في أول لقاء مع يوسف إدريس فقدت نصف حبي له. ربما كان اللقاء الوحيد؛ طالب بالجامعة يسعى إلى أديب وكاتب مشهور، بعد أن طلبت منه على التليفون حوارًا لمجلة (أصدرنا منها عددًا واحدًا في كلية علوم المنصورة، وكان الحوار للعدد الثاني الذي لم يصدر). وافق بعد مجهود ليس قليلاً. وقابلناه في مكتبه بالأهرام. وهناك كانت الصدمة الأولى: نظرت إلى أصابع يوسف إدريس فوجدتها غليظة، ووجدته يرتدي بذلة كاملة. وهذه هزيمة للصورة الموجودة في خيالي المثالي. خيال مراهقين يرسمون صورًا للكتاب والفنانين عن بعد. أقرب إلى الفرسان في قصص الطفولة أو للرسوم التوضيحية في كتب المدرسة. أضحك الآن على صدمتي في أصابع يوسف إدريس. فأنا الآن ضد الصور الجاهزة والكليشيهات، ولا أحب وضع الأدباء والفنانين ولا أي شخص في إطار يقيده ويخرجه من إنسانيته، بمعنى آخر ضد تحويل شخص إلى أسطورة ومحاسبته على أساسها. أصبحت منحازًا لمحبة بلا شروط ولا قيود مسبقة.
تجاوزت الأولى، لكن الصدمة الثانية لم أغفرها ليوسف إدريس حتى الآن. كان الموعد في وقت معركته مع الشيخ متولي الشعراوي. كتب في كتابه “فقر الفكر وفكر الفقر” مقالة طويلة عنه وصفه فيها بأنه “راسبوتين الإسلام”. أحببت الوصف ووجدته مناسبًا لموقفي من الشيخ الذي حوله التليفزيون إلى “صورة مقدسة” لا يناقشه أحد في أفكاره ولو كانت خرافات تنتمي إلى عصور الانحطاط في الفكر الإسلامي (روَّج لحديث الذبابة الذي يقول فيه إن الرسول قال إذا سقطت ذبابة في وعاء أحدكم بجناحها فليغمر جناحها الثاني ففيه دواء للسم الموجود بالجناح الأول).
المهم بدأت معركة ضد يوسف إدريس من مقال محمد عبد القدوس في الأخبار. تبعها جوقة كاملة من كهنة الشيخ المقدس. كنا وقتها في منتصف الثمانينات والتيارات الدينية والمحافظة في شراستها الأولى. ويوسف إدريس مجروح بعد معركة “البحث عن السادات”. والحكومة تدلل شيوخها واتباعهم. تريدهم معها في معركتها ضد الجماعات الإسلامية المسلحة. واضطر يوسف إدريس إلى الاعتذار. وعندما سألناه قال: “كانت غلطة مطبعية”. تعجبنا، فالمقال على ست صفحات. كما أنه لم يكن باديًا علينا أننا من السائرين في موجة التعصب الديني أو من المغرمين بالشيخ التليفزيوني. لكن يوسف إدريس كان يشعر أنه نجم في غير عصره، ولم يكن يهمه أن يصبح بطلاً في تصريحات أمام شباب في أول العشرين مادام الكتاب سيظل في متناولهم. لم أتخلص من صدمتي الثانية. لكنني مع السنوات والمعرفة الأكثر اكتشفت أن محبتي ليوسف إدريس زادت. لم تعد الأخطاء مزعجة بل جزءًا من المحبة، أنتقدها لكن لا تقلل قدر تعلقي بكتابته ولا بأسلوبه في الحياة والأدب. قارنت كثيرًا بينه وبين نجيب محفوظ. أحببت البناء المنظم عند نجيب محفوظ، لكنني أشعر بقرب أكثر من شهوة يوسف إدريس في الاحتراق والعبور كالقذيفة في الزمن الراكد.
