عندما كنت تلميذًا طالما جاء شهر رمضان في قلب الشتاء، أي في أثناء الدراسة مهددًا ساعات مذاكرتي بالتقلص، ليس فقط بسبب الصيام أو الإرهاق المصاحب له بل بسبب مسلسلات التليفزيون وبرامجه التي تستهويني وتجذبني، ولذا وضع والداي نظامًا خاصًا لمشاهداتي التليفزيونية في رمضان، فباتا يسمحان لي بمشاهدة ما يروقني في أول يومين على أن أختار خلالهما مسلسلاً واحدًا وبرنامجًا آخر لمتابعتهما على مدار الشهر، وكنت غالبًا ما أتحايل لتمرير عمل إضافى، كأن أشاهد المسلسل السابق لموعد الإفطار مباشرة بحجة أنها ساعة ميتة لا يمكنني المذاكرة خلالها، كما سأطور النظام لاحقًا وأضيف مسلسلاً آخر يتم تسجيله على شرائط فيديو لأشاهده بعد نهاية الشهر.
في رمضان الذي صادف عام 1994؛ أي عندما كنت في التاسعة من عمري، حددت اختياراتي قبيل بداية الشهر وفقًا لخبراتي القصيرة السابقة؛ مسلسل (ألف ليلة وليلة) الذي كان يدهشني في هذا العمر بعوالمه الخيالية وساحراته المخيفات ومخلوقاته الغريبة، لا سيما وأنه خصص حلقاته في ذلك العام لقصة السندباد، الذي قام بدوره فاروق الفيشاوي وشاركته البطولة آثار الحكيم، أما بالنسبة للبرنامج فوقع اختياري على الفوازير إذ توقعت أن تكون من بطولة نيللي بعد أن تخلفت في العام السابق، كنت قد وقعت في غرام نيللي منذ أن شاهدت فوازير (عالم ورق ورق) و(عجايب صندوق الدنيا) و(أم العريف)، وصارت الفوازير في خيالي هي نيللي فقط.
إلا أن كل مخططاتي تغيرت، ففوجئت بغياب نيللي للعام الثاني على التوالي، إذ عُرضت فوازير من بطولة سمير صبري وسماح أنور وشيرين سيف النصر وحسن كامي باسم (احنا فين)، لم تجذبني كثيرًا فبحثت عن برنامج آخر، لا أذكر هل وقع اختياري على (الكاميرا الخفية) أم (حوار صريح جدًا). لم يتوقف الأمر عند حدود استبدال البرنامج المختار، ففي أول أيام رمضان تحداني والدي أن مسلسل ألف ليلة لن يكون جيدًا وأن هناك مسلسلاً أفضل منه بمرات اسمه (أرابيسك)، استفزني التحدي واعتبرته استخفافًا وإهانة لاختياري، فقررت أن أشاركه مشاهدة الحلقة الأولى من مسلسله (أرابيسك) بروح متربصة ونفس متحفزة، وأذكر عندما جلسنا في الصالون بعد صلاة العشاء لنشاهد بدايات الحلقة الأولى التي ترصد تهجير الحاج عبد الرحمن النعماني إلى أسطنبول تطبيقًا لفرمان السلطان العثماني سليم الأول الذي ينص على جمع أمهر الحرفية والصنايعية وبعثهم إلى تركيا، وهو ما تم تطبيقه بكل قسوة وعنف، أنني بدأت بالسخرية مما أشاهد، ثم تدريجيًّا بدأت في الانتباه والإنصات والانغماس في أجواء خان دويدار. في ذلك العام تابعت (أرابيسك) وشاهدت كل حلقاته التي تعدت الأربعين، ولم أشاهد شيئًا من مسلسل (ألف ليلة وليلة).
