتساؤل، ولكنها قادرة على أن تعطي أكثر من المتوقع بكثير.
وبأسلوبه الخاص يرى مدير التصوير كمال كريم، الذي عمل مع سعاد في عدد كبير من أفلامها، أن تمثيلها ينبع من داخلها مثل جريتا جاربو، وعلى الرغم من أنها لم تتعلم من أحد أنها خلقت لكي تمثل.
ربما يكون هذا الدافع الداخلي هو البحث عن الأمان، أو خلق توازن نفسي بين الرغبات وبين الوجود في العالم. وقد قالت سعاد أكثر من مرة، وقبل عزلتها الأخيرة “النجاح والشهرة يحققان نوعًا من إثبات الذات، ويعطيان بعض أحاسيس الرضا عن النفس، لكنهما لا يعوضان الزمان المفقود، ولهذا فأنا حتى هذه اللحظة في حالة بحث دائم عن الأمان، ويوم أشعر بالأمان سوف أترك السينما فورًا”.
هذا وصف يقترب من الدقة لعلاقتها بالفن “التمثيل بالنسبة لي ليس مجرد حرفة على الرغم من أنني أعيش منه التمثيل ترجمة لأشياء أجهلها في أعماق نفسي. لم يكن التمثيل سوى متعة حسية تحقق لها التوازن المؤقت كما كان شغفها المثير بالطعام انتصارًا مؤقتًا على القلق والحيرة.
يحكي خان أن سعاد في أثناء تصوير مشهد مؤلم في المشرحة انزوت في أحد الأركان تأكل ساندويتشًا بنهم شديد، وفي السنوات الأخيرة كانت نوبات الشهية للطعام تقترب من الحالة التي وصلت إليها الأميرة ديانا في أثناء أزمة الخيانة مع زوجها تشارلز، كانت تظل على مائدة الطعام تأكل وتأكل حتى تمتلئ ثم تتجه إلى الحمام لتفرغ ما في بطنها.
والحقيقة أن سعاد لم تشعر بالأمان، لكنها أجبرت على ترك السينما، فظل الشيء القلق في داخلها يضغط مطالبًا بإشباع لا يتحقق.
وهذا ما تكرر مع إحساس الأمومة لعبت دور الأم أكثر من مرة في الحياة أقساها كان مع شقيقتها الصغرى صباح، التي كانت تعيش معها بشكل دائم في شقة الزمالك، وعندما ماتت في حادث سيارة حاولت سعاد الانتحار لأنها لم تتحمل لذة الأمومة الناقصة إلى الأبد. أما أكثرها غموضًا فقد كانت مع عبد الحليم حافظ.
وحتى اللحظات الأخيرة من حياتها، ظل اللغز المحير هو هل تزوجت سعاد وحليم لمدة 6 سنوات؟!
وتبدو الحكاية هنا أقرب إلى روايات إحسان عبد القدوس التي كانت سعاد ملهمة عدد كبير من حكايات بطلاته، تحكي له باعتبار بيته مرسى الأمان في أول حياتها السينمائية، كانت زوجة إحسان تتعامل معها كابنتها، وهى في مرحلة الارتباك الأولى التي كانت تبحث خلالها عن المكياج الثقيل كي تخفي تحته ملامح الارتباك والحرمان في سنوات الطفولة، تضع رموشًا صناعية طويلة، وأحمر شفاه قوي، كانت تبحث عن شيء غامض تضيفه طبقات المساحيق. في فيلمها الثاني شعرت بالغيرة من صباح، وكما حكت ذات مرة “كنت أتمنى أن أمثل دورها، أكون مكانها، أحصل على الاهتمام الذي يبدو حولها، لم يكن الماكيير يستغرق وقتًا طويلاً في عمل الماكياج لي، أما هي فكان يظل أكثر من ساعة ليرسم شفتيها وعينيها ورموشها وخدودها”. كانت تتخيل أنها لم تكن جميلة، وكانت في مرحلة لمراهقة تبحث عن جمال إضافي من الخارج يصنعه الماكيير، لكنها صدمت بتعليق من الكاتب الساخر كامل الشناوي يقول إنها “تجلس أمام المرأة كي تقلل من جمالها”.
متى تعلمت أن تكشف جمالها الداخلي؟ ربما كانت السنوات الأولى التي أعقبت الانفجار الهادئ لنجوميتها في حسن ونعيمة هي التي قادتها إلى الاستغناء عن المكياج الثقيل.