وأحب أخيرًا تلك الحكاية التي حكاها على سرير سفري صغير لفتحي غانم “كنت طبيب امتياز في الاستقبال بقصر العيني، وذات ليلة جاءوا بفتاة في شبه غيبوبة. كانت مدمنة. وكان لا بد أن احقنها. وما كادت ترى الحقنة في يدي حتى هجمت عليَّ. انتزعتها. فسقطت الأنبوبة على الأرض وتهشم زجاجها. أتدري ماذا فعلت. ارتمت على الأرض وهجمت على الزجاج المتناثر تلعقه بلسانها، لا يهمها أن تجرح لسانها أو تسيل دماؤها، لا يهمها سوى أن تلعق السائل على الأرض. لحظة كاملة من التركيز على ما تريده حتى لو كان ثمنها الموت”. حتى إعجابي بفكرة الاشتعال لم تعد بقوتها الأولى. أدركت بالتجربة أن هناك كتابة على مهل، لديها قدرة علي اختراق الطبقات والأنسجة العميقة وتمنح قوتها بطريقة التعتيق. والروتين له مكانه في إتاحة الفوضي المطلوبة للكتابة.
وعلى عكس التوقعات الكبيرة دفع يوسف إدريس ثمن اشتعاله، لأنه ارتبط مع زمنه والتصق بعالم صراعات الزمن الذي عاشه، واحترق أكثر، ما منحه قدرة أذكى على الطيران فوق الفجوة الزمنية. لم يستطع يوسف إدريس الهروب من زمن طغى فيه ظل الجنرال على كل شيء حوله حتى خصومه.
إليكم بعض حكايات عن يوسف إدريس… قد نرى منها جانبًا من صورة، على أقرب مسافة من الزعيم/الجنرال.
ارتبك يوسف إدريس أمام مدير مكتب الرئيس: ماذا يفعل؟! هل يغادر قصر القبة على الفور؟ أم يطلب مقابلة الرئيس؟ ينتظر اقتراحًا من الرجل الذي ابتسم ابتسامة مدربة وهو يمنحه مظروفا يحوي في داخله 2500 جنيه؟ أم يبلغه برفض منحة الرئيس؟!
كان المبلغ وقتها (1965) كبيرًا ويساوي 10 آلاف ليرة لبنانية هي قيمة جائزة حصل عليها يوسف إدريس من مجلة “حوار” التي كان يصدرها في بيروت شاعر معروف هو توفيق صايغ، ومراسلها في القاهرة الدكتور غالي شكري. وتحصل على تمويل من المنظمة العالمية للحرية الثقافية كنسخة عربية مقابلة للمجلة الإنجليزية Encounter.
جاءت جائزة يوسف إدريس في عز الحرب الدعائية بين عبد الناصر والغرب. وتسربت معلومات عن علاقة منظمة الحرية الثقافية بالمخابرات الأمريكية (في رواية أخرى حلف الأطلنطي)، ومن ثَم اعتبرت “حوار” مجلة المخابرات الأمريكية، ووصلت يوسف إدريس رسالة عبر شخص من النوع الذي يكون وثيق الصلة بمطبخ السياسة ومجتمع المثقفين في نفس الوقت، والرسالة تطلب منه التنازل عن الجائزة.. وعندما فعل أصدر الرئيس عبد الناصر قرارًا بمنحه نفس قيمة الجائزة من الخزانة المصرية.
هذه واحدة من الحكايات المثيرة في علاقة يوسف إدريس بجمال عبد الناصر؛ الأديب والجنرال. كلاهما لمع في وقت واحد تقريبًا. عبد الناصر صعد إلى منصة المسرح السياسي بداية من 1952، وعمره لم يتجاوز 34 عامًا، بينما صدرت أولى مجموعات يوسف إدريس “أرخص ليالي” في 1954 وكانت ثورة في الأدب (كما يصفها نجيب محفوظ). وكان وقتها شابًا عمره 27 عامًا، قادمًا من ريف الشرقية، عائلته من المستورين الذين استطاعوا المواصلة في تعليمه بصعوبة حكى عنها كثيرًا. عرف الكتابة عبر السياسة، كان زعيمًا سياسيًّا في قصر العيني، ضمن دفعة زامل فيها صلاح حافظ ومصطفى محمود (اسمان مشهوران؛ الأول ظل يساريًّا حتى مات وكان واحدًا من أسطوات الصحافة في مدرسة روز اليوسف، والثاني كان من اليسار المتطرف في الخمسينيات وتحول من رياح الأصولية الإسلامية في السبعينيات إلى شيخ مودرن)، زميله الثالث والأقرب كان محمد يسري أحمد الذي يبدو أنه من سلالة كشافي الطرق، يفتحون الأبواب أمام المواهب ثم ينسحبون في الظل، فهو الذي علم يوسف إدريس كتابة القصة لكنه اختفى مع النداهة.
