الدنيا سكون. هدوء موتر لا يقطعه إلا نباح كلاب يُسمَع من مناطق مُتباعِدة. النباح عبارة عن جماعة تطمئن أخرى بتمام السيطرة: لا بشر لدينا، الأرض المُعلَّمة ببولنا لنا.
كل شوارع مدينة الشيخ زايد ملك الكلاب، وحضور البشر عابر. مكممات ومكممون. عُمَّال ديليفري. مرضى في طريقهم إلى مستشفيات العزل. متسوقات ومتسوقون موسوسون.
الخارج مُخيف، وحشي، يهدد البشر. رغم ذلك، نزلت وردة من بيتها في الكُمبَوند مُقنَّعةً بكمامتين، عازمة السير تجاه ماكينة الصرف المُثبَّتة بسور خارج الكُمبَوند لسحب راتبها. لم تتوقع مقابلة أحد في هذه الساعة المتأخرة، إلا الكلاب العطشى والجائعة بالمدينة الخاوية. أرادت الأنس مع الكلاب، وزعت بقايا طعام، تجمعت الكلاب آكلة. فتحت حنفية مياه الحديقة فتمرغت الكلاب في الطين وشربت من مياه الحنفية في طقس احتفالي.
رشّت أزرار الماكينة والشاشة قبل الاستخدام بالكحول. نقرت السطح البارد طلبًا للمال، وحين صرفته الماكينة، غمرت الأوراق بالكحول، وكذلك الكارت. لم تطلب إيصالًا ورقيًّا حفاظًا على البيئة.
توترت حين سمعت صوتًا آخر غير النباح خلفها، لم تتبيّن كلمات هذا الصوت فزاد توترها. همَّت مبتعدة عن الماكينة دون الالتفات وراءها، توقعت أن هناك مَن يطاردها. جرت وردة.
الصوت ظل يطاردها. مع وصولها مدخل الكُمبَوند، طلبت من الحراس منع مطاردها من الدخول. قالوا إن لا أحد خلفها إلا سرب من كلاب الشوارع التي أطعمتها. اعتذرت للحراس، وطلبت منهم تزويد الكلاب بالماء متى عطشت، لكنها واثقة من سماعها صوت غير حيواني، صوت زحل.
تعرَّفت وردة على زحل خلال العزلة وما صاحبها من مشاعر نهاية العالم، قبل ذلك ظنته اسم كوكب جميل في السماء ليس أكثر.
رسم: عمر مصطفى
قبل تجسده أمامها، طاف زحل أحلام وردة. همس لها أنها صاحبة أجمل عيون. تتطلع عيناها إليه كل يوم، ولا يرى أحدًا غيرها. يمرق حضورها مثل شهاب، يتمنى دوامه. رنا إليها، تمنى أن تمكث قليلًا معه، لكنها لا تطيل النظر. في الأحلام، يعترف زحل بحبه لها.
تستيقظ وردة من أحلامها مُحمَّلةً بطاقة لا تغادرها. تعد شاي الصباح، وتُشغِّل فاجنر، ثم تقلب في كتاب الشغل. هو أقرب إلى موسوعة أعدَّها كبار أخصائيي الإعداد في الإذاعة قبل سنوات، ويُعامَل كمصدر حصري للمادة العلمية. تستمد منه وردة سكريبت حلقاتها، وتلصق داخله ملصقًا على كل مصطلح تستخدمه منه، تدون على الملصق تاريخ الحلقة حتى لا تسهو وتكرر المصطلح. قوام شُغل وردة تقديم مصطلحات الموسيقى الكلاسيكية، كل حلقة من برنامجها الذي تبثه إذاعة البرنامج الموسيقي، تُخصِّص لمصطلح واحد.
مع الوقت، ملَّت الشغلانة. لم يعد تقديم معرفة ثقافية مجردة مُشبِعًا لها، لأنها في الحقيقة تقرأ كلامًا من كتاب دون إضافة، كأنها روبوت ناطق، لكنها لا تستغرق منها وقتًا ولا جهدًا، بل تكفيها ساعتان أسبوعيًّا لتسجيل كل حلقات الشهر، وتوفر لها أيضًا مبلغًا يُصرَف على البنزين وبعض جولات التسوق، لا تحتاج إلى راتب كبير لأن والديها وفَّرا لها حياة كريمة، بل تفوق الكرامة بكثير.
