في الفيديو الوحيد لها بالإنجليزية على يوتيوب، تقول الروائية السويدية سارة ستردسبرج مؤلفة رواية “ڤاليري”، أو “القدرة على الأحلام”، إن الأدب “يملك دائمًا إمكانية الوقوف على الخيط الرفيع جدًا بين فكرتين متناقضتين تمامًا.. وأنا مهتمة بهذا الخليط الإنساني الذي يجمع كل الأضداد والمفارقات”. هي هنا تتحدث عن بطلة روايتها؛ ڤاليري سولاناس (9 أبريل 1936 – 25 أبريل 1988)، الناشطة النسوية والكاتبة والمسرحية الأمريكية، التي كانت كاتبة مثقفة وعاهرة في الوقت نفسه.. وهي أيضًا التي أطلقت النار على آندي وارهول!
تطرفت ڤاليري سولاناس في سعيها للحصول على حقوقها، وفي معاداة الرجال، كل الرجال.. لكنها لم تكن منتظمة في أي هيئات أو منظمات نسوية، بل كانت مثالاً حيًّا على الوجود الفردي المطلق في مواجهة المجتمع.. هذه المواجهة التي اضطرت إلى بدئها مبكرًا للغاية؛ في بيت مضطرب بين أبوين منفصلين، وأب دائم الاعتداء عليها جنسيًّا، وجَد عنيف، وحمل مبكر، ثم ولادة في السابعة عشرة، وابن أخذ منها فور ولادته ولم تره ثانية.. لكن ڤاليري لم تكن امرأة عادية؛ أكملت دراستها الجامعية وحصلت على شهادة في علم النفس وتخرجت في جامعة ميرلاند بتفوق.. ووسط كل هذا لم تجد ما يمكنها من إعالة نفسها فمارست الجنس في مقابل المال.. وفي طريقها لتحقيق عالمها المثالي؛ “عالم بلا رجال”، وضعت ڤاليري بيانها الثوري “مانيفستو الحثالة” سكام SCUM، الذي شجعت فيه النساء على الإطاحة بالحكومة، والرأسمالية، والتخلص من جنس الرجال بأكمله.
لا شك أن ڤاليري كانت ترى جيدًا؛ فقد كتبت مسرحية بعنوان “في مؤخرتك” Up Your Ass، وتدو قصتها حول عاهرة شابة تكره الرجال، ويصل بها الأمر إلى قتل أحدهم.. ڤاليري أيضًا كانت عاهرة شابة تكره الرجال ووصل بها الأمر إلى قتل أحدهم، هذا الأحدهم هو فنان البوب آرت الشهير آندي وارهول (6 أغسطس 1928-22 فبراير 1986)، الذي تعرفت إليه بعد أن قدمت إلى نيويورك في الستينيات. ويقال إن ڤاليري قدمت مسرحيتها تلك إلى آندي، ولكن آندي الذي كانت الرقابة توقف أعماله لفرط جرأتها، لم يجرؤ على تقديم مسرحية ڤاليري، وأخذ يراوغ محتجًا بأنه أضاع النسخة الوحيدة التي أعطتها إياه. فطالبته بتعويض مادي، لكنه استمر في المراوغة، وعرض عليها بدلاً من ذلك دورًا في أحد الأفلام في مقابل 25 دولارًا.. ثم حدث أن التقت بصديق آندي موريس جيرودياس، الناشر الذي عرض عليها شراء كل أعمالها التي كتبت والتي ستكتب في مقابل 500 دولار، فوافقت، ووقعت معه عقدًا غير رسمي، لكنها سرعان ما شعرت بالخديعة، وتطور الأمر فاعتقدت أن جيرودياس تآمر مع آندي ليسلباها حقوقها في كل شيء، فما كان منها إلا أن اشترت مسدسًا، وذهب إلى آندي في “المصنع”؛ هكذا كان يطلق على الستديو الخاص به، وأطلقت عليه ثلاث رصاصات؛ نجا من الأولى والثانية، لكن الثالثة كادت تودي بحياته. كما أطلقت النار على آخرين كانوا في المكتب.. وبعدها بساعات سلمت نفسها للشرطة، وقدمت لهم المسدس الذي استخدمته في جريمتها، واعترفت بصراحة أنها أطلقت النار عليه لأنه “زبالة”، وأنها غير نادمة على ما فعلت..
