“راقصة”…كانت هذه الكلمة الوحيدة التي وصلتني من همسات الحضور الكبير في قاعة المحكمة، كان ذلك لحظة دخول “صوفينار”(اسمها الأرمني) او كما يناديها الجمهور الواسع:” صافيناز”. أراها لأول مرة …كانت متجهمة، على عكس الصورة التي اراها بها علي شاشات التليفزيون، حيث تُطل علينا بإبتسامتها المُبهجة وجسدها الحر…والابتسامة والجسد كانا وراء الإيرادات غير المسبوقة في أول افلامها. صوفينار مثلت أمام محكمة جنح العجوزة (جلسة 5 سبتمبر 2015) وتهمتها الرقص دون تصريح. للراقصة تصريح إذن، أما مكان رقصها فيحتاج لترخيص، أما حركتها داخل هذا المكان فتتطلب موافقة مؤقتة، تتغيّر كلما تغيّر محتوى الرقصة. في هذه اللحظة فكرت : لماذا تقف راقصة، تصنع المرح و البهجة في ليل المدينة أمام المحكمة؟ هل تنقصها المعرفة بحدود العلاقة بين السلطة و الرقص؟ هنا فكرت في كتابة موجهة إلى شخصية متخيلة قررت احتراف الرقص…لأن المحاكم لا تعترف بغير القوانين والسلطة تبدأ سيطرتها من الجسد، وأول خطواتها التحكم في إدارة المرح.
انتهت الجلسة وحكمت المحكمة علي صوفينار بالغرامة، إذن فقد أُدينت وحكم عليها، هل لم تحصل علي رخصة؟ أم أن رخصتها لم تكن دقيقة بما يكفي لتحمها من التطفل و الإبتزاز؟ أسئلة دفعتني اكثر إلى تتبع القوانين، التي عن طريقها يمكن أن تصدر “رخصة” للرقص. كيف تحصلين، إذا فكرتِ، على رخصة الرقص؟
حركات ممنوعة
لم يُسند القانون المصري أمر تصريح الرقص إلى جهة مُعينة، بحيث تكون جهة تقدم أمامها الأوراق و تستلم الراقصة وثيقة تسمح لها بالرقص. لكن الواقع يُلزمها بالحصول على هذا التصريح، كما يجب أن يكون هناك رخصة للمكان الذي يقدم داخله الرقص، كما هو الحال فيما يعتبره القانون محالًا عامة وهو مايسمى ب”الملاهي الليلية”. يكتفى القانون بتحديد جهة لتأخذي منها تصريحًا بالرقص مثل الإدارة المركزية للرقابة على المصنفات السمعية والسمعية بصرية.. أي المصنفات الفنية. أنشئت هذه الهيئة بناءً على قانون رقم 430 لسنة 1955 للرقابة على الأشرطة السينمائية والمسرحيات. تراقب كل عمل فني سواء كان مُسجلًا أو كان أداؤه عامًا ومباشرًا أمام الجمهور. يدخل الرقص في نطاق رقابة هذه الهيئة، يصبح عليكِ التقدم إلى هذه الهيئة ببيان شامل لنوع الرقصة المؤداة وتفاصيل تقديمها. خلال شهر يُرد على الطلب أو يصبح الطلب ساريًا في حالة عدم الرد عليه، أما إذا رُفض الطلب فلن تستطيعي تقديم الرقصة وإلا طبقت عليكِ عقوبة تصل لعامين وغرامة تقدر بـ 10 آلاف جنيهًا.