في هذه السنوات قابلت عبد الحليم واكتشفت المسافة التي بينهما في النظر إلى العالم.
وكان هذا الاكتشاف الجزء الكبير من التحول الذي عرفت فيه الحياة الجديدة.
4
الحب الوحيد
سلمى كانت تحب عشاقها. وتفهم أنها لا بد وأن تدفع فاتورة الحب. المخابرات طاردتها بسبب علاقتها بكميل. بعد ذلك خطفتها ميليشيات الحرب في بيروت لنفس السبب. ظل كميل حاضرًا رغم غيابه المفاجئ. وحافظ حلم جابي على رونقه مع أنها لم تعد تحتاج إلى اللحف الذي تخبئ فيه خيالها الهارب من كوابيس الواقع. أما مدحت فبقي عذابها الممتع. جنتها الضائعة. وفارسها البعيد حتى في قبره. رجال سلمى حسن الأول يشبهون رجال سلمى الصغيرة. والصغيرة تبحث عن لغز موت خالتها. تفتح الملفات، وتقول إنها اختفت في ليلة ضربت فيها موعدًا معها. ذهبت إلى بيتها وفتحت صندوق بريدها وقرأت رسائلها (بينها واحدة تضمنت عرضًا بمبلغ مالي كبير في مقابل الحجاب). لكنها لم ترجع. اختفت. ليبقى موتها لغزًا من الألغاز الأبدية.
هل سلمى حسن هي سعاد حسني؟! هذه هي متعة الرواية.
لندن 2000
سعاد حسني في الاستديو تلهث، ومهندس الصوت يتعجب من الطاقة التي تقاوم بها الجسد المنهك، تنزوي في ركن من الاستديو تستعيد الأبيات ذات الرنة المعروفة، وقف الشريط في وضع ثابت، صلاح جاهين هنا وفي عاصمة الضباب، وسعاد تحاول إعادة صوته إلى الحياة؛ تسجل الرباعيات، أما هذه القصيدة فهي أقرب إلى تعليق الأحداث الجارية. الآن تخرج الكلمات من بين الأسنان المتهالكة بصوت مشروخ متعب الهواء يزاحم الشعر، فتبدو صاحبة الصوت في لحظة مقاومة الزمن. الرعشة في الصوت تبدو محببة بعد قليل من صدمة السمع الأولى وهي بالبدلة الرياضية والنظارة السوداء تخفي صورتها الغريبة عن زمن الصبا. إنها في لحظة استثنائية تنتظر أن تحدث المعجزة وتعود إلى تلك الصورة تتفق على موعد مع طبيب الأسنان لتغيير كل أسنانها وترفض الرقيع أو التعديل المؤقت إنها تريد أسنانًا جديدة تمامًا تبدأ بها عمرًا جديدًا، وأشعار صلاح جاهين تشاركها لحظات التحدي وتدفعها إلى النقطة الغامضة التي تتساوى فيها الحياة مع الموت.
وصلت سعاد حسني إلى هذه النقطة في ليلة مثيرة من ليالي صيف لندن. وفي ليلة مماثلة، وقبل أن يكمل عامه السابع والخمسين تناول صلاح جاهين كميات من الحبوب المضادة للاكتئاب وانسحب من العالم كأنه ذاب، وظلت سعاد نفسها تجلس بجانب كتلته الصامتة على سرير المستشفي أكثر من أربع ليالي، لكن البرودة سيطرت على الجسد الساخن لتتيح انسحابًا ميسورًا للحياة.
جاهين هو العلاقة المكتملة الوحيدة في حياة سعاد حسني.
ذات مرة سأله المذيع الشهير طاهر أبو زيد في برنامج إذاعي “عملت كل حاجة لكن نفسك تعمل إيه لسه؟!
أجابه صلاح جاهين بسرعة لافتة نفسي أرقص باليه!
ارتفعت ضحكات الجميع في الاستوديو إلا صلاح جاهين.
لم يكن صلاح جاهين يطلق دعابة من وجهة نظره، لكنه ربما يتحدث عن شعور داخلي بخفة الروح يدفعه إلى الطيران، كان بالفعل يحاول التحرر من وزنه الضخم والتعامل مع العالم بإحساس فراشة.