نجا آندي، لكنه ظل يعاني آثارًا مؤلمة طول حياته، ودخلت ڤاليري السجن الذي تضمَّن علاجها في مصحة نفسية بعد أن شخصت مريضة بالفِصام، وخرجت بعد ثلاث سنوات..
في هذه الرواية، التي نقدم مقاطع مترجمة منها إلى العربية، تحكي سارة ستردسبرج (1972-….) حكاية ڤاليري كما تراها هي، إذ لا توجد حدوتة تقليدية مرتبة، بل شذرات متفرقة من حياة مضطربة قاسية وبالغة الغرابة.. وقد كتبتها بالسويدية في 2006، وحازت على جائزة مجلس الشمال للآداب، ثم مؤخرًا؛ في 2019، ترجمتها إلى الإنجليزية ديبورا بارجان تيرنر..
المكان: غرفة فندق في حي تندرلوين، بسان فرانسيسكو، تحديدًا في منطقة ريدلايت. الزمان: أبريل 1988، وڤاليري سولاناس مستلقية على مرتبة قذرة ومُلاءات مبللة بالبول، ميتة نتيجة للالتهاب الرئوي. وخارج النافذة تومض أضواء النيون الوردية وتدور موسيقى البورنو ليلاً ونهارًا.
*
في 30 أبريل، عثر موظفو الفندق على جثتها. وقد أفاد تقرير الشرطة أنها وُجدت راكعة بجانب السرير- (هل حاولت النهوض؟ هل حاولت أن تبكي؟) – وأن الغرفة كانت في حالة جيدة؛ والأوراق مكدسة بعناية على المكتب، والملابس مطوية على كرسي خشبي بجوار النافذة. كما أفاد التقرير أيضًا أن جسدها كان مغطى باليرقات، وأن الوفاة ربما وقعت في يوم 25 أبريل.
*
يتابع التقرير ليذكر أن أحد العاملين بالفندق قد رآها قبل بضعة أسابيع جالسة تكتب بجانب النافذة..
أتخيَّل أكوامًا من الورق على المكتب.. أتخيَّل معطفها الفضي المُعلَّق على الشماعة بجانب النافذة، ورائحة الملح القادمة من المحيط الهادئ. أتخيَّل ڤاليري في الفراش مصابة بالحمى، تحاول التدخين وتدوين الملاحظات. أتخيَّل المسودات والمخطوطات في جميع أنحاء الغرفة.. ربما الشمس.. ربما الغيوم البيضاء.. أو عزلة الصحراء..
أتخيَّل نفسي هناك مع ڤاليري..
بامبي لاند
الراوي: ما نوع المواد التي لدينا؟
ڤاليري: الثلج.. واليأس المطبق.
الراوي: أين؟
ڤاليري: في فندق وضيع.. المحطة الأخيرة للعاهرات الميتات والمدمنين.. الحلقة الأخيرة من ملحمة الذل.
الراوي: من اليائس؟
ڤاليري: أنا.. ڤاليري.. كنت دائمًا أضع أحمر الشفاه الروز.
الراوي: الروز الوردي؟
ڤاليري: روزا لوكسمبورغ. النمر الوردي. كانت الورود زهورها المفضلة.. شخص ما يقود دراجته.. ويحرق حديقة الورود.
الراوي: أيوجد شيء آخر؟
ڤاليري: الناس يرقدون أمواتًا في البرية، ولا أعرف من سيدفن كل هؤلاء الناس.