نبذة تاريخية أخرى
في 1978، وبعد عام أو عامين من أول أعماله التليفزيونية، قدم أسامة أنور عكاشة مسلسلاً بعنوان (المشربية) مع المخرج الذي شاركه بداياته فخر الدين صلاح، ومن بطولة سميحة أيوب وشكري سرحان، قام شكري بدور الأسطى عباس الحلواني، صاحب ورشة أرابيسك في إحدى الحارات، وهو صنايعي فنان دائم التطلع لفنون الأرابيسك في البيت الأثري المقابل لورشته، كما أنه معروف بين أهل الحارة بالشهامة و(الجدعنة) حتى بات نصير الضعفاء والمساكين والنساء المغلوبات على أمرهن. هل تذكرك تلك الشخصية بحسن أرابيسك؟ لا يقتصر التشابه على هذه الشخصية، فالفنانة الشابة حينها نسرين شاركت في دور فتاة متمردة تسعى إلى الخروج من الحارة، كما أن عبد الرحمن أبو زهرة جسّد دور عالم أثري يأتي في زيارة عمل إلى المكان نفسه، وكذلك ظهر محمود الحديني في دور فنان يأتي إلى الحارة ليطور مشروعه الفني بينما يعامل أهل المكان بشيء من التعالي. ثمة تشابه كبير بين شخصيات وتكوين (المشربية) و(أرابيسك)، حتى إن مقهى فرج أبو سنة في المسلسل الأخير كان اسمه (قهوة المشربية)، غير أن تطور الأحداث ومسارها يختلف في العملين.
أعتقد أن المسلسلين تضمنا واحدة من التيمات المتكررة في أعمال أسامة أنور عكاشة، والتي برع في تقديمها بتنويعات وحبكات مختلفة تجعل لكل مرة بصمة مميزة، وهي تيمة انتقال شخص من مجتمع إلى آخر مغاير بقيم وأخلاقيات مختلفة ورصد الارتباك الذي يصيب صاحب الرحلة ويصيب المحيطين به حتى يتغير أحد الطرفين، تجلى هذا في رحلة السيد أبو العلا البشري، وتكرر في (الراية البيضا) مع عودة الدكتور مفيد أبو الغار إلى مصر بعد الانفتاح، وانتقال بدر جابر قبطان في (النوة) من القاهرة للإسكندرية واحتكاكه بعائلة سوكة وأخوتها، ورحلة سمية في (أهالينا) من العزلة إلى الحارة، وعودة الدكتور ثناء من الخارج إلى مصر مبارك في (دماء على الأسفلت)، ورحلة السيدة وفية من الصعيد إلى أحد أحياء القاهرة الراقية في (امرأة من زمن الحب)، ثم رحلة عكسية في (أميرة في عابدين)، وكذلك انتقال الدكتور برهان إلى الغورية في (أرابيسك)، ورحلة كل من العالم والفنان إلى الحارة في (المشربية). عمل عكاشة على توظيف هذه الفكرة لرصد التحولات الاجتماعية، وتتبع أثر كل ما هو سياسي أو اجتماعي على ما هو إنساني وأخلاقي، فدائمًا ما نجد صراعًا بين نماذج أخلاقية أصيلة ونماذج أخرى نتاج تشوهات اجتماعية مستحدثة.
عقب عرض الجزء الرابع من (ليالي الحلمية) كتب أسامة أنور عكاشة معالجة لمسلسل(أرابيسك) وعرضها عبر وسطاء على عادل إمام الذي كان يتردد على مجمع التحرير لتصوير فيلم (الإرهاب والكباب)، وافق عادل مبدئيًّا على فكرة المسلسل وتحمس لها حتى انتشر الخبر على صفحات الصحف، ثم بدأت المحادثات بينه وبين أسامة التي ما لبثت أن توقفت بعدما طلب عادل إمام بعض التعديلات وهو ما رفضه عكاشة، وبعد مرور شهور رُشح أحمد زكي للدور، إلا أنه كان منشغلاً بتصوير فيلم (ناصر 56)، ثم رُشح يحيي الفخراني لدور حسن أرابيسك، إلا أنه طلب تأجيل التصوير لرغبته في تقديم مسلسل (لا) عن قصة مصطفى أمين أولاً، فانتهى الأمر بأرابيسك إلى صلاح السعدني، أهداه القدر هذا الدور الذي سيصبح واحدًا من أهم أدواره، وفي رأيي الشخصي أفضلها على الإطلاق.