وهذه ليست مفارقة أدبية كما أن وصف إحسان عبد القدوس له بالأسد، وليس نوعًا من المحاكاة الساخرة. كتب إحسان بمناسبة عيد ميلاد صباح الخير 14 يناير 1960 “كلنا في صباح الخير وحوش أو على الأقل في صدر كل منا وحش اسمه الفن، وصلاح جاهين بين الوحوش هو أسد صباح الخير، وهو أسد تنتابه حالات نفسية عجيبة فيوأوئ واء واء واء، ويجلس على الأرض ويرفس بقدميه ويشوح بيديه أنا مالي هيه”.
عيب يا أسد ما يصحش
موش عاجبكم طيب!
ويزأر الأسد ويستمر في الزئير وبعد ذلك ربنا يستر!
أسد يرقص باليه!
صورة مثيرة لكنها ليست صلاح جاهين بالضبط، إنها الجانب المتمرد الذي تعود على تكسير القواعد المنطقية وتحطيم الصور الجاهزة عنه، يمكنه أن يجلس على كرسي فخم وبكل اتزان أب محنك يغرقك بخبرته في الحياة ويلقى عليك خطبًا عصماء من نصائحه الذهبية، وقبل أن ينتهي بقليل يمكن أن يرقص معك أو يجعلك تقوده إلى مغامرة تمر فيها كل ما قاله!
لم يكن نبيًّا ولا مناضلاً وتعلقت هي به كما يتعلق الشبيه بصورته المكبرة، ولم يكن حبيبًا فقد ذاقت من المحب عسلاً مرًّا كما تقول الفصاحة الشعبية المصرية.
قابلت سعاد حسني صلاح جاهين بعد أن أنهت علاقتها مع عبد الحليم بسنوات قليلة، كان ذلك في روسيا في أثناء تصوير فيلم يوسف شاهين الناس والنيل، وكانت سعاد بطلة الفيلم وصلاح كان مريضًا يعالج بإحدى المستشفيات هناك.
من يومها تحولت هي إلى طفلته التي يلبي لها أي طلب كي لا تغضب، كما قال لرأفت الميهي في أثناء تصوير فيلم شفيقة ومتولي وكان جاهين المنتج والميهي هو مدير الإنتاج، بهذا التدليل لعب هو دورًا انتظرته بداية من عبد الرحمن الخميسي وحتى على بدرخان، مرورًا، وهذا هو الأهم، بعبد الحليم حافظ.
كان عبد الحليم صورة النجم والحبيب المنتظر، فتى الأحلام اليتيم الذي يصلح ليكون ابنًا في الوقت الذي تنسال من عيونه الحزينة إشارات الحب والرومانسية. عرفها في بيت نجاة أختها وزميلة مهنته، في البيت أحس بالعائلة كما ترى سعاد حسني، وفيها شعر بالحبيبة الصغيرة التي يمكنه أن يعلمها المشي على جسر النجوم. عرفها بالصحافة وأعطى لها الدروس الأولى في العلاقة بين الفنان والجمهور.
بعد سنوات من رحيل حليم استرجعت سعاد العلاقة في حوار مع مفيد فوزي وروتها هكذا “أصبحت أمه، وأنا في السابعة عشرة من عمري كنت أشعر أني أمه، ويخيل إلىَّ أن الست لما تحب الراجل من نقطة الأمومة فهذا أعلى درجات الحب وأسماها.. لم أكن محتاجة حب، كنت عاوزه حنان، أصلي اتحرمت من الحنية وأنا صغيرة، حب الناس الكبير ليا لم يعوضني عن كلمة حلوة من إنسان يهمني أمره، لفته جميلة لمسة محتاجاها”.
في هذا الحوار لديها كانت رغبة في الاعتراف، وأعلنت لأول مرة أنها تزوجت عبد الحليم سرًّا لمدة ست سنوات “كان بينزل من بيته في شارع يحيى إبراهيم ومحدش يعرف هو فين، كانت دي ساعات لقائه بنفسه”.
كان الاتفاق على أن يعلن الزواج بعد خمس سنوات، لكنه رفض بمنطق النجوم التقليديين الذي يرى أن الجمهور يمكن أن ينفض من حوله إذا عرف أنه أحب أو تزوج، باعتبار أن النجم قبل أن يكون فنانًا هو فتى أحلام، كان يراها وهى مصرة على الإعلان أنها عنيدة بل هي “عناد حسني”، وكانت وجهة نظرها بسيطة جدًا “أنا فاكرة كويس جدًا إنه أنا كنت حاسة بوحدة قاتلة، وعاوزاه يكون جنبي ومحتاجة لدماغه في مشاكل خاصة، لكنه فضل بروح يعمل حديث في الإذاعة على أنه يشوفني. أصعب حاجة على الست لما تكون محتاجة وقفة راجل معاها وتبص حواليها وما تلاقيهوش”.