الراوي: الرئيس، ربما؟
ڤاليري: نادرًا ما يوجد الموت والرئيس في مكان واحد.. لقد توقفت جميع الأنشطة في البيت الأبيض.
الراوي: أين ستذهبين الآن؟
ڤاليري: لن أذهب إلى أي مكان. أعتقد أنني سأنام فقط.
الراوي: بماذا تفكرين؟
ڤاليري: في فتيات عالم الرذيلة.. في دوروثي، في كوزمو، في سيلكي.
الراوي: أي شيء آخر؟
ڤاليري: أشياء تخص العاهرات.. تخص أسماك القرش.. أنا أترنح من احتمال كل هذه الأبدية.
مجلة نيويورك 25 أبريل 1991
في اليوم الذي أجرت فيه مجلة نيويورك مقابلة مع دوروثي عبر خط هاتفي سيء للغاية، كان للسماء فوق مدينة فينتور لون وردي مثل لوحة نائمة أو قيء قديم. فمنذ زمن بعيد لم يعد أحد يأتي لإصلاح خطوط الهاتف في فينتور، وقد أكلت طيور الصحراء الأسلاك السوداء الذابلة، مشوهة المكالمات، ضاحكة على دوروثي، وعلى طريقتها في أداء دورها كضحية للظروف السيئة؛ لذا خرجت كلماتها كما لو كانت نتف أوراق في مهب الريح..
مجلة نيويورك: دوروثي موران؟
دورثي: نعم.
مجلة نيويورك: نود أن نتحدث إليكِ عن ڤاليري.
دورثي: نعم.
مجلة نيويورك: مرَّ اليوم ثلاث سنوات على وفاتها.
دورثي: أعرف.
مجلة نيويورك: أخبرينا عن ڤاليري.
دوروثي: ڤاليري؟
مجلة نيويورك: ابنتك.. ڤاليري سولاناس.
دوروثي: شكرًا لك، أنا أعرف من هي ڤاليري.
مجلة نيويورك: أخبرينا بشيء..
دوروثي: ڤاليري..
مجلة نيويورك: لماذا أطلقتْ النار على آندي وارهول؟ هل كانت عاهرة طول حياتها؟ هل كرهت الرجال دائمًا؟ هل تكرهين الرجال؟ هل أنتِ عاهرة؟ أخبرينا كيف ماتت.. أخبرينا عن طفولتها.
دوروثي: لا أعرف.. لقد عشنا هنا في فينتور.. لا أعرف.. الصحراء.. لا أعرف.. لقد أحرقتُ كل أغراضها بعد وفاتها.. الأوراق والدفاتر..
(صمت).
مجلة نيويورك: هل يوجد شيء آخر؟
(صمت).
دوروثي: ڤاليري.. كانت تكتب دائمًا.. تخيَّلت نفسها كاتبة.. أظن أنه كانت لديه مو.. مو.. موهبة.. كانت لديها موهبة.. وكان لديها حس دعابة رائع.. (تضحك).. لقد أحبها الجميع.. (تضحك مرة أخرى).. أنا أحببتُها.. وماتت في 1988.. في 25 أبريل.. وكانت سعيدة على ما أعتقد.. هذا كل ما أستطيع أن أقوله.. ڤاليري.. كانت متفانية، تريد أن تصل إلى السماء، هكذا أراها أنا.. وأظن أن هذا ما حدث..
مجلة نيويورك: هل كانت مريضة نفسيًّا؟ يقول الناس أنها دائمة التردد على مستشفيات الأمراض العقلية طوال السبعينيات.
دوروثي: لم تكن ڤاليري مريضة عقليًّا.. حتى إنها عاشت مع رجل لبضع سنوات.. في فلوريدا. على الشاطئ، عند فنار إليجاتور.. في الخمسينيات.
مجلة نيويورك: هناك أدلة على أنها كانت في مستشفى إلمهيرست للأمراض النفسية؟ نحن نعلم أنها كانت في بلفيو.. ولدينا تقارير أنها أمضت بعض الوقت في مستشفى الولاية بجنوب فلوريدا..
