أول يوم في السجن كمحاولة للتخفيف عني أخذ الزملاء يعددون لي مزايا السجن الذي أنا فيه، والزنزانة التي تشرفت بالنزول فيها، حيث تمّ وضعي في عنبر غالبيته من كبار موظفي الحكومة ورجال الأعمال وقضاة وضباط شرطة وجيش. كل عنبر في السجن طاقته الاستيعابية حوالى 60 سجينًا بإجمالي 9 عنابر في السجن. وعلى حد قول زميلي:”كلنا هنا ناس محترمين خالص، والسجن هنا الإدارة بتاعته محترمة” ولما عايَنَ صمتي والوجه الجامد، الذي كنتُ ارتديه في هذه الفترة أضاف :”دا حتى علاء سيف هنا، في الأودة اللي قصادنا”.
بعد سنين فرقتنا فيها الطرق والمشاغل والاختيارات أعود مرة أخرى لأصبح جارًا لعلاء. كانت المرة الأولى في 2006 حينما كنتُ أعيش في شارع فيصل، يفصلني عن علاء شارعين. وقتها كان منزل علاء ومنال بمثابة القاعدة لفنانين عابرين بالبلاد، مُبرمِجين، مُغامِرين، مُدوِّنين، ونشطاء سياسيين. كنتُ أزورهم باستمرار، نَمت صداقة فتحت لي الكثير من الأبواب، ثم جرَت مياه كثيرة تحت النهر وفوقه وغادرت شارع فيصل وغادر علاء البلاد. ثاني يوم في السجن دخل زميل يحمل في يده حقيبة بيضاء وضعها على مصلبي وهمس في أذني:”الشنطة دى من علاء، وانا اسمي …، ولو احتجت أي حاجة قول لي”. احتوت الشنطة على تي-شيرت أبيض، خرطوشة سجائر كليوباترا، ومستلزمات تفصيلية أخرى لبداية الحياة في السجن.
بعد سنين فرقتنا فيها الطرق والمشاغل والاختيارات أعود مرة أخرى لأصبح جارًا لعلاء. كانت المرة الأولى في 2006 حينما كنتُ أعيش في شارع فيصل، يفصلني عن علاء شارعين. وقتها كان منزل علاء ومنال بمثابة القاعدة لفنانين عابرين بالبلاد، مُبرمِجين، مُغامِرين، مُدوِّنين، ونشطاء سياسيين. كنتُ أزورهم باستمرار، نَمت صداقة فتحت لي الكثير من الأبواب، ثم جرَت مياه كثيرة تحت النهر وفوقه وغادرت شارع فيصل وغادر علاء البلاد. ثاني يوم في السجن دخل زميل يحمل في يده حقيبة بيضاء وضعها على مصلبي وهمس في أذني:”الشنطة دى من علاء، وانا اسمي … ولو احتجت أي حاجة قول لي”. احتوت الشنطة على تي-شيرت أبيض، خرطوشة سجائر كليوباترا، ومستلزمات تفصيلية أخرى لبداية الحياة في السجن.
في اليوم الثالث توقفت أمام باب عنبر علاء ناديتُ عليه، وكعادة عدمية واظبنا عليها منذ أكثر من عشر سنوات فنحن نتبادل التحية ممزوجة بالسخرية من بعضنا البعض. العصافير من المساجين الذين ينقلون الكلام وقفوا حولنا يستمعون لحديثي أنا وعلاء نتبادل السباب والسخرية دون أن يتمكنوا من فهم طبيعة الحوار. بعدها أخبرني أن هناك مكتبة في السجن وأن الكتب التي فيها معقولة ويمكنني الاعتماد عليها حتى تأتي لي زيارة بعد 30 يومًا ويحضرون لي كتبًا. سألته عن العناوين الموجودة في المكتبة ذكر بعض الترشيحات، ثم قال:”هناك أيضًا روايات لبهاء طاهر بس أنا خلاص معدتش بقدر استحمل الهراء بتاع الدولة القومية دا”.