انصرفت سعاد لحياتها الخاصة بعد فراق أدمى كلا منهما، وظلت تهرب من أي مكان يجمعهما. ظل حليم يغني “باحبها وفي قلبي ساكن جنبها، وقل لي حاجة أي حاجة”.
أثار الإعلان عن الزواج ورثة عبد الحليم، وعلى رأسهم المحامى مجدي العمروسي وكذبوا الحوار. وصمتت سعاد حسني، لأنها كانت على ما يبدو تريد من محاورها أن يحتفظ بالسر إلى ما بعد رحيلها، لم يدافع عن قصة الزواج سوى الملحن كمال الطويل، الذي حكي في عام 1961 “فوجئت بسعاد حسني في منزل عبد الحليم حافظ بالزمالك، وأنها جالسة على السرير وكان معنى هذا الوضع الذي شاهدته يعنى أن العلاقة قوية بينهما، وحدث بعد ذلك أن أصيب عبد الحليم بنزيف، وعندما ذهبت لزيارته في المنزل وجدت سعاد حسني هي التي تلازمه وتمرضه بشكل غير عادي، وقتها كنت أتخيل شأن بقية الأصدقاء أن هناك نوعًا من الاستلطاف بينهما وفي حدود بين بنت لطيفة وشكلها جميل وهو مستريح لها وهي ترعاه صحيًّا، إلى أن علمت أن عبد الحليم حافظ سافر مع سعاد حسني في رحلة لزيارة تونس والمغرب انتهت بزيارة لسويسرا وبعض البلاد الأوروبية، وأن هذه الرحلة استغرقت حوالي أكثر من شهر، وجاءت الأنباء بأنهما تزجا زواجًا عرفيًّا لأن عبد الحليم حافظ لم يكن مقتنعًا تمامًا بأن يقال أنه تزوج، كي لا يفقد المعجبات من حوله. وفي نفس الوقت علمت أن سعاد حسني ليست سعيدة بالأخبار التي تتحدث عن مغامرات عبد الحليم حافظ العاطفية، رغم أنها غير حقيقية. ولأنه يؤمن بأنه كفنان لو عاش في هذا الحوار فإن هذا أفضل لفنه ويعطيه إحساسًا أكثر تأثيرًا وهو يغنى للحب وهو غارق فيه، والحقيقة أن 90% من هذه العلاقات لا أقول وهمية، وإنما كان عبد الحليم يتخيلها ويحلم بها، وكل علاقاته العاطفية لم تتجاوز قصة أو قصتين، منهما علاقته مع فتاة فرنسية. عموما أنا لست مرجعًا في حياة عبد الحليم النسائية إلا فيما يتعلق بحكايته مع سعاد حسني؛ حيث كنت أذهب إلى عبد الحليم وأقابل سعاد حسني هناك، والذي أعرفه أنه بعد عودتهما من الرحلة حدث نوع من الجفوة بينهما حتى أن سعاد قالت لبعض الأصدقاء إذا كان عبد الحليم حافظ سعيدًا جدا بعلاقاته العاطفية فأنا أيضًا استطيع أن أكون ندًا له في هذا المجال وأكثر، وأنه إذا كان سيخطئ فسأتصرف بنفس الطريقة”.
ردد كثيرون في الجلسات الخاصة نهايات مختلفة للعلاقة بين سعاد وحليم؛ أقواها الحكاية التي تقول إن سعاد حسني هي التي طلبت الانفصال لأنها اكتشفت أن المرض أضعف القدرات الجنسية لحليم وهي لا تريد أن تخونه.
لكن قبل رحيلها بشهور قليلة أعادت سعاد حسني القصة مرة أخرى للكاتب الصحفي منير مطاوع، وركزت فيها على حلمها المكبوت “لما طلبت الزواج من حليم كنت عايزه أتجوز وأستقر، عايزه يبقى لي زوج أسعده ويسعدني وأهنيه وأطبخ له وكل حاجة… كنت باحبه زى أمه كان محتاج لأم وأنا كنت محتاجة لأب”.