دوروثي: هذا ليس صحيحًا.. لم تكن ڤاليري مريضة عقليًّا قط.. ڤاليري كانت عبقرية.. كانت فتاة صغيرة غاضبة.. فتاتي الصغيرة الغاضبة.. ولم تكن قط مريضة عقليًّا. كان لديها بعض التجارب الغريبة مع رجال غرباء في سيارات غريبة.. حتى إنها مرة تبولت في كوب عصير فتى مقرف.. لقد كانت كاتبة.. يمكنك تدوين ذلك.. سأغلق الخط الآن..
مجلة نيويورك: يقال إن أباها اعتدى عليها جنسيًّا.. هل تعلمين شيئًا عن ذلك؟
دوروثي: أنا بصدد إنهاء المكالمة الآن.. اكتب أنها كانت كاتبة.. اكتب أنها كانت باحثة في علم النفس.. اكتب أن الحب هو الذي يدوم إلى الأبد لا الموت..
(انتهت المكالمة).
فندق بريستول، 56 شارع مايسون، تندرلوين، سان فرانسيسكو، 25 أبريل، 1988، يوم موتك
الدم يتدفق ببطء شديد من جسمك. تخمشين ثدييك، تبكين وتصرخين، تنزلقين في الفراش.. مُلاءات الفندق متسخة، أصبحت قديمة ورمادية وكريهة الرائحة، بول وقيء ودم مهبلي ودموع، تطفو سحابة ذهبية من الألم على عقلك وأمعائك. خطوط عمياء من الضوء في الغرفة، وانفجارات من الألم في جلدك ورئتيك، ترنح، غرق، حريق، التهاب في ذراعيك، حمى، هجران، رائحة الموت النتنة. لا تزال شذرات الضوء الفضية تومض؛ ويداك تبحثان عن دوروثي.. أنا أكره نفسي، لكني لا أريد أن أموت. لا أريد أن أختفي. أريد أن أعود. أتوق إلى يديَّ شخص ما، يديَ أمي، وذراعي فتاة. إلى صوت من أي نوع. أي شيء غير كسوف الشمس هذا.
دوروثي؟
دوروثي؟
حيوانات الصحراء تصرخ يائسة. الشمس متوهجة فوق جورجيا. والبيت الصحراوي بلا صور أو كتب أو أموال أو خطط للمستقبل. سماء فينتور الوردية المنتفخة تضغط على النافذة، كل شيء مغطى بغطاء من المرح مرة أخرى، دافئ، رطب.
عثرت دوروثي على بعض الفساتين القديمة في حقيبة، ربما أنتما في طريقكما إلى المحيط مرة أخرى، إلى فنار إليجاتور، والسماء اللامتناهية، أنتما فقط. تدورين أمام المرآة، تتركين السجائر مشتعلة في جميع أنحاء الغرفة؛ في أواني النباتات، على المنضدة بجوار السرير، في علبة البودرة.
ڤاليري: (بضحكة ودودة مكتومة): أنت مهووسة بإشعال الحرائق!
دوروثي: كل هذه الفساتين بها علامات سوداء على أساورها.. انظري إلى هذا الثلج الأبيض.. تبدو وكأنها كانت ضحية حرب نووية.
ڤاليري: كانت دائمًا تشبه حربًا نووية تقريبًا.
دوروثي: من الغريب أن تنسي أحد فساتينك المفضلة! لا أستطيع أن أتذكر من أين أتى. أتذكر فقط كيف أصبح كل شيء من حولي أبيض تمامًا ونظيفًا تمامًا عندما كنت أرتديه؛ السماء، أنفاسي، أسناني.. هل تتذكرين عندما نسيت كل الشموع في البار واشتعلت النيران في الستائر؟
ڤاليري: أتذكر أنك أشعلت النار في لحية ذلك الرجل المُسِن عندما كنتِ تشعلين غليونه.
