سوزان سونتاج إلى بورخيس: الخلود في زمن الشاشات السريعة

أسماء يس ترجمة

كيف تفكر في المستقبل؟ هل تراه جيدًا؟ هل تريد الخلود؟ تريده في هذه المدينة التي تصغر ذاكرتها وتتسع فجواتها؟ هل تعرف كم من الأسماء والأفكار والخيالات سقطت في فجوة الزمن؟ كيف تجعل الكتابة شخص حي وهو ميت، وماذا يعني موت كاتب، وفي جسده تضج الحياة؟ هل هناك حقًّا ما يجعل شخصًا عاقلاً ماديًّا، ليس متصوفًا ولا درويشًا، يرسل رسالة إلى صديق ميت؟! ليس ميتًا منذ أيام، لا، بل ميت منذ عشر سنوات؟ وهل الحياة جدباء إلى هذه الدرجة التي تضن بأحياء نخبرهم ما نود قوله؟

هذه بعض أسئلة تواردت مع قراءة الرسالة التي كتبتها سوزان سونتاج؛ الكاتبة والمنظرة والناقدة الأمريكية (16 يناير 1933 – 28 ديسمبر 2004)، إلى خورخي لويس بورخيس (24 أغسطس 1899 – 14 يونيو 1986) الكاتب الأرجنتيني الأبرز في القرن العشرين، الرسالة نشرتها إيميلي تميل  في 16 يناير 2018،على  بموقع Literary Hub؛الذي تعمل به محررة ، وهي أيضاً روائية وقد صدرت روايتها الأولى “الخفة” في دار ويليام مارو/هاربر كولينز، 2020. والمثير في نشر الرسالة هو موقع بورخيس المثير للجدل بمواقفه، المثير للتأمل بموهبته ودأبه، وتعامله المدهش مع الكتابة والكتب حتى بعد أن فقد بصره لفترة طويلة من حياته..
وبينما أثنت إيميلي تمبل بسخاء على ذكاء سوزان الحاد، وبلاغتها، وذوقها، الذي جعلها تحب بورخيس، مع أنه- وهي محقة- “لا أحد يجرؤ على المجادلة بأنه كان سيئ الذوق والرأي”، ولم تكن سونتاج من المعجبين بأدب بورخيس فحسب، بل كانت صديقته، وبعد عشر سنوات من وفاته، 1996، كتبت إليه رسالة نُشرت ضمن كتاب حوى مجموعة من المقالات في 2001. في تلك الرسالة تسجِّل افتقادها له بالطبع، وتذكر حبها للكتب والأدب بشكل عام، وتشير إلى “موت الجوهر” الذي تنبأت أنه سيكون نتيجة حتمية للكتب التي أصبحت متاحة على الفور، ومن النصوص القابلة للتغيير إلى ما لا نهاية، والتي أصبحت مجرد “جانب آخر من واقعنا التليفزيوني القائم على الإعلانات”..
وتتساءل إيميلي ما الذي سيقوله كل من سونتاج وبورخيس إذا كانا على قيد الحياة اليوم، ولكن للأسف، ليس أمامنا إلا أن ننظر إلى الكلمات التي كتباها بالفعل للحصول على بعض الإرشادات.

الرسالة

13 يونية 1999، نيويورك

عزيزي بورخيس،

لما كانت كتبك دومًا موضوعة في مصاف الأعمال الخالدة؛ فلا يبدو غريبًا أن أكتب إليك رسالة.. “بورخيس.. لقد مرت 10 سنوات!”. وإذا قُدِّر لأحد الأدباء المعاصرين أن يكون خالدًا، فلا بُد أنه أنت..
لقد كنتَ، إلى حدٍ كبير، نتاج زمنك وثقافتك، ومع ذلك عرفت كيف تتجاوز زمنك وثقافتك بطريقة ساحرة للغاية! وهذا بسبب تفتح وعيك وسعة انتباهك. لقد كنت الأقل تمركزًا حول الذات، وأكثر الكُتَّاب شفافية، وكذلك الأكثر دهاءً. وهذا بسبب نقاء روحك.. وعلى الرغم من أنك عشت معنا لفترة طويلة نسبيًّا، فإنك أتقنت ممارسة الانفصال بالغ الحساسية عن الواقع، وهو ما جعل منك مسافرًا عقليًّا متمرسًا إلى عصور أخرى.. كان إحساسك بالزمن مختلفًا عن إحساس الآخرين، وبدت الأفكار المعتادة عن الماضي والحاضر والمستقبل مبتذلة في نظرك. وكنت تقول إن كل لحظة من الزمن تحتوي على الماضي والمستقبل معًا، مقتبسًا من- كما أتذكر- من الشاعر براوننج Browning، الذي كتب شيئًا مثل “الحاضر هو اللحظة التي ينزلق فيها المستقبل إلى الماضي”.. كان هذا بالطبع جزءًا من تواضعك: وميلك إلى العثور على أفكارك في أفكار الكُتَّاب الآخرين.
وكان تواضعك جزءًا من يقين وجودك. لقد كنت دائم الاكتشاف لمتع جديدة. إن التشاؤم العميق والهادئ مثل تشاؤمك لم يخلق منك شخصًا ناقمًا. لكنك بدلاً من ذلك فضَّلت أن تكون مبدعًا؛ وبالفعل، كنت مبدعًا قبل كل شيء. لقد كان الصفاء وتجاوز الذات اللذان تملكهما مثاليين بالنسبة لي. لقد أظهرت أنه ليس من الضروري أن تكون حزينًا، حتى عندما يكون المرء مُدركًا مدى فظاعة كل شيء من حوله بوضوح شديد. وفي (موضع ما، قلت إن الكاتب- وأضفت مُحددًا: كل شخص- يجب أن يعتقد أن كل ما يحدث له هو ثروة(كنت تتحدث عن عَمَاك.