يجعل القانون أسباب رفض رقصة مسألة خاضعة لرؤية الرقيب، يتضح ذلك من القواعد الأساسية للرقابة على المصنفات الفنية والتي توضح عدم جواز الترخيص لأي عمل فني طالما يتضمن ” المناظر الخليعة ومشاهدة الرقص بطريقة تؤدي إلى الإثارة أو الخروج عن اللياقة والحشمة في حركات الراقصين والراقصات”، فضلًا عن 19 بندًا آخرين. إذا طبقت هذه البنود بحذافيرها، قد تمنع إنتاج أي عمل فني ولن ترى كل الأعمال الفنية النور. يتسع هذا الوضع الضبابي ليشمل رفض كافة أشكال الفن، وهو وضع مستمر وليس بجديد. يروي الناقد الفني سمير فريد في كتابه “تاريخ الرقابة على السينما في مصر” (المركز المصري للمطبوعات 2002، الهيئة العامة للكتاب 2016) حكاية دعوة الفنانين إلى اجتماع بوزارة الداخلية للحديث عن المسائل المتصلة بالأفلام المصرية، كان ذلك خلال الفترة السابقة على صدور هذا القانون. خلال هذا الاجتماع تحدث محمد شوقي رئيس الرقابة على الأفلام فقال إن :” للرقابة دستور، يجب أن يسير عليه الرقباء، ومع ذلك فإنها لو نُفذت بحرفيته لما سمحت بعرض واحد في المائة من الأفلام التي تقدم لها”. كما يؤكد على ضرورة الابتعاد عن عرض الرقص الخليع المُبتذل. وضعت إدارة التفتيش الفني بالرقابة على المصنفات الفنية قواعد خاصة بالراقصات تتلخص في أنه لا يجوز الرقص بأوضاع مثل الاستلقاء على الظهر أو النوم على الأرض على وجه مبتذل بغرض الإثارة، وأداء حركات الرعشة بطريقة تستهدف الإثارة. لا يجوز فتح الساقين إلى نهايتهما على الأرض وأداء حركات اهتزازية أعلى وأسفل.
موافقة على كل حركة
لا يوجد تصريح دائم للراقصة، فلكل رقصة، عليكِ أخذ تصريحًا من الرقابة على المصنفات الفنية. دور هذه الهيئة حماية النظام العام والآداب ومصالح الدولة العليا وإلا صار من حق الشرطة التدخل عبر مباحث المصنفات الفنية و شرطة الآداب أيضًا.لم يحدد القانون صراحة تفاصيل بدلة الرقص، لهذا للمباحث والشرطة أن يحددا مطابقة البدلة أو مخالفتها للآداب العامة، ولعل ذلك يُفسر المشهد المثير للدهشة الذي ظهرت به الراقصتين شاكيرا وبارديس حين قُبض عليهما من ملهي ليلي، وكانت واقعة شهيرة أدينتا بها حين صورا من داخل قسم الشرطة ببدلة الرقص في يوليو 2015. تمسكت تحية كاريوكا (1915-1999) خلال كل لقاء مصوّر أو حديث صحفي على حق الراقصات في نقابة تُنظم عملهن و تحميهن. لم يلق هذا الحق مساندة من الدولة على الرغم من أن الدستور يُلزم الدولة بتنظيم نقابة لكل مهنة. أدى ذلك إلى تطفل معهود من جانب نقابة المهن التمثيلية، والتي كانت تعطي تصاريح رقص لجميع المُشتغلين بفنون التمثيل للسينما والمسرح والتليفزيون والإذاعة والإخراج المسرحي وإدارة المسرح والمكياج والتلقين وتصميم المناظر والملابس المسرحية والفنون الشعبية والباليه ومؤدي ولاعبي العرائس، وغيرهم ممَن تنص عليهم اللائحة الداخلية للنقابة. لا يندرج الرقص الشرقي تحت شعب النقابة إلا أنها تمنح الراقصات تصاريحًا مؤقتة أو بعضوية لكون الرقص فعلًا يؤدى على خشبة المسرح. لكي يزيد وضوح الأمر فإن المطلوب منكِ هو صحيفة الحالة الجنائية (فيش وتشبيه)، بطاقة شخصية، وأخرى ضريبية، وخطاب تعاقد مع الملهى الليلي. دون هذا التعاقد لن تحصلي على التصريح لأن النقابة لا تعترف بالراقصة الحرة، بالإضافة إلى الإقرار مكتوب بخط يدك، لتؤكدي مسؤوليتك بشكل كامل عن تصرفاتك، وأن النقابة ليست مسئولة عنها بالمرة إزاء عملك أو أي مشاكل تنتج عن هذا العمل. النقابة هنا بلا أي ميزة تعطيها للراقصة تأخذ منها مبلغًا لاعطائها تصريح بعدم ممانعتها، ومن ثم يكون عليكِ التوجه إلى الرقابة على المصنفات لأخذ التصريح على محتوى الرقصة. وسط هذا الكم من الطلبات المُلقاة على عاتق الراقصة لا تخفى علينا أسئلة مهمة : أين صاحب المحل أو الملهى من هذه القوانين؟ هل له ترخيص أم أنه يدخل ذات الدائرة؟ هل وردت للمحاكم المصرية نزاعات لها علاقة بذلك؟ دليلكِ للحصول على رخصة رقص لا يزال يحوي الكثير.
