ترتحل بهية. إلى أين؟ لا تبتعد كثيرًا عن ساحة الحي في صيدا. خطواتها المتنقلة بخفة، تولد في مدخل بناية، وتموت في مدخل البناية المواجهة.
الأرض، في ذلك الصباح مكلّلة بسهاد الخائفين، وبدماء الحرب.
الليلة الماضية، خلَّفت الكثير من الردم على الشرفات. الزجاج منثور في أفنية السلالم. وميض نيران خفيف لا يزال يلمع على تراب الحدائق الخلفية للبيوت الأرضية. لم يعد ينبت هناك غير عشب عشوائي شوكي جائع على تراب جدب مهمل، منذ أن تدهورت الأيام والبلاد وانتهبت بالجنون والانحدار. لذلك، فالنيران لا تجد ما تأكله وتستوي رمادًا بسرعة. لكنها، في ذلك الصباح، كانت لم تزل، تحفزها طاقة العناد، مشتعلة في قلب “خياطة البناية”. هي أيضًا خياطة البنايات المجاورة، بل الحي بأكمله. صاحبة فضل في كسوة غالبية أطفاله، في مواسم الأعياد، التي باتت نادرة تحت وطأة القصف وغمائم البارود وسدائم الغبار. انحدر موسم “تفصيل الملابس” إلى موسم “تفصيل” أغطية لملاحف ووسادات ومساند تفترش أرضية القبو، تحت البناية، حيث أمواج العفن والرطوبة يتخبط فيها السكان، حين يشتد الخوف وترتجف القلوب فيهرعون عبر السلالم المكشوفة إلى “الأمان”. الظلام.
خطوات بهية بين البنايتين، في صباحات مماثلة، هو، إذن، ارتحال جريء لسيدة جريئة بكل ما تعنيه الكلمة: لنبدأ بعينيها الخضراوين الواسعتين، المهيّأتين لاستيعاب خيوط الشموع وقناديل الكاز الضوئية الباهتة في ليالي انقطاع الأمل والكهرباء. تنعكس الأنوار الخافتة فيهما، فتتمكن الخياطة من سكب مزيد من ساعات العمل على ماكينتها “السنجر” التي لم تتوقف ولا لحظة من أن تبرق بورنيش ساطع، على النقيض مما يحيط بها وبصاحبتها، من مشاعر وأوقات وتوقعات.. داكنة!
ولنصل إلى طبقة صوتها العالية، التي تحمل لكنة أهل المدينة الأصيلة. السكان الذين، لزمن طويل، عاشوا في أمان، وراء السور التاريخي، ببواباته السبعة، يحدُّهم جبل الشرق وبحر الغرب وبساتين الجنوب وطريق شمالي يودي إلى المدينة الأكبر والأكثر صخبًا؛ العاصمة. كان ذلك قبل أن يخرجوا من البوابات، إلى هضاب التمدد والانتشار. وفي ظلال الانتشار يعشش الخوف!
خياطة الحي بهية حين تتكلم، لا تلقي بالاً لمشاعر النائمين على البلاط في صالون الشقة المقابلة، ولا للمنسجمين مع صوت الموسيقى الطالعة من مذياع “مَنْوَر” الدرجات المؤدية إلى السطح، في استراحة عذبة وكئيبة بين جولتي قصف وتفجير، فتخدش بصوتها العالي، استيهام المرهفين وتعيدهم إلى الواقعية “غير السحرية”.
وهي إن تعاركت، عبر نافذتها، مع “كشاش الحمام” أو مع بائع القماش المتجول الذي يفرد الأثواب على كتفه وينادي على بضاعته برتابة معتادة، أو مع البقَّال أو مع الفرَّان، فذلك سيكون بمثابة إعلان حرب أخرى، يحضرها القاطنون في البناية، والبنايات الملتفة حول الساحة.
وهي جريئة، وصولاً إلى ارتحالها غير المحسوب، الذي قررت أن تقوم به، في ذلك الصباح، حافية القدمين، باردة الجلد، أعياها الإرهاق، في الخانق بين باب القبو في البناية وباب البناية المقابلة المرتفعة على هضبة رصفت بالأسفلت وسهمدت أتربتها وحصاها، قبل أن تفتح القنابل فيها فوهات تكشف عن ترابها الأصلي الذي لا يزال الدود يعيش فيه. حصل ذلك في الوقت الذي يشّف فيه السهاد وتنشف الدماء على الأسفلت، رويدًا رويدًا
هل قلت لك إنكِ تشبهين الممثلة الأمريكية فرانسيس ماكدورماند؟ هل قلت لك إنها فازت قبل ساعات بالأوسكار؟ لم يتسنَّ لك معرفة الخبر؟ ارتحلت بسرعة وخفة، كعادتك. هل كنت لتكترثي إلى خبر كهذا؟
على أي حال، عيناكما على ذات الاتساع الذي يقارب الجحوظ في أوقات الدهشة.