عمل يوسف إدريس طبيبًا في مستشفى عمال السكك الحديدية، في نفس الوقت كان عضو مكتب الأدباء والفنانين في تنظيم شيوعي سري اسمه “حركة الديمقراطية والتحرر الوطني” الشهيرة باسم “حدتو”. في سياق مختلف يصف يوسف إدريس علاقته بالتنظيم على أنها لم تكن عضوية منظمة، بل كانت مجرد اقتراب يكاد يكون عاطفيًّا. المهم هنا أن علاقته بالزعامة السياسية انتهت تقريبًا مع الحملة الأولى لضباط يوليو على الشيوعيين، واُعتقل يوسف إدريس 18 شهرًا، بدأت في أغسطس 1954 وانتهت بقصة مضحكة بطلها صلاح سالم، الضابط المسؤول عن ملف السودان في مجلس قيادة الثورة، والشهير بفلتان الأعصاب والأفكار المتهورة، إذ في إحدى الأزمات مع الخرطوم فكر في أنه يمكن أن يُخرج عددًا من الشيوعيين المعتقلين لكي يوفدهم في مهمة إقناع الشيوعيين في السودان بتأييد الوحدة مع مصر. خرج يوسف إدريس مع المعتقلين، لكن المهمة فشلت (لم يتم السفر أصلاً) وفشل معها صلاح سالم.
والحقيقة أن يوسف إدريس لم يكن من المغرمين بضباط يوليو (قال مرة إنها انقلاب بمساعدة أمريكية حولها عبد الناصر إلى ثورة وطنية) هكذا بدا أنه رغم كل شيء وقع في هوى عبد الناصر.
1. لغة الآي آي
قبل حكاية الجائزة اللبنانية بعامين فقط (1963) رفضت لجنة تحكيم جائزة الدولة التشجيعية في الأدب منح يوسف إدريس الجائزة، لأنها أحصت في قصصه نسبة من اللهجة العامية تفوق الحد الذي اشترطه كمال الدين حسين رئيس المجلس الأعلى للفنون والآداب، وصاحب لائحة الجوائز الأدبية التي حرمت تحريمًا قاطعًا منح الجائزة لعمل أدبي يستخدم العامية، وكانت رئاسته للفنون والآداب (وهو مقطوع الصلة بأي منهما) أحد مهامه في تأمين قطاعات التربية (شغل وزارة التعليم فترات طويلة) والثقافة باعتبارها من ملاعب تكوين أجيال على مقاس ضابط الثورة، الذين ينتمون في الغالب إلى أصول ريفية وعقول منضبطة على الأوامر وعدم الخروج عن المتعارف عليه، ولم يكذِّب خبرًا فأشاع الأفكار المحافظة المرعبة من الجديد، وطارد الخروج عن المألوف. والمثير أن بصمته على التعليم والثقافة لا تزال محسوسة حتى الآن ولم تذهب مع ما ذهب من يوليو 1952. أي أن يوسف إدريس لم يستطع الإفلات من غضب السلطة الثقافية بل إنه لم يحصل على جائزة من الدولة إلا وهو على سرير الموت (كان في غيبوبته في لندن ووزارة الثقافة تعلن فوزه بالجائزة التقديرية)، ذلك رغم أنه حوَّل غضب الزعيم السياسي عليه إلى نوع من الرضا والقبول. حتى إن عبد الناصر بنفسه هو الذي شطب اسمه من قوائم المعتقلين في حملة الشيوعيين الثانية (1959). بل إنه كان قبلها بعام (1958) الوسيط للقاء بين محمود أمين العالم (الكاتب المعروف وممثل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الموحد) وأنور السادات حين كان على رأس الاتحاد القومي -التنظيم السياسي الذي أراد به الجنرالات تأميم الأحزاب وعجن كل التيارات تحت السيطرة في تنظيم كان هو بذرة الاتحاد الاشتراكي فيما بعد. وقد فشلت المقابلة لأن العالم رفض أن يحل الشيوعيين تنظيماتهم، واقترح أن يعملوا في إطار التنظيم الرسمي وأن يحتفظوا بكيانهم التنظيمي.
