مثل ذئب وحيد يحضر القديس فالنتين إلى القاهرة دون حكايته. أغلب الجموع المغطاة بالأحمر لا تعرف عن القديس إلا اسمه؛ إنه ماركة احتفال تتلون فيه المدينة بلون اختارته آلهة الاستهلاك للعشاق، لون يتحدى العلاقات كلما مر، ويدخل الشغف علبًا أنيقة ورخيصة؛ تذكارًا أو قربانًا. لا أحد يفكر، إنه الحج السنوي لطوطم الحب.
ومثل ذئاب متوحدة نتذكر صديقنا الغائب “عرابي“ في ليلة الجنون الأحمر. نتذكره بينما تحتاج الأرواح المعذبة لأسباب أكبر من الملل أو الروتين أو الضجر إلى أساطير القديس فالنتين والسحر المختبئ خلفها، حينما قاد العشاق لتحدي سلطة الكنيسة والإمبراطورية الرومانية… نتذكره في عيد يطل كمفاجأة على مدينة لا تنقصها إثارة يومية من تفاعل الروتين والدهشة في الزحام.
القاهرة تلتقي موعدها الخاص (عيد الحب المصري من اختيار مصطفى أمين، دون جوان الصحافة، مخترع المناسبات ومهندم المواعيد الغربية في تواريخ مصرية) وفي كل موعد يدخل الذئب الوحيد إلى قلب الحدث المصري. كما يليق بفكرة مثل الحب أن تفعل في مجتمع محافظ، ليعيش سنوات قلقه الجامح من حطام معماره العاطفي والأخلاقي، وهندسته الاجتماعية. تتحدى الأفكار الأسوار المقامة حول كل مشاعر خارج الانضباط، ويحارب التهتك الجمود والتطرف. أما الاستهلاك فهو سيد الأدوات المحركة لتفكيك الثقافة السائدة بالطقوس التي تشعل أفكارًا وخلافات وفرق ومنجذبين ومقاومين.. بالضبط كما يليق بالكرنفالات الجماعية التي لا تفهم مثلاً كيف انتقلت من الاحتفال بالكتابة في بطاقة حب إلى “دبدوب“ أحمر؟ من الذي اخترع رمزية الحيوان الثلجي بذلك اللون الدموي مصحوبًا بقطع الشوكولاتة؟
“عرابي“ لم يفكر في كل هذا وهو يختفي اختفاءً كأنه طقس سحري لم يعد موجودًا بعده، اللهم إلا في صور محفورة في الخيال، وضحكة تجلجل في حجرة مفرغة. ذئب وحيد رحل كأنه لم يكن هنا، أو كان مروره علامة تستحق الاحتفال. وعرابي ليس اسمه؛ لكنه رمز لزعامته اقتحام الفلاح للمدينة. لم يكن صديقي قديسًا ولم يصنع غيابه عيدًا، لكنه قرين فالنتاين عندي. أكد اختفاؤه أننا ذئاب متوحدة، أو وحيدة حتى في تجمعها، وأن لديه مشاعر تتجول داخلنا، لكنها استحوذت عليه، وابتلعته فاختفى. اختفى كما لو كان دخانًا يلف المدينة؛ نراه ولا نستطيع الإمساك به.
خسر صديقي معركته في منتصف الطريق، تصوَّر أنه من الممكن أن يختفي خلف ضحكته الكبيرة، وخلف الحواجز الوهمية التي تصور أنها تكفيه للإقامة في مدينة نجهل الحدود بين أقاليم قسوتها وحنانها.
لن أنسى حكايته في ليلة الـ valentine. يومها كانت القاهرة باردة، بردًا خفيفًا، واللون الأحمر يغطى الواجهات. هل كان السيد فالنتينو يرتدي كل هذا الأحمر؟ قلوب متناثرة في كل مكان؛ على الموبايل، وعلى السترات المثيرة لبنات المقهى المزدحم بالموسيقى والأجساد الحائرة على حافة بين نيويورك وكابول. أبحث في البرد الأحمر عن صديق أدمن الحب عبر الأصابع.
كل ليلة ينسحب من جلستنا لأن عنده موعد في غرف الثرثرة على الإنترنت، كانت له قصص فاشلة مع فتيات الواقع، ولم يكن يلقى النجاح العاطفي إلا في عالم الصور الافتراضية والحوار مع شخص تتخيل ملامحه، متنكر في اسم وصورة من صنع خياله.
كلمته في التليفون،كنت أريد إثارة انتباهه، حكيت له، وأنا أسمع نقر أصابعه بإيقاع رتيب تقطعه صرخات الإشارة. لم يسمعني وأنا أقول له “تخيَّل مثلاً أن رئيسًا أو مسؤولاً كبيرًا نشر قصص غرامه في الصحف“ هذا طبعًا من الخيال، خصوصًا في عالمنا العربي الذي يخفي الحب، ويعتبره عيبًا. قصص الغرام محرمات تدس في أدراج الذاكرة أو في حفلات النميمة والتفاخر الكاذب أحيانًا.