لقد كنت كنزًا رائعًا للكُتَّاب الآخرين. في عام 1982 – أي قبل وفاتك بأربع سنوات – قلتُ في إحدى المقابلات “لا يوجد كاتب على قيد الحياة اليوم يهتم بالكُتَّاب الآخرين أكثر من بورخيس.. قد يقول الكثير من الناس إنه أعظم كاتب على قيد الحياة.. قلة قليلة من كتاب اليوم لم يتعلموا منه أو يقلدوه”. وهذا لا يزال صحيحًا حتى الآن.. ما نزال نتعلم منك.. ما نزال نقلدك. لقد أعطيت الناس طرقًا جديدة للتخيل، بينما كنت تعلن مرارًا وتكرارًا مديونيتنا للماضي، وقبل كل شيء، للأدب. لقد قلت إننا مدينون للأدب بكل ما نحن عليه، وما كنا عليه. وأنه إذا اختفت الكتب، سيختفي التاريخ، بل سيختفي البشر أيضًا. وأنا متأكدة من أنك على حق؛ فالكتب ليست فقط مجموعًا كميًّا لأحلامنا وذاكرتنا. بل إنها تقدم لنا نموذجًا للسمو الذاتي. يعتقد بعض الناس أن القراءة هي فقط نوع من الهروب: هروب من العالم اليومي “الحقيقي” إلى عالم خيالي، عالم الكتب. لكن الكتب أكثر من ذلك بكثير. إنها طريقة لتكون إنسانًا كاملاً.
ويؤسفني أن أخبرك أن الكتب تعتبر الآن من الأنواع المهددة بالانقراض. أعني بالكتب أيضًا شروط القراءة التي تجعل الأدب وآثاره الروحية شيئًا ممكنًا. وقريبًا، كما قيل لنا، سوف نستخدم “شاشات الكتب” أي “النص” المكتوب بالطلب، وسنكون قادرين على تغيير مظهره ومحتواه، وطرح الأسئلة عليه، و”التفاعل” معه. وعندما تصبح الكتب “نصوصًا” “نتفاعل” معها وفقًا لمعايير المنفعة، ستصبح الكلمة المكتوبة ببساطة جانبًا آخر من واقعنا التليفزيوني الذي يحركه الإعلان.. هذا هو المستقبل المجيد الذي يُعد الآن، والذي بشَّرنا به باعتباره شيئًا أكثر “ديموقراطية”. بالطبع، هذا لا يعني شيئًا أقل من موت جوهر الأشياء، والكتاب كذلك.

هذه المرة، لن تكون هناك حاجة إلى حريق هائل. البرابرة ليسوا مضطرين إلى إحراق الكتب.. النمر في المكتبة بالفعل..
عزيزي بورخيس، من فضلك، أنتَ تعرف بالطبع أن أسلوب الشكوى لا يناسبني.. ولكن إلى من يمكن أن أوجِّه مثل هذه الشكوى بشأن مصير الكتب -وبشأن القراءة نفسها- أفضل منك؟!
 (لقد مرت 10 سنوات يا بورخيس!) كل ما أحاول قوله هو إننا نفتقدك.. أنا أفتقدك. وإن تأثيرك ما يزال مستمرًا حتى الآن. إن العصر الذي ندخله الآن؛ القرن الحادي والعشرين، سيختبر الروح بطرق جديدة. لكن يمكنك أن تكون على يقين من أن البعض منا لن يتخلى عن المكتبة العظيمة.. وستظل أنت راعينا وبطلنا.