لهما صبغة المروج المفتوحة على أحلام دفينة وخيبات ذهبية في المساءات وطنين نحل يصنع شهدًا مُرًّا. لكما ذقن الوجه ذاته، يبرز طرفه حين يحتد النقاش.
فيرن، اسم الشخصية التي تؤديها ماكدورماند في “نوماد لاند”، ترتحل بروح غجرية، في “فان” صغيرة تقطع الطرقات بحثًا عن لحظات التحرر من ثقل الزمن والحياة والفقدان والأسى. تهاجم زوج أختها، صديقها القديم، الذي ينتقد حياة الترحال، بل يشجع زبائنه على مزيد من الرضوخ لفخاخ التملك وشراء البيوت وتغليل الأيادي والحركة والروح باشتراطات المصارف وشركات التأمين وصناديق الادخارات.
وبهية، تمد ذقنها، بالحركة ذاتها، حين تفشل صديقتها المطلقة، والمقربة إليها منذ اللقاء الأول في “معهد المهنية”، من حراسة طنجرة الطبيخ المثبتة على منور درج البيت الصاعد إلى السطح.
ترغبان بالطبخ في الهواء الطلق لكسر روتين المطابخ الغارقة في ظلال أحزانها وكآبتها؛ أخ مقعد مصاب بالشلل لا يمشي بل يزحف على البلاط، وعلى روح الخياطة، التي أوكلت مهمة العناية به منذ ولاته وحتى مماته. وأم عجوز ذات طبع صارم، والخيوطـ، آه كم كانت كثيرة تلك الخيوط، طارت من الماكينة وحطَّت في زوايا الأرضيات وعلى الحواف السفلى للأثاث، تنتظر أن تلتقط، وتسلخ، خيطًا خيطًا “دعينا نطبخ يا آمال خارج المطبخ، خارج ظلال التعب والأسى، سأحضّر الحمّص المسلوق.. وأنتِ حاذري أن يحترق البصل. لا نملك رفاهية “تفصيل” الطبخة من جديد، علينا أن ننتهي منها ما دام هناك هدوء نسبي. نحن لا نعرف متى ينسكب الرصاص ويصحو القنَّاص من قيلولته”!.
“أيها السائر.. الطريق آثار خطواتك.. ولا شيء بعد
أيها السائر.. ليس ثمة طريق.. السير يصنع الطريق
أيها السائر.. ليس ثمة طريق”.
هذا الإسباني أنطونيو ماتشادو يا بهية، شاعر، لديه ماكينة، مثلك يلمس الأحاسيس.
أنتِ أيضًا، ألم تكتبي أبهى قصائد حلَّتنا وأعذب إيقاعات إطلالاتنا؟
لقد نسجتِ من قلّة الحيلة ثراء لا حدَّ له: انسدل قماشك ستائر على قلوبنا المكشوفة على جزع الحرب، وأطلق فراشات من جلودنا الباردة من رطوبة وعفن الأقبية التي تخشخش في زواياها الجرذان، والأزرار التي تثبتها أناملك بين أطراف الياقات وصدورنا، أوتاد أمان تشجِّع قاماتنا ألا تخاف، وأن تنبت رغم كل شيء.
ماتشادو يغطي دروب الحيرة والخوف، ودماء القتيل بيدي أخيه القتيل، بأشعار تستحضر أندلس القوافي ووميض النهر وشمس السماء ونبيذ المرتحلين.
وأنت تغطين أيام الحي، الغائمة برائحة الموت وفجائع الفقدان، بقماش ملون له ملمس مثل ملمس نور تارة، وحبيبات الكاكاو تارة، والفقاعات الهشّة في مرات: كتّان أو مخمل أو “كورناش” خليط بين القطن والنايلون.
وأنتِ تمنحيننا ملابس عنابية اللون لليلة فرح مستقطع. زفاف أختي في صالون البيت، فيما أمي لا تخلع أسود الحداد حزنًا على خالي القتيل بين أشجار الزيتون.