فالسلطة لا تعرف الحب إلا كفضيحة، والمسؤول زوج ملتزم وقور، يظهر مع زوجته في الحفلات والمناسبات، وفي الصور الرسمية عند مصورين متخصصين في البورتريهات العائلية.
لا تسمع عن غراميات مسؤول إلا في إطار الحرب عليه أو السخرية منه؛ وحتى الآن لا تزال الناس تتندر على عبد الحكيم عامر لأنه تزوج من برلنتي عبد الحميد، ينسون عقد الزواج، ويتذكرون فقط الجانب المثير من الحكاية التي اعتبرها بعض الطيبين السبب الحقيقي لهزيمة يونيو 67.
كانت شيرين تغني“أنت قلبك إيه.. بيدق بس عشان تعيش“ وهذا امتداد لموجة التمرد على الاستكانة والمازوخية في أغاني الحب. أما سميرة سعيد، أبرع واحدة في هذه الموجة، فتسخر بدلال أنثوي من حبيب متعجرف، وتنهي علاقات تعلمنا أنها أبدية بأقل من كلمتين، لكنها في الألبوم الجديد اختارت أن تناديه من جديد “قويني بيك.. قوي قلبي عشان يعيش..“ فضَّلت الثانية طبعًا في الرسائل المشفرة بيني وبينها، لكنها اختارت أغنية شيرين “الحياة عندك مراحل.. اللى جاي زي اللي راحل..“ وذكرتني بجوليا بطرس عندما أرسلتها لي مشفرة “على شو بعدك بتحبه على شو ..“ مِلت على صديقي الثاني “نظرية ست الحبايب ياحبيبة (أغنية عيد الأم) كانت أرحم“. أصر صديقي على اصطحابي في جولة للبحث عن باقة ورد تمرر عودته المتأخرة في ليلة عيد الحب، لكن محلات الزهور أغلقت أبوابها، والمفتوح منها لم يعد لديه إلا كناسة الدكان “ستعتبرها إهانة“ قال، وضحكنا. وقبل أن يصل التوتر إلى آخره؛ وبعد أن أنهكنا طول البحث اقترحت عليه “هل تحب الأرز باللبن؟“
ضحك ضحكته الشهيرة “نعم“. انتصرنا على السيد فالنتين، وأنهينا اليوم باللون الأبيض.. يومها عاد عرابي إلى البيت سالمًا.
….
بينما اللون الأحمر في فبراير 2014 يجتاح القاهرة، التي تعيش كابوس أحمر آخر– ذلك الدم الذي لم يعد عزيزًا ولا استثنائيًّا– كانت هناك لافتات معلقة في الشوارع تعلن عن نوع من الغرام سيحتار فيه أطباء النفوس الحائرة؛ ومكتوب على اللافتات تقول “موش بمزاجك يا سيسي… ها تبقى رئيسي“، وفي شوارع أخرى سارت مسيرة من العشرات تضع القلوب الحمراء بجوار صورة المشير السيسي!
كان فالنتاين مثيرًا تلك السنة؛ فيه تركت كل شيء وكتبت تدوينات على فيسبوك، أغلبها عن هاني شاكر، آخر ما في حطام الطبقة الوسطي القديمة – التي تفككت على يد السادات – ولم يعد لديها غير بكائيات ولطميات ومشاعر هاني شاكر في أغان تبدو فيها العواطف مثل وردة بلاستيكية، تثير الأسى لدى مجاريح معذبين في منتصف المسافات بين الربح و الخسارة، ففي حرب الطبقات، تندثر طبقات بفتات حمولتها الأيديولوجية والأخلاقية، ويعيد حطامها تشكيل نفسه، ثم ها هو يتحطم على يد السيسي، وتكاد تندثر ولا تندثر أيقونتها عابرة الأجيال؛ هاني شاكر .
كتبت في التدوينات “يا كل عشاق هاني شاكر أنتم تشبهون فاترينة دبابديب صيني… في مول مضجر من كتر الرخام“.
*****
لفترة اعتقدت أن محبة الميكروباصات لهاني شاكر وأيقونته الخالدة “عيد ميلاد جرحي أنا“ كانت نوعًا من الانتقام؛ يشمتون به في شحتفة الأفندية، لكن الموضوع أعقد من ذلك فيما أظن، إنه فيروس شعوب ترسم القلوب لحاكمها المنتظر.
***
لن أنسي ذلك اليوم الذي ذهبت فيه إلى استاد القاهرة للفرجة على مباراة مصر والسنغال (كأس الأمم الأفريقية 2006 ).. كانت الدنيا زحمة جدًا، كنا فرقة كبيرة، ونبحث عن مرح وأدرينالين بين الجموع والجماهير، وبينما كانت المشاعر في منطقة أخرى تمامًا رن تليفوني وظهر رقم برايفت، رديت، بينما أصوات الجماهير وألوان ملابس أصدقائي تغمرني، وقلت: ألو.. مين معايا؟ وفوجئت بالرد: أنا الفنان هاني شاكر.