والحكاية لم تكن كذلك تمامًا فهناك فكرة الامتلاك التي سيطرت على عبد الحليم، حتى أنه عندما خرجت سعاد لحضور حفل عشاء دعاها إليه إحسان عبد القدوس وطلبها عبد الحليم بالهاتف من لندن ثار عندما لم يجدها في البيت، وألح على من في البيت ليعرف أين هي، وعندما قيل له إنها عند إحسان عبد القدوس بالذات، وتأكد أنها هناك بالفعل استراح، وتحدث إليها أكثر من ساعة وهو يعتذر لها لأنه لحق بها هاتفيًّا إلى حيث هي، ولم يخف عليها أن غيرته الشديدة هي التي تجعله يصمم على أن عرف كل تحركاتها والناس الذين تراهم أو تتحدث إليهم أو تجلس معهم.
ومرة أخرى أوحى إليه الشاعر الظريف كامل الشناوي بوجود علاقة عاطفية بين سعاد ومكتشفها الشاعر عبد الرحمن الخميسي، مما دفع حليم للاستئذان من السهرة والتوجه فورًا إلى منزل الخميسي على الرغم من أن الوقت كان قد تجاوز منتصف الليل بأكثر من ساعتين، ليسأل عن سعاد وبعدما وصل عبد الحليم ووقع في المحظور، رن الهاتف وإذا بكامل الشناوي يسأل الخميسي عن وصوله، وعندما تأكد أنه شرب المقلب قال للخميسي أن يبلغه أن الصب تفضحه عيونه وغيرته.
كذلك كان سائقه يوصلها إلى أي مكان، وقبل أن يرحل يسجل كل أرقام السيارات التي تقف بجوار المكان الذي تذهب إليه سعاد ويبلغها إلى عبد الحليم لكي يبدأ عملية التقصي ليعرف أصحاب السيارات الذين يشاركونها السهرة.
هي الأخرى كانت تداعبه من بعيد قبل الزواج بمشروعات زواج، أشهرها كان الصحافي المصري أحمد عثمان، لكنها جميعًا كانت ردود فعل على تجاهله رغبتها في البيت الذي كانت تفضله أكثر من الفن، بينما هو على العكس لا يستطيع ترك مكانه في الفن إلى أي مكان آخر.
مكان آخر..
وربما كان هذا سر طيرانها في ليلة 22 حزيران يونيو 2001. تقريبًا في يوم ميلاد عبد الحليم نفسه وهى المصادفة التي تتفوق على أي موعد؟!
لم يكن حليم هو الحبيب الخالد لسوسو، كما كان يناديها، لم يستطع حتى أن يقف أمامها في فيلم الاختيار، لأنه كان يريد الغناء، كما أنه لا يستطيع مواجهة نفسه المنقسمة هكذا بوضوح، من خلال البطل الذي يلعب شخصيتين متناقضتين تمامًا، وكذلك رفضت سعاد أن تلعب دور البنت المغلوبة على أمرها المنتظرة ببراءة حبيبها المهاجر في أحضان الراقصة، أرادت سعاد أن تكون الراقصة، ولم يتحمل حليم صدقها وإحساسها العفوي بقوة الراقصة وتفاهة المحبوبة الساذجة.
هذا هو الفارق بينهما، وهو ما التفت سعاد حسني فيه مع صلاح جاهين الذي يريد كل مرة أن يكسر مرآته ويحب نفسه كما هي، وعندما استطاع إنقاص 20 كيلو جرام من وزنه بدأ رحلة اكتئاب وصفها بسخرية تقريبًا “الوزن اللي نقص دا كان صلاح جاهين، لأن أنا مش عارف نفسي دلوقتي”.
صلاح جاهين الذي عرف عبد الحليم وسعاد فصنع مجد الأول الغنائي، وصنع توازن الثانية النفسي، وفي كل منهما وجد جزءًا ضائعًا من نفسه، ومعه لم يكتشف في عبد الحليم سوى المغني، بينما أيقظت فيه سعاد حسًّا غامضًا يدفع الفنان إلى التخلص من الأضواء والدخول في حجرة مرايا يكتشف فيها ذاته ويراها عارية.
إلى حد ما يطل صلاح جاهين الآن من تحت أقنعته المتعددة. وتبدو أقنعة سعاد حسني كأنها براعة المهرج الذي كانت تتمنى أن تلعب دوره في فيلم خططت ليكون عودتها إلى السينما، براعة المهرج في ألا تخفي الأقنعة الحقيقة تحتها، بل تكشف أكثر عن الوجه الساخر من العالم.