حسن أبو كيفه
عرَّفنا أسامة أنور عكاشة على بعض الشخصيات الأخلاقية المثالية مثل أبلة حكمت وأبو العلا البشري ووفية، وربما الدكتور مفيد أبو الغار، لكن حسن أرابيسك لم يكن قط هذا النموذج أو المثال، حسن ابن بلد وجدع وذو دم خفيف، فنان صاحب ذوق رفيع، إلا أنه ضل طريقه وتفرغ لجلسات الحشيش فأهمل عمله وخسر زبائنه وفقد ابنه وتخبط في طرق عديدة ومسارات شتى. شارك حسن في حرب أكتوبر وقام فيها بأعمال بطولية بشهادة قادته، نال عنها وسام نجمة سيناء، وعاد من المعركة بأحلام كبيرة لمستقبل مشرق فخورًا بما أنجزه ومتطلعًا للمزيد، علق صورته وهو يتسلم الوسام في صدر الورشة، ورشة (المحروسة)، إلا أن أحلامه تبددت سريعًا، حيث فوجئ بالعالم يتغير من حوله، شاهد عالمه الذي اعتاده وألفه ينهار دون أن يتمكن من الاندماج في المجتمع الجديد، فنسمعه يقول للأسطى عمارة “الحلو والصح سوقهم جبر يا أسطى، ماعادلهمش زباين، الوقت ده مش وقتهم، ديه مش أيام حسن النعماني، لاء، ديه أيام رمضان الخضرى“. هرب حسن من الإحباط الذي حاصره وفر من العالم كله إلى دنيا الحشيش وجلسات الكيف، انجرف إلى هذا الطريق منذ نهاية السبعينيات كما يتبين لنا من إحدى مواجهاته مع أخيه الأصغر حسني.
حسن مندفع ومزاجي، أو على رأي صديقه فرج أبو سنة “حسن أبو كيفه، مجالوش كيفه”، فعلى الرغم من موهبته الفذة وقدراته الكبيرة وشخصيته القوية لا يستطيع مواكبة العالم الجديد، ولذا سعى إلى تغييب عقله، ولكنه لم يغب عنه تمامًا، ظل منتبها رغم أنفه. ليست أحكام حسن صحيحة بشكل دائم، ولكنها مناسبة لطبيعته ولبيئته ولأهله، فهو على الرغم من كل أخطائه وحالات الفقدان التي تصيبه إلا أن ثمة بوصلة للاتجاه الصحيح تكمن داخله وترده إلى الطرق السليمة.
أصبح هذا الفنان المحارب الجدع ضائعًا منذ شبابه، تحطمت أحلامه مبكرًا، تعارضت القيم والأخلاقيات التي زُرعت داخله منذ نشأته مع ما يراه يوميًّا في الحياة، أصبح تائها، ينتفض بين حين وآخر ليبحث عن (فتح انطلاقة) جديد ثم ما يلبث أن يتخبط ثانية حتى انفلت من بين يديه الزمان وجرى العمر، أربكته الحيرة، هذه الحيرة التى وصلت إلى قلبه فظل يتردد بين توحيدة وأنوار، بين رغبته في النجاح وجلسات الحشيش، بين الأسطى عمارة وفرج أبو سنة، ولذا فحسن يشعر بالوحدة، على الرغم من وجوده وسط أهله، على الرغم من كثرة معارفه وتعدد علاقته، على الرغم مما يحيط به من صخب.