في حالتها المشحونة بطاقة أحلام زحل، فتحت وردة كتاب الشغل. لم تقفز إلى الجزء المُتدلِّي منه لاصق آخر حلقة بقسم الموسيقى، بل بدأت الكتاب من أقسامه المهجورة. تصفحت المسرح، ومنه إلى الأدب، ثم النقد، وتمهلت عند الرسم حتى وجدت ضيف أحلامها. هكذا استوعبت في صحوها سر أُلفتها في المنام مع صاحب هذه الملامح.
افترضت رؤيتها زحل في بدايات عملها، حين كان الشغف يحركها وتسعى إلى حفظ كل مادة الكتاب، لكن يبدو أن أمرًا جعلها تنسى وجهه. ظنت أنها لم تتوقف أمامه من قبل لكونه مرتبطًا بالفنون لا الموسيقى، لكنها حين قرأت التعريف أدركت أنها تعمدت ألا تراه. تتأمل وردة ملامحه الآن، تتبيَّن هدوء نظرته وثباتها وهو يتغذى على لحم بشري.
تغرق في مأساته: زحل شخصية تنتمي إلى الأساطير الرومانية، استُلهِم من الأساطير اليونانية، سماه اليونانيون كرونوس، وفي روما صار زحل، وهو ملك أسطوري آمن بالتهام رُضَّعٍ من صُلبه حفاظًا على حُكمه، وتخليدًا لعرشه، وحمايةً لتاجه. زحل تغذى على تلك الوجبات البشرية كأنه يمارس فعلًا من أفعال السياسة درءًا للتمرد في مهده.
جسَّد الرسام الإسباني جويا زحل الذي يأكل صغاره ضمن لوحاته السوداء التي رسمها على جدران منزله مشغولًا بفهم صراع الإنسان مع جنون أفكاره. اعتبره جويا شخصية أسطورية لا تُعبِّر عن الإنسان المعاصر الحُرِّ صانع قدره، فهو شخصية مُسيَّرة تتلاعب بها الأقدار، تضعها أسيرة مصير لا فكاك منه.
تنسى وردة نفسها، ويبرد الشاي. تعد يانسونًا وتعود إلى العمل. تنزع لاصقًا من قسم الموسيقى وتُعلِّم به صفحة زحل، وتقفز إلى صفحات الشغل.
يأتي الدور على السوناتة، تتعجب من عدم تقديم هذا المصطلح من قبل، تشعر بألفة وهي تقرؤه، تشك، لكنها تطمئن نفسها بأن عدم وجود ملصق يعني أنها لم تقدمه سابقًا.
تعد كلمات السكريبت وتجدها أقل من الحد الأدنى لكل حلقة، تبحث عن سوناتات تحشو بها الحلقة الجديدة. تراسل زميلًا بعناوين السوناتات وروابطها عبر واتساب، وبعد تسجيل كلام الحلقة، ترسله وتتجاهل سماع تعقيب الزميل الصوتي، مفترضة أنه يتحدث كالعادة بأسلوبه اللزج غير المريح عن افتقاده لأجواء عملهما معًا، ويدعوها إلى العمل ببيته مع مراعاة إجراءات التباعد – لكنها ستعرف بعد فوات الأوان أن الرسالة، التي ترفعت عن سماعها، كانت تنبيهًا بورود السوناتة في حلقة أُذيعت قبل العزلة.
تعود وردة للتعرف أكثر على زحل. يشدُّها من القراءة صوتٌ، زوجها يسألها إذا كانت لا تزال تحتاج إلى المكتب.
