التيتانيوم، واحد من الفلزات الانتقالية؛ يقع في أعلى المجموعة الرابعة في الجدول الدوري.. لكن يبدو أن التيتانيوم لم يعد حكرًا على الكيمياء، بل بات حاضرًا في السينما أيضًا، يرى من خلاله مستقبل العلاقة بين البشر والآلات؛ وذلك في فيلم تيتان، Titane، 2021 الفائز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الدولي في دورته الرابعة والسبعين، والأخيرة، هو التجربة الثانية لمخرجته الفرنسية جوليا دوكرنو Julia Ducournau، بعد فيلمها الأول رو Raw، الذي شارك في المهرجان نفسه، وحصل على جائزة النقاد FIPRESCI”” في عام 2016.
حتى نتحدث عن فيلم تيتان لا بد لنا من التطرق إلى تجربة جوليا الإخراجية الأولى “رو”، وهو الفيلم الذي شاركت في تأليفه، مثلما هو الحال مع فيلمها الثاني تيتان، ويحكي فيلم “رو” عن فتاة في كلية الطب البيطري تتبع حمية نباتية، لكنها تنجذب إلى اللحوم بعد تجربتها، لكن اللحوم هذه المرة هي لحوم البشر.. نعم، تهوى الفتاة لحوم البشر وتغرم بأكلها!
…حسية الآلات
يبدو أنه هكذا اتضح للقارئ والمُشاهد طبيعة الأفلام التي تقدمها جوليا دوكرنو، حتى في تجربتها الفيلمية القصيرة بفيلم “المبتدئ” Junior 2011.. تدور أحداث فيلم تيتان في فلك إليكسيا، تلعب دورها الممثلة أجاثا روسيللي Agathe Rousselle التي تتعرض لحادث سيارة في الصغر تضطر إثره إلى تركيب دعامات من شرائح التيتانيوم في رأسها.. لكن هل تؤثر تلك الدعامات المعدنية على مستقبلات المخ وتصرفاتها المستقبلية؟ لم يقف الفيلم عند هذه النقطة طويلاً، بل منحنا لحظات ولقطات حميمية متأملة في سيارة ما ومحتوياتها الداخلية، وهو ما شاهدناه في المشهد الافتتاحي للفيلم.
ويبدو أن حسية الفيلم أو الحسية التي تقدمها جوليا دوكرنو في أفلامها تجاوزت الجسد البشري، ودخلت منعطفًا جديدًا، ألا وهو المعادن، فالآلة، وكل ما هو غير إنساني وجامد، قد يحمل أيضًا بين طياته حسيته الخاصة، التي قد تكون مغرية للبعض.. مؤخرًا يبحث العلماء إمكانية تناسل الآليين بعد أن أصبحوا واقعًا حقيقيًّا في عالمنا، وإن لم يكن في عالمنا العربي.. تتجاوز جوليا إذن في فيلمها هذه الحقيقة الواقعة، وتلعب اللعبة المثيرة والمحببة في السينما، وهي محاولة الإجابة عن سؤال “ماذا لو؟”.
… ماذا لو أقامت بشرية علاقة جنسية مع سيارة؟!
التصور بالطبع غير مطروح، وليس منطقيًّا ولا عقلانيًّا، لكن جوليا توظف سحر السينما للغوض في عالم لامعقول حتى اللحظة.. تختار جوليا شخصية إليكسيا، وهي فتاة تعاني من الانعزال الاختياري عن المحيط البشري من حولها، إلى درجة أنها تفضل قتل من يبدي حبه لها عن التواصل معه.
لقد طرحت السينما إشكالية التفضيلات الجنسية من خلال العديد من الأفلام على مدار العقود الماضية، وعادة ما كانت الطفولة والماضي تحضران عند البحث في سبب تلك التفضيلات، لكن فيلم تيتان لم يقف عند الماضي، بل انتقل إلى الحاضر وما يحمله من أحداث مباشرة.
…علاقة الإنسان والآلة
الصدمة والتطرف في التصرفات هي عنوان فيلم تيتان؛ فالعنف والدماء والممارسات الجنسية المتطرفة هي ما يغلف مشاهد الفيلم بصورة عامة، ويتخللها مشاهد هادئة تمنح المُتفرج لحظات لالتقاط أنفاسه، لكن هذه هي طبيعة أفلام الرعب الجسدي Body Horror، والتي يمكن أن نصنف فيلم تيتان من بينها بكل أريحية. والمميز والمثير في الفيلم هو عبوره من مجرد فيلم منتمٍ إلى نوع معين، إلى فيلم يقدم رؤية لمستقبل قريب بعض الشيء، حيث تحتل الآلة به مكانة عليا؛ الآلة/ السيارة هي التي أغوت إليكسيا، وجعلتها حبلى بطفل يجمع في صفاته بين لحم البشر ومعدن الآلات، لتتغير طبيعة العلاقة التي تجمع الإنسان والآلة إلى الأبد.