في الحفل، ورد القرنفل الأحمر قليل، مثل ابتسامات الحضور الذي، لكثرة ما يعيش الخوف بات يرتاب في دبيب الابتسامات. أسرق منه واحدة، أُقرّبها من أنفي. أكسر عنقي مستندًا إلى الوردة في مشهد عاطفي موجَّه إلى ابنة الجيران.
وأنت تمنحينا لباس الأعياد وحلة الدخول إلى صالة السينما، نشاهد فيها مسرحية “فرقة أبو سليم” الجديدة “أبركا دبركا”، حيث الأبطال يجترون الكوميديا، في زمن تراجيديا قاتلة، من أقسى مشاهدها ركون المتحاربين إلى تذويب جثث قتلاهم بالحمض الأسيدي، أو رميها من أعلى شرفات أبراج البنايات.
نشاهد المسرحية في سينما هيلتون، وعند الخروج نلمح أفيش فيلم “جزيرة الشيطان”، ملصوقًا على جدار مواجه لمدخل السينما، فيسارع أبي، تحت وطأة إلحاحنا إلى شراء التذاكر، بعد أن عيَّن الفيلم باسم بطله، والعودة المتعجلة إلى الصالة. المفاجأة أنها كانت تعرض فيلمًا مختلفًا تمامًا للممثل ذاته “حنفي الأبهة”. وبمكر أطفال العيد المغفور له مسبقًا، ننتهي من الفيلم الأول، وندير جوقة الإلحاح كي ندخل الفيلم الثاني.
صاخبين مثل جوقة أطفال حرب، مغناجين مثل شلّة صبيان تتدلع في حضرة الأب، ندخل سينما شهرزاد هذه المرة.
في خضم تلك الأحداث الشاقة، ثمة طفل يحب أن يتمثّل هيئة مثقف، كما يشاهدها في الأفلام، أو يتخيّلها في الكتب. كونه يقرأ غالبية أوقاته. في مكتبة المدرسة، لو انتظمت الدروس في استراحات المعارك، وفي صالة الجلوس تحت ضوء الشمعة والغطاء، لو استغرق الأخوة والأخوات في النوم، وفي السيارة وقت الهروب من المدينة إلى القرية، حتى لو تسببت القراءة فوق العجلات المرتجفة، بالدوار.
المثقف الصغير يستمد “شرعيته” أيضًا من كونه مصدر آلة الإلحاح التي تدفع العائلة تجاه صالة السينما. في يوم العيد، في قميص وشورت من قماش خفيف خاطته بهية، يتباهى، مثل المثقفين بقلم حبر يزرعه في جيب القميص. لن ينتبه، بعد الخروج من سينما شهرزاد إلى ستوديو السوسي لالتقاط صورة العيد التقليدية، أن حبر القلم الذي عايش أحداث ثلاثة عروض مستمرة، تشمل مسرحية وفيلمين، قد فاض أخيرًا، نتيجة سخونة الصالات المختنقة بأنفاس الحشود وروائح سوء التهوية ونكهة العطن التي يبخّها مخمل المقاعد. مقاعد ممزقة تشهد على نهاية وطن مزقته الحروب وتركت فيه علامات حريق لن ترمم، مثلما تفعل ثقوب السجائر.
في الماكينة لطالما وجدنا خلاصنا.
ماتشادو اخترع ماكينة متخيلة تنسج الشعر. سمّاها “الطروبار”. جذر التسمية نابت من تربة البلاد التي صنع أسطورتها وأمجادها وحسراتها “قوم ظفروا بكل شيء وخسروا كل شيء.. أصدقاء الشمس منذ القدم”. جذر نابت من الحسّ العربي “الطروبار” من “الطربادور” من “دور الطرب” في الأصل. في الأصل كان الغناء، كان الحداء، صوت العرب ولعبتهم للتغلب على رتابة الرحلة. شاعر إسبانيا المعلم، جعل لماكينته وظيفة جس نبض المشاعر والأحاسيس، الكآبة والقلق، الأمل والحلم، لدى ناسه، وتحويلها إلى أناشيد من فولوكلور قديم، جمعهم تحت سماء واحدة، قبل أن يفرقهم انشقاق أودى إلى الحرب الأهلية. أدانت ماكينة شعر ماتشادو غياب الشاعر الحقيقي الإنسان من نسيج اللحم والدم والارتباط بقضايا الناس وحسهم.