الحكاية وردت في كتاب فاروق عبد القادر “البحث عن اليقين المراوغ: قراءة في قصص يوسف إدريس” ومعها كانت إشارة إلى أن اسم يوسف إدريس شُطب (رغم فشل اللقاء) من اعتقالات ليلة رأس السنة في 1959 ومعه محمد عودة وأحمد عباس صالح. وقد كانوا نواة مجموعة من المثقفين اليساريين والقوميين التفوا حول ضابط نشيط اسمه كمال رفعت وأعادوا إصدار مجلة “الكاتب” (كان يصدرها طه حسين والعدد الأول من إصدارها الجديد خرج في يناير 1964). وقد استطاعت أن ترفع راية الدعوة القومية في واقع ما بعد الانفصال بين مصر وسوريا وراية الدعوة لقيام يسار غير ماركسي وطريق عربي للاشتراكية.. والحكاية هنا تشير إلى أن غرام يوسف إدريس بعبد الناصر لم يتوقف عند حد المقالات “العاطفية” ووصل إلى لعب دور غير مباشر للتبشير بأفكار الثورة.
حب أم انتهازية؟
خصوم يوسف إدريس يرونها انتهازية. لكن الحقيقة أن الأمر يحتمل تصورًا آخر، وهو أن الغرام بزعيم من نوع عبد الناصر كان غرامًا بكاريزما جذابة، فارس نبيل، مخلص سياسي. وليس بنظام حكم، وهذا ما يفسر أن يوسف إدريس في قصصه يرصد العلاقة المركبة بين الزعيم والمجتمع. ولا ننسى الإشارة إلى إن الغرام بدأ بتأميم القناة والعدوان الثلاثي في 1956 أي عندما أصبح عبد الناصر زعيمًا على موديل الخمسينيات والستينيات الأقرب إلى “الأب” بالمعنى السياسي والاجتماعي، والذي تتراوح العلاقة به بين الحب المقدس ولعنة الضعفاء الذين يتمردون على سلطته لكن ليس إلى الحد الذي يتخلون فيه عن حاجتهم الكاملة له.
هذا الاتجاه في الكتابة الرمزية عن عبد الناصر وصل إلى قمته حين فسرت قصته الشهيرة “أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور؟” على أنها صورة تهكمية لقبول عبد الناصر مبادرة روجرز الأمريكية للسلام وذلك بعد العداء الطويل لأمريكا والرأسمالية، وهي ملاحظة فسرها يوسف إدريس بنفسه في حوار مع الناقد الهولندي (ب.م. كرير شويك) رأى فيها أن بطل القصة أو الشيخ الأزهري يترك المصلين ساجدين في الركعة الأخيرة ويقفز من الشباك لمقابلة لي لي الفاتنة التي أغوته.. وهو ما يقابله أن عبد الناصر ألح -طوال عشرين سنة- على كراهية أمريكا وأبقى الشعب ساجدًا في هذا الوضع، ثم قفز من الشباك ليقابل روجرز، فلماذا إذن يندد بأمريكا؟! “ذلك هو السبب الذي دفعني إلى إلقاء كل اللوم على الواعظ”؟.
2. العسكري الأسود
يمكن أن نضيف إلى علاقة يوسف إدريس بعبد الناصر تأثير التكوين الشخصي ليوسف إدريس الذي يميل إلى نجومية متوحشة (لم يكن يطيق ابتعاد الأضواء عنه.. ولا الانزواء في الظل.. وربما هذه شخصية زعيم غير متحققة أو نرجسية لم تكن تخفى على أحد).