فجأة انطلقت الصفارات في منتصف الحوار. رأيتُ المُخبِرين والحراس يهرعون نحوي، يجذبونني بعيدًا عن باب الزنزانة بحجة أن هذا ممنوع. بعدها بنصف ساعة تمّ استدعائي للضابط المسئول وابلاغي بأن ما حدث ممنوع، والتواصل بيني وبين علاء ممنوع. قضينا حوالى 5 شهور في هذا الوضع الغريب، يفصلنا جدار، لكن غير مسموح لنا بالحديث أو تبادل الرسائل، بل تمّ تغيير جدول ونظام السجن بحيث لا يمكن أن التقي بعلاء حتى ولو على سبيل الصدفة. أذكر في يوم ما تمّ تأخير زيارتي وجعل أهلي ينتظرون أكثر من خمس ساعات حتى لا أزور أنا وعلاء في ذات الوقت. لم أفهم السبب وراء هذا الأمر، وفي السجن لا فائدة من محاولة الفهم. التخمين هو الأساس أو كما تقول الحكمة الخالدة: “السجن اتبنى على البرشام والكلام”. فجأة ذات صباح طُلبَ مني وكل الزملاء في الغرفة جمع متعلقاتنا والانتقال للغرفة الأخرى حيث علاء. وقفتُ في منتصف الغرفة حتى أتى أحد الحراس وقال أن مكاني سيكون فوق علاء وأن هذه التعليمات قد أتت من فوق. المصالب/ الأسِرَّة/ المرقد في سجن عنبر الزراعة حيث كنّا مصالب أرضية ومصالب علوية وبالفعل كان مكاني فوق علاء. في الأيام الأولى وفي فراغ السجن الكالح وجدت أنني وعلاء نستعيد نفس خلافاتنا القديمة في مرحلة ما كنا نزعق في وجه بعضنا البعض لأنه وافق على التعديلات الدستورية في 2011. لكن بعد هذا وجدنا مواضيع أفضل للنقاش في أعداد مجلات Scientific American ومجلة weird وغيرها من المجلات التقنية والعلمية والتي كان بعضها يدخل لزميل أمريكي مسجون معنا والبعض الآخر تمكن علاء من إدخاله. كنّا نعرف أن هناك “عصافير” من الزملاء المساجين مخصصة لنا لنقل أي أحاديث أو مؤامرات أوخطط انقلابية نخطط لها، وأحيانًا كنتُ أشعر بالإشفاق عليهم. أحيانًا كنّا نقضي يومًا طويلًا في جدال حول مستقبل العمل اليدوي في عصر الطباعة الثلاثية، وأحيانًا أخرى حول كيف تمّ تشكيل مفهوم الشرف والصورة المتخيلة عن مصر كدولة قومية في القرن التاسع عشر. منذ خروجي أحيانًا ما اتلقي السؤال بصيغ مختلفة؟ كيف هو علاء؟ رغم الحياة المشتركة معه لخمسة شهور فالأمر يتطلب مني ثواني من التَلَجلَجَ حتى أردُ ذات الإجابة في كل مرة: “يُقاوم”.
أتذكر قلقه واضطرابه وعدم قدرته على النوم حينما اقترب موعد حكم المحكمة الدستورية في دستورية قانون التظاهر، كانت الآمال كبيرة. والأمل هو عذاب المسجون اليومي. إذا تملكك الأمل في السجن فلا نوم ولا أكل ولا دخان. يصبح الوقت أطول والقلق جمر مشتعل على الفراش. اتذكر الإحباط حينما صدر المحكمة الدستورية. الإحباط أكثر بعد كل زيارة حينما يخبرونه بأن محكمة النقض لم تحدد موعدًا لمحاكمته رغم أن هناك آخرون معه في ذات القضية تمّ تحديد موعد لنقضهم، بل وبعضهم تمّ نظر نقضه. الآن في أذني أحيانًا، وأنا أقرأ في الليل وحيدًا، يخيل لي أنني استمع لصوت أقدامه.
في آخر أربعة شهور لنا معًا تمّ منع التريض عن كل عنابر السجن، لم يكن مسموحًا لأحد بالخروج من العنبر ولا رؤية الشمس. استسلمتُ لقدري وأخذتُ أراكَم الدهون والنشويات ليل نهار بحثًا عن الدفء، بينما علاء، كما يليق بزميل يسبقني بسنوات وشهور، واظب على وضع سماعات الراديو في أذنه والسير طوال الليل جيئة وذهابًا لساعات بينما أنا في الفراش، أحاول الهروب من أحلامي في الخروج بالغرق في مربعات “السودوكو” أو قراءة كتاب. طقسنا المفضل ووقتنا الاجتماعي كان يبدأ من الساعة الثالثة والنصف، فعلى إذاعة البرنامج الأوروبي تأتي ساعة من إذاعة بي.بي.سي نشرة أخبار بالانجليزية شكلت المصدر الأول للمعلومات لدينا. يستمع للنشرة، ثم يأتي ليحكي لي الأخبار والتعليقات، بعدها نتصفح الجرائد وبين مقال وخبر نتبادل التعليقات نحاول أن نصنع من الغثاء والتفاهة التي نقرأها في الصحف شيئاً يبعث على الضحك، شيئاً نقاوم أو ننسحب به. أشتاق الآن لعلاء أكثر من أي وقت مضى، وأكتب هذا دون أن أعلم هل يكون لقاءنا التالي في الخارج أم أعود مرة أخرى له. أكتب هذا دون جدوى محاولًا صنع شيئًا من الأيام التي ضاعت في غثاء السجن، لكن وكما هو واضح لاشيء واضح في هذه التدوينة الطويلة أكثر من شوق صديق لصديقه.