فيرن اخترعت لغة جديدة أيضًا في ماكينة “الفورد إيكولاين فان”. تخزن فيها دفئًا وراحة بال وموسيقى وألبومات وخرائط رحلات الطرقات وأماكن تجمعات الهاربين من بيوت خنقت أرواحهم إلى البيت الأكبر والروح الأوسع؛ الطبيعة بعناصرها الكلية، والأسى الشفيف لمأساة النفس البشرية، العذب مثل الدانتيل. وهي في تنقلها الدائم بين أعمال موسمية، تسعى جاهدة لضمان استمرارية تلك الرحلة، وحب تلك الطرقات، والوفاء لرذاذ ماء البحر الذي يغسل السهاد، حين تغرق البلاد في انتهاب شركات الاقتصاد السيبراني الجديد وفقاعات الاقتصاد الهشة، التي لا تصنع ألوانًا طيفية، بل لونا واحدًا: لون الحزن والخوف. من الخوف ترتحل في الإيكولاين، مثل قصيدة شعر صادق ونبيل “رأيت في كل مكان/ بشر يرقصون أو يلهون/ عندما يستطيعون، ويفلحون/ حقولهم الصغيرة/ إذا حلوا بمكان/ لا يسألون مطلقًا إلى أين نصل. حين يسيرون، يمتطون/ ظهور بغال عجوزة/ ولا يعرفون العجلة/ حتى في أيام الأعياد/حيثما تيسر نبيذ، يحتسون نبيذًا/ وحين لا يتوفر نبيذ، فماء بارد”.
بهية بماكينتها السنجر السوداء الموشاة بخيوط الذهب، كانت مستعدة دومًا لتأكيد قوة الإنسان في مجابهة ما يشكِّل خطرًا يدفعه إلى أن يفسد أو يتلاشى. هي، ترتق ثقوب سحننا، وتبدّل “عروات” مقطوعة، وتسلخ شرائط الياقات الفائرة عليها، مرة دمنا ومرة حبرنا! كانت خياطة الحي المرتحلة في جرأتها، تحدق في عيني الموت، بين مبنيين، طالعة من قبو إلى شرفة، تجسد أبهى صور عزيمة الحياة في مواجهة الفناء.
خياطة الحي بهية، تهجم على قنَّاص الحي بلا خوف ولا وجل، مطلقة صيحتها الشهيرة، محاولة إيقاظ الضمير الميت “شو اشباااااك؟ شو بدااااك؟ وين أهلااااك”. تفضحه “يا عيب الشووووم”، وتسخر منه “شوف شكلاااك، شوف تيااابك، شو اشباااك هيك مبهدااال”، فتحوله بدهاء الخياطات، الجميل، إلى قناص جبان بـ”نصف ثيابه”، فينصرف.
خياطة الحي بهية، مقاومة، تكره التطرف، ترغب بالطبخ في الهواء الطلق، تعتني بالمشلول وبالطفل، تكنس الردم في شرفة أختها، وتصلي أن يعيد الله الألوان إلى القماش وروائح العيش إلى أبدان أبناء الحي.
خياطة الحي بهية، مثل ماتشادو، يحارب جنود فرانكو الفاشيين، بينما ينشد من أجل “العشيّة وأشجار الليمون والزيتون”. من أجل “البحر المتوسط”، بحر الأزمنة والشمس والألق. من أجل الميناء الذي منه “تبحر السفينة التي لن تعود” و”تلك السماء الزرقاء وشمس الطفولة هذه”. من أجل صيدا وقشتالة والمنشدين في الأزقة وعلى ظهور الخيل، في الأندلس وفينيقيا. من أجل وسامة الإنسان وكبريائه العذب المتواضع “لم أسع لكي تكون أغاني محفورة في ذاكرة الناس، ولكنني جبلت على محبة العوالم الناعمة، الشفافة والرقيقة، الشبيهة بفقاعات الصابون. أحب أن أراها تتصاعد ملونة بألوان الشمس والأرجوان، تطير تحت السماء الزرقاء، ترتجف أحيانًا، ثم تتشظى”.