زهوة يوسف إدريس في سنوات من 1962 إلى 1967 يراها هو أسعد سنوات الشعب المصري وكان فيها نجمًا بمعنى الكلمة. من ألمع كتاب القصة القصيرة (وهذا لم يمنحه جائزة كمال الدين حسين). ومثقفًا مؤثرًا في زمن الثورات وقيادة مصر لعجلة التغيير على موديلها القومي. يسافر يوسف إدريس للجزائر للمشاركة في حرب التحرير وتُكسر ساقه. في هذه الرحلة تعرَّف على نخبة من ثوار الجزائر في مقدمتهم الرئيس وأصبح هناك نجمًا محليًّا. هذه العلاقة مع الثورات توافق هواه فهو يرى أن الثورة (والتغيير) هما هدف السياسة والكتابة. كما تحقق له من ناحية أخرى الحافظ على كشافات الإضاءة التي تحمل الدولة مفاتيحها. كانت نجوميته صاعدة عبر الأدب، فهو الذي حول القصة من حكاية أو حدوتة ميتة إلى قذيفة ساخنة لا تترك القارئ بعد القراءة على حاله بعدها. والمفارقة أن هذه النجومية من صنع اليسار، أصحاب السلطة الثقافية (منذ قيام الثورة وربما حتى الآن.. هم الذين يمنحون بركاتهم وتأشيرات الصعود للأدباء المتوافقين مع اتجاهاتهم الفكري. حصل على البركة والتأشيرات عشرات من أنصاف المواهب لكن أفلت البعض.. وبينهم يوسف إدريس). هذا رغم أن يوسف إدريس في روايته “البيضاء” كان يشرح عرض اليسار علنًا.
كذلك كانت الصحافة هي مساحة النجومية والالتقاء بجمهور واسع، بدأها في “المصري” صحيفة الوفد قبل الثورة، وكانت محطته الثانية بعد المعتقل في “الجمهورية” الصحيفة التي أنشأتها الثورة لتكون لسان حالها، وصوتها في مقابل الصحافة القديمة كلها. وهناك بدأت العلاقة مع أنور السادات وانتقل معه إلى الاتحاد القومي ومنه إلى “المؤتمر الإسلامي”. كان السادات ينقذه من أزمة وظيفية (في وزارة الصحة) وكان إدريس يكتب باسمه مقالات وكتب وقيل إنه أحد كتَّاب مقالته اليومية في “الجمهورية”. كما كتب باسمه كتابين أحدهما عن فكرة الاتحاد القومي والثاني عن القصة الداخلية لحرب السويس ونُشر في الهند بعنوان “ثورة على النيل”.
والمثير أن يوسف إدريس بعد سنوات فقد وظيفته في “الأهرام” بسبب السادات. كانت خطوة هيكل هي أن يضم الدور الخامس في الأهرام كتابًا يمثلون اتجاهات مختلفة من توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وحسين فوزي وحتى ثروت أباظة. يوسف إدريس كان من النفس اليساري في الأهرام. وفي أزمة تفجرت عام 1971 حين أصدر 101 كاتب بيانا عُرف باسم “بيان توفيق الحكيم” أيدوا فيه تظاهرات الطلاب المطالبة بالحرب، وهز البيان الدنيا، وأثار غضب السادات الذي أصدر قرارًا بفصل كل الموقعين من الاتحاد الاشتراكي، وهو ما كان يعني أنهم لن يستطيعوا العمل بالصحافة.
تعرض يوسف إدريس لأزمات متفرقة أيام السادات، لكنها كانت خفيفة. الأزمة الكبرى تعرض لها بعد موته، حين قرر كتابة مجموعة مقالات في صحيفة القبس الكويتية عام 1983 تحت عنوان: “البحث عن السادات”. وكانت المقالات إعلانًا عن اكتشاف “مؤامرة” على المنطقة العربية بدأت بوصول السادات إلى منصة الحكم في مصر (وربط بينه وبين وصول كيسنجر لوزارة الخارجية في أمريكا وبيجن لرئاسة الوزراء في إسرائيل).
ويقول إدريس إن غضبه تحرك بعد غزو إسرائيل لبيروت (1982) واتضحت له الحقائق في مذكرات محمد إبراهيم كامل وزير الخارجية الذي استقال احتجاجًا على ما حدث في كامب ديفيد. وأيضا في مذكرات هنري كيسنجر.
المهم أنه عقب نشر المقالات بدأت حملة عنيفة في الصحف ممن أسماهم يوسف إدريس “عصابة السادات في الصحافة” والتي اعتبرها لا تزال مستمرة بقوة رغم موت زعيمها.