دورثي: هل تتذكرين عندما أشعلت النار في شعري؟
ڤاليري: كنت تفعلين ذلك دائمًا، وكنت دائمًا أجري بحثًا عن الماء لإنقاذك.. أتذكر أني أنقذتك إلى الأبد.
دوروثي: لقد فعلتِ.
بريق ناطحات السحاب والطرق المعبدة في الظلام بينما تواصل الطائرة تحليقها فوق مطار كينيدي؛ المصانع الدائرة، راكبو الأمواج الذين يتزلجون بامتداد الشواطئ، حقول القطن والصحارى والمدن، وحركة المرور في نيويورك تتجه ببطء إلى الأمام. شذرات الضوء والذكريات تلمع باهتة في وعيك.. منطقة الأضواء الحمراء الداكنة بالخارج، وأضواء النيون، وفتيات يطاردن الرياح في الشوارع، بريق الحياة، والابتسامات المغرية، والأحلام المُتقيئة.
*
إذا لم يكن عليكِ أن تموتي، فستكونين ڤاليري مرة أخرى؛ في معطفك الفضي، وڤاليري مرة أخرى بحقيبة يدك المليئة بالمخطوطات، والمبادئ النظرية. وإذا لم يكن عليك أن تموتي الآن، فستلمع الدكتوراه التي أعددتها في الأفق. وسيكون ذلك مرة أخرى، في الأربعينيات، في الخمسينيات، في الستينيات، في فينتور، أو مريلاند، أو نيويورك.. هذا الإيمان بنفسك: الكاتبة، والعالمة، وأنا.. الجوع الكبير والدوامة في قلبك، القناعة، وتردد أصداء الشعارات بين المباني في الشارع الخامس، والرئيس الجالس خلف مكتبه في واشنطن..
لا يوجد سوى نهايات سعيدة.
يمكن للفتاة أن تفعل أي شيء تريده
أنت تعلمين أنني أحبك
تنحسر الصيحات، وتتبخر الحرارة، ورائحة نيويورك كرائحة التفحم. الشارع الخامس ينغمس في السواد، نفق ضيق تحت الأرض كريه الرائحة، يتبقى فقط الطعم الحامض للأمراض القاتلة وموسيقى البورنو التي لا تنتهي أبدًا. ضوء نهار يلمع في تندرلوين، وستائر بلون القيء على نافذة ملطخة، وأكوام من الملاحظات، وملابسك الداخلية الملطخة بالدماء على ظهر كرسي، وعلى منضدة بجوار السرير زجاجة من الروم لن تتمكني من شربها أبدًا. لقد سيطرت الحكة على جسمك. إنه أسوأ من آلام صدرك وصعوبة التنفس، وحقيقة أنك فقدت منذ زمن طويل كل الإحساس بيديك وقدميك.
يبدو شارع مايسون مهجورًا تمامًا، لا صراخ، لا حركة مرور، ولكن على مسافة قصيرة توجد المدينة الحقيقية؛ حيث أناس حقيقيون وشمس وأشجار، وفتيات يركبن الدراجات، ويضعن الكتب في سلال الدراجات، وعلى مسافة بعيدة ما يزال المحيط البارد يضرب الشاطئ.
الرذاذ المالح للمحيط الهادئ يكتسح الشواطئ الرملية، وتوقعات بوجود أسماك القرش في الأعماق، بالموت غرقًا، بالاختناق، بالاستلقاء على الشاطئ، بالقتل، بالاغتصاب. لطالما كان شهر أبريل هو أقسى الشهور. أتمنى أن يتلاشى ضوء النهار، وأن يغطي أحدهم الشمس ولمبات النيون، وأن يقوم شخص ما بإيقاف تشغيل الموسيقى الإباحية، وهذا المرض العضال. لا أريد أن أموت. لا أريد أن أموت وحدي.