تراه مجاورًا لزحل. الزوج يأكل خَسَّة وزحل يأكل لحمًا بشريًّا. مؤخرًا، تحول الزوج إلى النباتية، مدعيًا أن تحوله سوف ينجي البشر من الهلاك المحتوم. يتطهر من خطايا الإنسانية والامتيازات، التي يرفل في نعيمها كذكر مغاير من نخبة الطبقة المثقفة، عبر الثرثرة حول التزامه بأنظمة صحية، وتحسين ذاته، ومراجعة تصرفاته كل فترة: امتنع عن التدخين وتناول الدهون المشبَعة والثلاثية والسكريات والقمح والمخبوزات والكحوليات، وانقطع عن إتيان المعاكسات والتحرشات، وأخيرًا توقف عن أكل البروتين الحيواني. وردة تعرف زيف مراجعاته الغذائية والسلوكية، فهو لا يدعم ولا يحترم من النساء إلا مديرته، ولم يتحوَّل إلى النباتية إلا امتثالًا لأوامرها.
تستهجن وردة النضال عبر الدايت، الطعام ليس مهمًّا، كل الطبيخ سرعان ما يتحول إلى خراء، بل تعتبر أن روتين الأفراد في تناول الطعام لن يُغيِّر الكوكب ولا ينقذه، خاصة إن كان حفاظًا على وظيفة تدافع عن النظام البيئي في حالة زوجها، أو تعاليًا على آكلي اللحوم كحال مديرته. تلمح مديرة زوجها على الشاشة. تبادر بتحية وردة، لكنها تتجاهلها، وتغادر المكتب وزحل في إثرها.
خلال أيام العزلة، تغلغل حضور المديرة النباتية في البيت عبر اجتماعات أونلاين تأكل النهار والليل. يزعج حضور النباتية الافتراضي وردة، بل يخترق خصوصيتها، تشعر بعينيها تراقبها دائمًا، تتابعها وهي تمشي في البيت، تنظر إلى طبق أكلها، بل تشك أنها تتلصص على أي سكس يجمعها بزوجها. فلا يُعرَف متى تتوقف كاميرات التطبيقات وميكروفوناتها عن العمل. لذا تقرر وردة متابعة النباتية المتلصصة.
مع استمرار شعورها بعيني النباتية في كل مكان، يمنع مدير وردة إذاعة حلقة السوناتة.
أيَّد زوجها القرار مؤكدًا سماعه حلقة من برنامجها عن السوناتة قبل عزلة الوباء. تزجر وردة زوجها ناهية إياه بأن نباتيًّا خولًا مثله عليه دعم حقوق المرأة العاملة ضد السلطة الذكورية بدلًا من حماية البقر والأغنام والدواجن من آكليها، ولكنه لا يحترم من النساء إلا مديرته مثل أي موظف ذليل وخانع.
تصعِّد وردة صراعها مع المدير، الذي تعتبره معقدًا من النساء ويراهن لا يستحققن وظائف في القطاع الذي يترأَّسه، ثم تنشر تدوينات تصفه بعدو المرأة في الإذاعة. يتصاعد تريند يدعم وردة.
~
مع استمرار العزلة، تنغمس وردة أكثر في التلصص، وتلاحظ دعوة النباتية لبقية النباتيين إلى الفخر بعاداتهم، وتَرَدُّد صدى كل ما تنشره النباتية في بيتها على لسان زوجها، تسمعه ينقل كببغاء أقاويلها عن شهادات ناس يعترفون بأكلهم لحم بشر نباتيين.
بخلاف تدوينات النباتية وصداها على لسان ببغائها، لا تصل وردة إلى نتائج حول تلك الاعترافات، ثم تفتش محتويات كمبيوتر البيت، وتجد بحثًا عنوانه «زومبية الوباء.. مبحث حول فناء النباتيات والنباتيين» كتبته النباتية وببغاؤها. تفترض وردة أن مساهمات زوجها لا تتجاوز التقريظ والترقيم والتشكيل.
تعتبر النباتية نفسها، وتابعها معها، مُهدَّدين مثل سائر النباتيين المستشري الخوف بينهم. يخفون هويتهم الغذائية. ويتحولون إلى مجتمع مغلق، وخارجه، يجاهر النباتي بكونه لاحمًا مخافة أن يأكله طيارو الديليفري أو جيرانه في ظل الظاهرة المهددة بإفناء النباتيين طلبًا للخلود. اعتمد البحث على مصدر واحد حول هذه الظاهرة، وهو فيديو يعرض طباخة يتحرك لسانها بين ألسن البشر بسلاسة: عبرية، فعربية، ثم يديشية، وألمانية، وبولندية، وروسية.