وقد رأت الحملة أن مقالات إدريس صدرت في توقيت واحد مع كتاب هيكل “خريف الغضب” واعتبرت أن هذا تم بضغطة زر من موسكو (عندما كانت تحكم بالحزب الشيوعي) في إطار حملة دولية هدفها إفشال المفاوضات اللبنانية- الإسرائيلية (كانت وقتها في طور الإعداد). بعد ذلك وصلت الحملة إلى خطاب الرئيس مبارك في عيد العمال الذي أشار في إحدى فقراته إلى يوسف إدريس بكلمة “الزبون”، وقال إنه كتب كتابًا ضد الجيش المصري في مقابل خمسة آلاف دولار قبضها من الرئيس الليبي معمر القذافي. وحكى إدريس في مقدمة الكتاب حين نشر (في دار نشر ليبية) إنه بالفعل قابل القذافي، وأنه حين عاد إلى القاهرة كتب تقريرًا عن الزيارة سلمه إلى سكرتارية الرئيس بعد أن عرف أنه يصعب مقابلته. واستمرت الحملة تتهم إدريس بنبش قبور الموتى.. وأنه نافق السادات حيًّا وهاجمه ميتًا وأن السادات عالجه على نفقته، ورفض المجلس الأعلى للصحافة سماع دفاعه قبل أن يدينه، ورفضت بقية الصحف الحكومية أن تتيح له مساحة للرد. وقد ذكر يوسف إدريس في مقدمة الكتاب إن هذا لم يحدث في بلاد الماو ماو.. بل حدث في القاهرة في عام 1983 وفي ظل انفراجة ديموقراطية وفي ظل حرية الصحافة. سنوات قليلة وتغير الوضع.
3. رجال وثيران
كان الرئيس مبارك في جولة بالساحل الشمالي مع الرئيس السوري حافظ الأسد، وتقول الحكاية إنه في أثناء مرورهما كان يوسف إدريس في شرفة الفيلا الخاصة به، وظهر في نشرات التليفزيون وصحف اليوم التالي صور الرئيسين مع يوسف إدريس وهو يستقبلهما بالشورت وبابتسامة مرحبة. كان الاحتقان العربي أخف، والتشنج حول السادات وصل إلى ذروة مريحة، واطمأن نجوم عصر السادات إلى أنه يمكنهم توفيق أوضاعهم في العصر الجديد. وعاد هيكل للظهور إلى الصحف (قيل إنه منع مرة ثانية بشكل غير علني) وطبعت الأهرام “خريف الغضب”، ووُزع “البحث عن السادات” في القاهرة. وعادت نجومية يوسف إدريس، هذه المرة بسخونة وأضواء أقل. وأصبح غيابه عن كتابة القصص هو السؤال الأهم. وربما مرت عاصفة فوز نجيب محفوظ بنوبل عنيفة على شخصه المولع بالنجومية، والذي فلتت منه أدواتها.
بعدها قرر عدم القبول بنصف وضع أو نصف مقام. واشترط في زيارته للبلاد العربية أن يقابله الحاكم ورفض مشاركة الأديب العراقي- الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا في جائزة صدام حسين، وأرسل إلى صدام برقية يطالبه بمنحه قيمة الجائزة كاملة ووافق صدام.
وأصبحت هذه نميمة الوسط الثقافي، خاصة أن بعد سنوات قليلة، وقبل موته بسنة واحدة اضطر إلى لعنها في الصحف. فقد تغيَّر الوضع وأصبح صدام بعد مقامرة الكويت على قائمة المغضوب عليهم. أضف إلى ذلك أن ابن يوسف إدريس الكبير كان يعمل هناك، واختفت أخباره لعدة أسابيع مما أضاف عامل الانتقام الشخصي إلى الموقف من زعيم زين قهره وسلطانه بابتسامات نجوم الثقافة ومدائح صغارها.
فتحي غانم حكى أنه شاهد على واقعة حدثت في بغداد أثناء أسطورة صدام، كان إدريس مدعوًا وحضر جزءًا من ندوة عن الحرب، وفوجئ بالعراقيين يمدحونها، فأعلن عن غضبه من مديح الحرب. قال هذا في ظل ديكتاتور مغرم بالحرب وأمجادها وهزائمها.
ومع أن عشاق النميمة لا يحفظون إلا حكاية الجائزة وأموال صدام. فإن وجه يوسف إدريس يظل ناقصًا دون الحكايات الصغيرة، دون خطاياه إن أردنا الدقة. فهو يوسف إدريس الذي لا تكتمل صورته إلا بالخطايا لا يمكن أن يكون تمثالاً أو لوحة أو حكمة تعلقها على الحائط. ومن هذه المفارقة فقط يبدو الأديب قرين الجنرال، ويبدو حضور يوسف إدريس لافتا في حضرة الرئيس.