9 يناير 1927 هو تاريخ العرض الأول لفيلم “متروبوليس” لصانعه المخرج المنتمي إلى مدرسة التعبيرية الألمانية فريتز لانج، وتدور أحداث الفيلم في المستقبل حيث عام 2026؛ في عالم تتحكم به الآلات ويسيطر الآليون، ويصبح الفرد/ العامل مجرد ترس في آلة لخدمة رأس المال. وبعيدًا عن الأيديولوجيا التي يتطرق إليها الفيلم، فإنه يعتبر فيلمًا استشرافيًا للمستقبل بطريقة ما، إذ كانت فكرة سيطرة الآلة حاضرة بصورة أو بأخرى في عقول السينمائيين، أما سيطرة الآلة في تيتان فتتجاوز العمل والمصنع، مثلما هو الحال في متروبوليس، بل تصل إلى حد التماس مع البشر فيما يملكونه؛ كالجنس والإنجاب، وهو ما يجعل تيتان فيلمًا ثوريًّا بصورة أو بأخرى، اتفقت أو اختلفت معه ومع محتواه السادي العنيف.
…المولود الفريد
من خلال أحداثه وشخوصه و”آلاته” إن جاز التعبير يقدم الفيلم مفارقة واضحة، وهي حالة الإحلال والتبديل؛ إذ تتجرد إليكسيا من إنسانيتها وتقتل بدم بارد دون الشعور بالذنب لقتلها أشخاص وإزهاق أرواحهم دون رحمة تذكر، بينما تتسبب الآلة/ السيارة في منح الحياة بإحضار طفل جديد في الحياة، طفل مميز مختلف يجمع بين اللحم والمعدن، قد يحتاج إلى الزيت أكثر من اللبن لسد حاجته من الطعام. لا يقف سيناريو فيلم “تيتان” على أرض صلبة في كل مشاهده وشخوصه، لكنه يعرف كيف يوظف الشخصيات بطريقة تخدم الفكرة الأساسية؛ إذ يظهر فينسنت Vincent Lindon، هذا الأب الذي فقد ابنه ويحمل الكثير من الحنان بداخله، ليصبح منوطًا به رعاية المولود الجديد الفريد. وحسب المعطيات الاعتيادية فإن أي شخص قد لا يقبل بسهولة هذا الطفل الهجين، لكن فينسنت احتواه وكأنه كان ينتظره، فهو الراعي والراغب في هذا المولود دون غيره من بني البشر.
قتل.. عنف.. سادية.. جنس متطرف مفردات بصرية ضفرتها جوليا دوكرنو في فيلمها، فلم ينتبه المُشاهد إلى الجسد البشري العاري في العديد من المشاهد في مقابل ما هو أغرب، وقد كان للممثلين دور داعم في تسيد الحدث البطولة والصدارة على الأجساد البشرية؛ فأجاثا روسيللي؛ وهي ممثلة شابة قدمت دورًا أقل ما يقال عنه إنه غريب ومتجرد ومستغل لكل المشاعر الحسية، وقد أتقنت تمامًا المطلوب منها لتقديم شخصية إليكسيا في لحظاتها المتباينة بين الرغبة والألم. كما أضاف فينسنت لندون كعادته إلى الفيلم شحنة عاطفية، على الرغم من قلة مشاهده، وظهوره خلال النص الثاني من أحداث الفيلم، وذلك بأداء تمثيلي متقن ومقنع لأب يبحث عن الحب المفقود من ابن مفقود.
…رعب الجسد
تعاونت جوليا دوكرنو مع الطاقم نفسه الذي قدمت معه فيلم رو عام 2016، فصحبها مدير التصوير روبين إمبينز Ruben Impens والمونتير جان-كريستوف بوزي Jean-Christophe Bouzy، وبين اللقطات الثابتة واللقطات المتحركة بعنف تراوحت مشاهد الصورة السينمائية في فيلم تيتان، وهو الأمر نفسه مع قطعات المونتاج التي تباينت بين الحدة والنعومة، مما أوضح الانتقال بين الحالات النفسية المتناقضة لشخصية إليكسيا.. والتناقض والتباين مكونان أصيلان من مكونات تجربة مشاهدة هذا الفيلم، إذ يتأرجح المُشاهد بين مشاهد هادئة وأخرى عنيفة، كذلك بين مشاهد صاخبة وأخرى قاتلة في هدوئها، وتعبيرات وردود أفعال صادمة وأخرى متعاطفة.
قد لا تعتبر تجربة مشاهدة فيلم تيتان متاحة للجميع أو محببة للجميع أيضًا، لكنه يستحق المشاهدة والتفكير.
وهكذا، بعد فوز الفيلم بالسعفة الذهبية، انضمت جوليا دوكرنو إلى نوعية المخرجين الذين منحو أفلام رعب الجسد أبعادًا فلسفية ووجودية أحيانًا، كما هو الحال في أفلام المخرج اليوناني يورجوس لانثيموس Yorgos Lanthimos، وبعض أفلام المخرج الكوري الجنوبي بارك شان-ووك Park Chan-Wook!