*
تومض فنتور، دوروثي في الغرفة، وشريط من الورق المحترق يتصاعد ويختفي في غرفة مظلمة تمامًا.. رمال الصحراء تهب دائمًا في عينيك وتشوش رؤيتك. الرمال تحول كل شيء إلى رذاذ حلو وساخن؛ دواء مخدر ومهدئ.
*
لقد مضى وقت طويل منذ زيارتك الأخيرة للصحراء، منذ الغوص الأصفر في وسط اللامكان. الشرفة تواجه ساعات لا حصر لها من الشمس، وآلة صنع النبيذ مخفية في الزاوية، وموسم طويل من الحرارة والعشب الجاف.. وعاء من الضوء الذهبي، كنت تملكين النور حتى هربتِ في الصحراء ولم ترغبي قط في العودة إلى المنزل مرة أخرى.
هل تتذكرين، يا دوروثي؟
هل تتذكرين كيف كنا نذهب إلى النهر معًا؟
ننزلق، ورجل جديد خلف عجلة القيادة. وشاحك يرفرف في مهب الريح. شعرك الفاتح المغسول للتو. الأغنية. أنتِ تغنين وتثرثرين في المقعد الأمامي.
أنت وأنا تحت السماء المجنونة..
نيويورك، أكتوبر 1967
فنان البوب آندي وارهول دعاكِ إلى المصنع.. في المصعد في طريقك إلى المصنع، ابتسامتك تملأ المرآة، تطلين شفتيك بلون الكريز الأحمر. خداك ورديتان، والمسرحية في جيب معطفك ملفوفة في مناديل ورقية.
في الصالة يرحب بك بيلي نيم بذراعين مفتوحتين وعينين ثاقبتين، وفجأة يظهر آندي وارهول يقبلك على خديك، وبقايا اللافتات تزين سترته وفي يده كاميرا بولارويد.
*
يتصاعد دخان الحشيش فوق تسريحات الشعر الممشط إلى الخلف. يتمتع آندي وارهول بعادة الانزلاق داخل الأجنحة والخروج منها؛ يطفو من العدم ثم يختفي ثانية بهدوء في بحر من الجدران البيضاء والضيوف. يظهر غريبًا براقًا متلألئًا، ثم ما يلبث أن يذوب؛ وهي طريقته الرائعة في إخفاء إنسانيته ونزع سلاحه.
آندي: مرحبًا ڤاليري.
ڤاليري: آندي ستيبي وارهول.
بيلي: ڤاليري سولاناس.
ڤاليري: أرى أنك تخلصت من إنسانيتك بطريقة مثالية.
آندي: مرحبًا بك في المصنع يا ڤاليري.. هذه المرة الأولى لك هنا، أليس كذلك؟
ڤاليري: ليس كما أذكر. نحن بحاجة إلى متابعة جلسة الخراء هذه على الفور.
بيلي: بالتأكيد يا ڤاليري. أترغبين في شرب شيء أولاً؟
ڤاليري: بعض الشامبانيا من فضلك. وشيء قوي للتدخين.. لكن عليك أولاً أن تقولي بكل الطرق أنكم جميعًا خراء.. هيا، ردد ورائي: أنا خراء حقير!
آندي: أنا خراء، خراء حقير تافه.
ڤاليري: (وهي تشير إلى بيلي): جيد.
بيلي: ماذا يفترض أن أقول؟
ڤاليري: أنا خراء حقير تافه..
بيلي: أوه.. أجل. أنا خراء، خراء حقير تافه.
ڤاليري: رائع.
بيلي: وماذا تكون جلسة الخراء؟
ڤاليري: لمساعدة الرجال على المشاركة في بيان الحثالة.. سيقيم الحثالة جلسات الخراء، حيث يلقي كل رجل حاضر خطابًا يبدأ بجملة: “أنا خراء، خراء تافه حقير”، ثم يشرع في شرح كيف هو حقير بكل الطرق.. وستكون مكافأته على القيام بذلك هي الفرصة للتآخي بعد الجلسة لمدة ساعة كاملة مع الحاضرين.