في كرنڤالها اللغوي، حددت الطباخة المقادير:
– بصل مُقطَّع إلى قطع صغيرة.
– طماطم وأوراق الريحان.
– تُترَك المكونات السابقة تنضج على نار هادئة، ثم يُنقَل الصوص إلى حلة مخصصة للطبخ البطيء، ويُضاف اللحم مُقطَّعًا مكعبات.
بعد ذكر المقادير، اختفت من أمام الكاميرا قليلًا، وعادت وهي تصفر لحن أغنية بوني إم «راسبوتين»، وعرضت قطعة من اللحم شارحة أن ما تعده وجبة من لحوم النباتيين، وعبر وجبات مماثلة، سيُمهَّد الطريق للإنسان المعاصر نحو الخلود.
بعد استعراض ملخص الفيديو، كتبت النباتية وببغاؤها تحليلًا أكثر سخفًا من الاستعراض، أفاد بضرورة احترام الحريات الشخصية، وعدم الترويج لأي خطاب كراهية، مستندًا إلى بنود عهود دولية، ونصوص قانونية، وأكواد أخلاقية.
~
تنقب وردة أعماق الإنترنت بحثًا عن الفيديو المذكور. وبعد عناء، تجد مصدره: مشروع فني جامح عنوانه «آكلو لحوم النباتيين» لفنان بصري أعده لقتل ضجر العزلة التي فوتت عليه فرص حضور معارض الفن المعاصر، ويبدو أن النباتية اعتبرت هذا المشروع الغامض مخططًا جادًّا يهدف إلى إفناء النباتيين.
~
في المنام، ترى وردة نفسها بعين اللاوعي هزيلة مرعوبة، تحيط بها هشاشة الوجود بدرجات من اللون الرمادي، كأنها داخل لوحة أخرى لجويا ينتصب فيها عملاق وحشي محني الظهر متدثرًا بغطاء أبيض أمام مجموعة بشرية تصارعه في يأس حول شجرة. تتكوم جثامين البشر المهزومين أمام العملاق. تهرب وردة من الصراع إلى استوديو طبخ يتطابق مع الموصوف في بحث زومبية الوباء. وفي استوديو الطبخ، يقف إلى جوارها زحل، وتعد له وجبة مستخدمة مقادير طباخة النباتيين، وتعترف له بأنها استخدمت لحمًا نزعته من ثدي زوجها المُترهِّل.
تستيقظ وردة، وتستحم، وتتنازع الخواطر في رأسها. يتجسد زحل أمامها، لا تخجل من عُريها، بل تنادي زوجها فيحضر ويمتثل لأوامرها: يلحس حلمتها، ويداعب قضيبه المرخي أمام زحل كأنه شريك ثالث يشاهد دون مشاركة مستمتعًا بوجبته البشرية الأزلية. تضع إصبعها في شرج زوجها الذي يتأوه من اللذة والألم حتى يستوي انتصابه. تهمُّ بمص قضيبه، وتسأله عن سر اللذاذة، فيجيب بأنه يغسله جيدًا ويضع مستحضرًا خاصًّا.
توقن وردة أن شريكة أخرى تشاهدها الآن وراء الكاميرات، تتلصص النباتية المقطوعة الأنفاس مفتونة بوردة. تداعب نفسها حين ترى وردة تمص، ثم تتجاوب بمصِّ الديلدو، كأنهما شريكتان في الفعل. تنزل بالديلدو وتلامس الشفتين، تفرك إحدى حلمتيها، تقرصها.
تلحس وردة لحم الحشفة، وتكرر سؤالها عن سر الطعم، واندماجًا في اللذة يقول إن السر نباتيته.
ترى زحل يحرك لسانه تلذذًا، وتوجه لسانها نحو مناطق أكثر لحمية من جسد النباتي. وتتخيل النباتية تتمنى عض حلمتيها. برفق تلحس صدره، ثم تغرز أسنانها بعمق. يتأوه. تنزع وردة لحم النباتي.
*القصة ضمن مجموعة “صواب [خاطىء]”؛ تصدر قريباً عن دار وزيز 