الهشاشة يا بهية. العضلات التي لا تتمكن من استكمال نموها. الكلام الذي يرتعد ولا يعرف كيف يوصل المعنى. الأب الذي يرتدي “شروالاً” و”طربوشًا” ويمشي في أرذل العمر ببطء المنسحب، إلى الميناء. عروق الفلّ في أصصها الصدئة المثقوبة على حافات السطح تنازع من أجل البقاء لأيام أخرى لا يمكن ريّها فيها. خيطانك تحت الإبرة تفسخت من الرطوبة التي اقتحمت البيت بعد أن فقد كسوة نوافذه الزجاجية، بات عاريًا وأنتِ في قبو الخوف مختبئة لا يمكنك ستر عورته ولا دس الحياة إلى قماشك المهمل. الهشاشة في صحون من إرث العائلة، هي كل ما تبقى، ارتجفت وحدها على أرففها، من وقع صدى القذائف، قاومت، تمسكت بذكريات الأجيال والفرح والموائد العامرة، بأمل البقاء والارتحال إلى موائد الأحفاد، بوهم التصاق “أطباق الصيني” بسلالة الجين العائلي. الرسومات على البورسلين صرخت لهول الخوف. في الصرخة تعشش لكنتنا البدائية، لغتنا الأولى. جزع روميو “خلااااص بيكفي”. صرخت جولييت “يا شبح الشوووم”، بينما فرّت الأرانب من الرسومات تحاول الاختباء في قعر الصحون، فارتطمت بلوح الخشب في ظهر الرفوف. ثم، كما يليق بكائنات تعيش في مدينة عرفها التاريخ بحاضنة أول حادثة انتحار جماعي، حين أحرقت سفنها وميناءها وأغلقت بواباباتها وأشعلت النار في بيوتها، رافضة أن يتم اجتياحها، شبكت الأرانب حوافرها بأيادي روميو وجولييت والكائنات الأخرى وانزلقت دفعة واحدة من على الرفوف، إلى حتفها، تشظت مع الزجاج.
الهشاشة ألا يتمكن أحد من انقاذ الأرانب ولا روميو ولا جولييت، يا بهية!
وفيرن أيضًا تحطمت صحونها التي كانت كل ما تبقى من ذكرى لزواجها، المغدور بموت من أحبت، وتركت بلادها من أجله وارتحلت بعيدًا. كانت كل ما بقي من “بيت الزوجية”، الذي أبت أن تغادره بعد ترمّلها، لكي تبقي في ذاكرة أصحابه ذكرى وجوده ونمائه. أنه كان موجودًا ذات يومن وكان له بيت وعائلة في سكن مدينة “إمباير” المبنية لكي يخدم سكانها في مصنع معدات البناء.
أغلقت “إمباير”، وتوقف البناء، تجمدت المكائن، نما الصدأ على أذرعها، تآكل الكلس على جدران المساكن، هجرها أصحابها، سقطت الأبواب على البلاط، باب وحيد ظل في مكانه، باب المطبخ.
بعد شهور، تعود فيرن، في نهاية أحداث الفيلم، إلى البيت المهجور. تفتح الباب، لا يزال يودي إلى حديقة خلفية صغيرة متصلة بالصحراء، على حدود السماء. لا شيء غير الحرية. تمد ذقنها، هذه المرة لا بدافع التوتر، وإنما لتستقبل عطرًا هبّ من الحنين والذكرى. ينزلق العطر من ذقنها إلى شفتيها، ترميانه للأنف، يتجرعه بدفق الحياة السارحة على الطرقات، بين الحصى في الجبال القصية، وبين ذؤابات النار المتوهجة في حلقات النار لأمسيات الهاربين القانطين إلى الطبيعة وأحزانهم العميقة، وبين صخور الشاطئ التي تترك الأمواج تضرب تجاعيدها وتجدد حيويتها في كل مرة. هناك تفتح السيدة الأميركية الشجاعة، التي تحب العمل وتحني ظهرها لصناديق مركز أمازون تارة، وبلاط حمامات المدن السياحية تارة أخرى، ذراعيها وتحلِّق مثل طائر نورس يريد أن يعبر المحيط ليصل إلى أرض الشمس والأناشيد.
وبهية أحنت ظهرها لسنوات طويلة فوق الإبرة الدقيقة لكي تنتصب ظهورنا كجذوع الفرح في الأعياد. كان عليكِ أن تهربي منذ زمن بعيد. كان على الرحلة أن تبدأ من مدخل البناية، ولا تنتهي عند المدخل المواجه لها، بل عند حديقة حدودها مفتوحة حتى السماء، مثل حديقة فيرن. كان عليكِ أن تركبي معها الفان وتنطلقي غير آبهة بالهشاشة والقنَّاص والفل والحرب والشلل والقبو وأطباق العائلة. كان عليكِ أن تأخذي عوالمك الناعمة وتغادري ذلك البيت قبل أن “تضرب تكات الساعة حزن المنزل.. ونصمت جميعًا”.
**
بلا أمتعة، حافي القدمين، باردًا ومنهزمًا وخجلاً من الهروب، عبر ماتشادو خانق الجبل إلى منفاه الأخير”أيها السائر ليس ثمة طريق.. السير يصنع الطريق”.