آندي: هذا يبدو رائعًا.
ڤاليري: آندي لقد أحضرت معي مسرحيتي “في مؤخرتك”.. كان لدي بعض العناوين البديلة “في الوحل” أو “القرف الكبير” وغيرها.. أريدك أن تقرأها.. أما أنت يا سيد خراء (وخزت بيلي في بطنه) يمكنك أن تسرع لتحضر بعض الشمبانيا.. وتثبت لنا كم أنت خراء بكل الطرق..
آندي: ماذا؟
ڤاليري: خراء حقير تافه..
آندي: بالتأكيد يا ڤاليري. تعالي ورحبي بالآخرين أولاً.
ڤاليري (تخرج المسرحية وتسلمها إلى آندي): هذه النسخة لك يا آندي. المسرحية الوحيدة التي تستحق أن تُعرض..
آندي: (مدخنًا) هذا مثير للاهتمام.
ڤاليري: ما رأيك؟
آندي: مثير للاهتمام يا ڤاليري.. يمكن أن ننتجها فعلاً.
*
يبدو وجه آندي كجرح ملتهب، تكشف ضحكته عن أسنانه المتحللة تحت باروكته الفضية، ملابسه برائحة طحالب البحر، يتلعثم ويضحك. تفرق الناس وجلسوا على الأرضية البيضاء اللامعة، يتهامسون، يتحركون في عجالة دون أن يقولوا مرحبًا. يمر بول موريسي وفي يده باقة من الورود. إحدى الخلفيات البيضاء الكبيرة ابتلعت آندي.
لاحقًا أخبرتِ الأخت وايت عن ذلك: عندما تلقيتُ دعوة إلى المصنع، ذهبتُ دون أي توقعات، وغادرت وحقيبتي مليئة بالوعود. لم أكن أعرف الكثير عن آندي وارهول، مع أنه أنه كان من أكثر الشخصيات شهرة في نيويورك، يعمل في شيء له علاقة بالرسم والطباعة. لقد رأيته على شاشة التليفزيون، عندما كان يطلي أظافره ويطلق على نفسه اسم الآنسة وارهولا ملكة جمال العالم. أعلم أنه كان أميًّا، وكان يتصفح مجلات الموضة دون حتى فهم التعليقات التوضيحية المرفقة، وكان ينشر شائعة عن نفسه أنه كان يرتدي زي متشردة، ويتسلل في أنحاء نيويورك ليلاً ويوزع الطعام على المتشردات الأخريات في الشوارع. لقد أحببت المصنع على الفور؛ كان هناك دائمًا طعام وشيء للشرب، وكانوا جميعًا مهووسين. يجلس مدمنو المخدرات والعاهرات حول الجدران في انتظار أن يأتي آندي ويستخرج منهم الفن.. لقد قررت على الفور أن يقود آندي حملة مساعدة الرجال في بيان الحثالة، لقد كان مثاليًا، هذا المخلوق الصغير المتلألئ، الأمهق ذو الباروكة الفضية..
الأذرع مفتوحة، والإيماءات رحبة، وفوران الشمبانيا يفرقع في فمك. المصنع الفضي مرآة عملاقة، لست متأكدة من عدد الأشخاص الذين يتجولون في المكان بالفعل؛ تعكسهم المرايا الفضية عشرة أضعاف وتشوههم، وعندما تنتشين، تتحدثين إلى شخصيات منعكسة أيضًا، ويسعدك أن تري أنك تبدين غريبة حتى بين الغرباء، في حذائك المرن المتعرق ومعطف الفرو المتسخ. قد يكون التحدث إلى المرايا مملاً إلى حد ما، ولكن لأن كل شيء حول آندي له نفس السطح الأملس، فلا يهم.