أين ستتحرر الأجساد؟
يُعد مكانًا عامًا تسري فيه القوانين المُنظمة للملاهي ودور الرقص كل مكان يرتاده مجموعة من الأفراد دون تمييزٍ، ولا تكون هواياتهم معروفة به على وجه التحديد، فلا يُعد مكانًا خاصًا، في هذا المكان يتواجد جمهور الرقص الشرقي إذا كان هذا المكان يملك رخصة بذلك. شارع عماد الدين، أحد أطول شوارع وسط المدينة، حيث يمتد من حي عابدين جنوبًا إلى ميدان رمسيس شمالًا. كان هذا الشارع مُكتظًا في بدايات القرن العشرين بالأماكن العامة، التي تقدم عروض الرقص و المسرح. ذَكَرَ نجيب الريحاني في مذكراته واحد من الملاهي الهامة بعماد الدين، هو “كازينو دي باري”.
شفيقة بنت إبراهيم القبطية، الشهيرة في تاريخنا باسم ``شفيقة القبطية`` أشهر راقصة في العهد الخديوي. وهذه رخصتها لمزاولة الرقص لمدة ٤ أشهر في المنتزة بالزقازيق.
الوثيقة:من كتاب ``قبس من روح مصر``
كانت تديره إنذاك مدام مارسيل لانجلو. أخذ المكان شهرته بعدما عمل به علي الكسار (1887-1957)، بجوار ” الابيه دي روز” للمسيو روزاتي، و”الايجيبسيانه” لنجيب الريحاني، وقدم بها عمله الأشهر “كشكش بيه”. قارني ذلك بالقانون الصادر بشأن المطاعم و المحال السياحية، الذي يحظر على الأجانب إدارتها حين يقل تقييمها عن 4 نجوم سواء بترخيص دائم أو حتى مؤقت. أقر وزير السياحة منير فخري عبدالنور (عين وزيرًا في الفترة من فبراير 2011 إلى أغسطس 2012) قانونًا يُحدد جميع التراخيص والتصاريح والموافقات التي على صاحب الملاهي أو مسرح المنوعات أو الديسكو استخراجها إذا كان سيتم عرض موسيقى أو رقص أو غناء سواء في المنشأة أو ستتعدد الأغراض. حدد هذا القانون أن ترخيص الملاهي يُعد من اختصاص وزارة السياحة ليمثّل انفراجة تحرر الرقص من تعقيدات كثيرة، إذًا فقد كان من الضروري أن يُلغى قانون المحال العامة أولًا وإلا سندور في رُحى الدولة من جديد، حيث يُقصد بالمحال العامة نوعان، أولها المطاعم والمقاهي وما يماثلها، وثانيها الفنادق و البيوت المفروشة وما يماثلها. حددت الإدارة العامة للوائح والرخص أو فروعها بالمحافظات أو المديريات (وزارة الإسكان والمجتمعات العمرانية)..هكذا صار ممنوعًا عزف الموسيقى بالمحال العامة أو الرقص أو الغناء أو حيازة مذياع أو السماح للآخرين بممارسة أي من الأفعال السابقة داخل المحال إلا بترخيص. أما التراخيص المطلوبة في القانون الأحدث فتبدأ بترخيص من إدارة التراخيص بوزارة السياحة، وتصريح من المصنفات الفنية (وزارة الثقافة)، موافقة الإدارة العامة لحماية الآداب (وزارة الداخلية)، تقديم شهادة عوازل صوتية (لمنع حدوث أو إزعاج)، وأخيرًا موافقة السلامة والصحة المهنية.
ضجة في نوفمبر 2015 أصدر وزير السياحة قرارًا بتفويض رئيس قطاع المنشآت الفندقية والسياحية غلق المحال العامة وكذا المنشآت السياحية المُخالفة، وبقرار مماثل في يونيو 2016. كما يقبع قانون العقوبات حبيسًا كمن يُطبّق عليهم، فمنذ عام 1937 وهو يُمثل الخطة باء للدولة حينما يستعصي عليها كبح حرية جسد أحدهم أو منع راقصة من العمل أو غلق مكان للسهر.