*
تُعرض أفلام آندي على الجدران، وعندما لا تكونين منتشية، تبقين بالقرب منهم، بدلاً من المرايا. أنت عنكبوت أسود يحب المصنع. لاحقًا أخبرتِ الأخت وايت عن ذلك:
كانت هناك أكياس تسوق في كل مكان في المصنع. أحب آندي التسوق، ودائمًا كان لديه المال، كان يعوم في المال والعشب. كان التسوق جزءًا من الفن. كان متورطًا في شيء يتعلق بالحدود بين الفن والتسوق. الفن، مؤخرتي. لقد أحب الرجل الأشياء الجديدة، أحب الشراء، أحب امتلاك أموال لا حدود لها. لقد كان خولاً ماديًا، هذا كل شيء. “الفنان” الذكر يا له من تناقض في المصطلحات. انزلق آندي مثل الظل عبر المصنع، يتطفل على ذكريات الآخرين الملطخة بالدماء. أحضر لي الشمبانيا وأراد أن يعرف كل شيء عن طفولتي وخططي المستقبلية. أحببت كثيرًا أن أكون هناك ، وأردت أن أكون واحدة من مدمني الإبر والعاهرات الذين يجلسون بجانب الجدران، يتصببون عرقًا وينتظرون أن يأتي آندي ويستخرج منهم الفن.
لقد كانت أيامًا سعيدة جدًا؛ ضحك آندي على كل ما قلته، وقرأت بصوت عالٍ فقرات من البيان، على تلك الأسطح الضخمة. لقد أردت أن يبتلعني المصنع إلى الأبد.
مستشفى إلمهرست للأمراض النفسية، 24 ديسمبر 1968
الثلج يذوب على رأسك. لقد مضى وقت طويل منذ أن توقفت عن انتظار مكالمة هاتفية. كنتِ عادة ما تتخلين عن مكالمتك الأسبوعية لإحدى فتيات المخدرات اللائي يتجولن دائمًا في الممر كي لا تفوتهن المكالمات التي لا تأتي أبدًا. خلال عيد الميلاد، يتمتع جميع الوافدين غير الجدد بامتياز يتمثل في ثلاث محادثات لكل منهم. وهذا كرم كبير من إدارة المستشفى، لكن في الوقت الحالي لا يمكنهم ضمان أي نوع يمكن للمرضى الاتصال به.
*
النوافذ في غرفة الطعام مغطاة بالصقيع، والطيور تحدق في المرضى من خلال ألواح الزجاج، والثلج يتلألأ ويتألق بين ستائر المستشفى.
آندي وارهول يجيب بنفسه بصوت هامس متردد.
التحدث إلى آندي يشبه التحدث إلى نفسك؛ لقد تغير صوته منذ المرة الماضية، ذبل وتشوه، يبدو كل ما يقوله وكأنه سؤال.
م.. م.. مرحبًا؟
فاليري: مرحبًا آندي، هذا أنا.
(صمت)
فاليري: بماذا تشعر يا آندي؟
(صمت)
فاليري: ميلادًا مجيدًا يا آندي.
(صمت)
فاليري: لقد قلت ميلادًا مجيدًا..
آندي: ميلادًا مجيدًا يا فاليري؟
فاليري: لماذا لم تأتِ لتراني؟
(صمت)
فاليري: قرأت في الصحيفة أنك سامحتني.
آندي: نعم؟
فاليري: هل سامحت فاليري؟
آندي: نعم؟
فاليري: إذا كنت قد سامحتَ فاليري، فلماذا لم تأتِ لتراها؟
آندي: عليَّ إنهاء المكالمة الآن…؟
فاليري: هل تحتفل بعيد الميلاد في المصنع؟
آندي: وداعًا يا فاليري؟
فاليري: لا أفهم..
آندي: لست غاضبًا يا فاليري. لكن وداعًا.. لا أستطيع التحدث أكثر يا فاليري.. علينا العمل الآن يا فاليري…؟
فاليري: حقًا.. اقتراحي التالي هو أن تعرض الأجزاء المصابة من جسمك في بعض متاحف لندن القديمة، ونعتبرها هوت كوتور.
(تنتهي المكالمة).