“هتروح فين في ليلتك ديه يا حسن، أدى توحيده كرشتك بعد ما نقحتها بكلمتين فارغين، ولا نوم هيواتيك في البيت، تروح لمين تفضفض معاه وترمي همك على صدره، أمك وغضبانه، وأخوك زعلان، وأختك مشيت مجروحه. فاضلك مين يا حسن؟؟ آه، أصحابك… بس هما فين؟ تصور أن أنت مالكش أصحاب، معقولة ديه؟ لا، لا يا رجل، كل أهل الشارع أصحابك، فرج وطلبه وسعيد… لا دول أصحاب قعدة القهوة ولمة الحشيش، ميبقوش أصحاب بجد. بس فيه عمارة، الأسطى عمارة صاحبك وأخوك، بس عمارة بينام بعد العشا… فيه مين تانى… مين تاني؟! مين تاني؟!”.
امتزجت مجموعة مشاعر مربكة داخل حسن، الجدعنة وحب الخير للآخرين مع الشعور بالغبن والظلم، إحساسه أنه لم ينل ما يستحقه من تقدير، وأن العالم لم يعد يقدر فنه أو يقبل أفكاره، أن الحياة بشكلها الحالي لم تعد تناسبه، افتقاده لوالده ومثله الأعلى ثم لابنه وأمله في المستقبل، الشعور بالضياع والحيرة، كل هذه المشاعر الممتزجة تحولت داخله إلى طاقة من الغضب، فباتت نفسه تغلي تحت جلده من فرط رفضه لهذا العالم وتمرده عليه، فما أن يمسه أحدهم بكلمة أو يجرح كرامته حتى يجن جنونه، وتشتعل ثورته وينفجر الغضب المكبوت داخل صدره، فيبدو رد فعله أكثر عنفًا مما يحتمل الموقف، ولكنه في الواقع ليس غضبًا ضد سامبو نفسه أو رزق العجلاتي في شخصه أو عتوقه لذاته أو حتى رولا، بل غضبه من كل ما يمثله هؤلاء، هو غضب متراكم عبر سنين ومواقف عدة، يتصاعد مع أول لمسة لفوهة البركان.
“دنياك سكك، حافظ على مَسلكك، وامسك في نفسك للعلل تِمسكك، وتقع في خيه تِملكك تهلكك، أهلك يا تهلك، ده أنت بالناس تكون“!
لم يستسلم حسن للمغريات التي تُعرض عليه ولا لقيم لا يرضى عنها، لم ينغمس في الدنيا الجديدة، قاوم حينا، وهرب أحيانًا، ولكنه لم يرضخ، لم يضعف وينهزم مثلما حدث لعلي البدري من قبله، لم يمشِ في الركب، لم يسر في طرق رمضان الخضري، وظل معتزًا بفنه، لا يعامله كتجارة ومصدر للكسب فقط، بل كفن يستحق التقدير والاحترام قبل أي شيء. ظل متمسكًا بمبادئه حتى وإن تخلى عنها الجميع، نرى هذا بوضوح عندما عرض عليه صديق طفولته المهندس شريف ظاظا أن يقوم ببعض الأعمال لشركة أجنبية، رفض أن يوافق قبل أن يتأكد من أن إسرائيل ليست جزءًا من هذه الشركة، اتهمه صديقه وكذلك أخوه بأنه خارج الزمن وأن ثمة تصالح تدور آثاره في البلاد على قدم وساق، غير أن حسن أجابهم “أنا ماليش دعوة، أنا ليا دماغ وحر فيها“.
حسني أيضًا، أخوه الأصغر، شخص مرتبك، بل أكثر ارتباكا منه ولكنه أقل حنقًا وغضبًا، أو كان كذلك، ربما لأنه لم يشعر أن شيئًا ضاع منه بعد، على عكس أخيه، أو ربما لأنه بدا طامحًا لمستقبل أفضل ظن أنه يراه على مرمى البصر، كما أنه بلا بوصلة داخلية كالتي تكمن في قلب حسن، فقد يميل إلى جانب الشر دون وعي كامل بما يفعله. حسني الشاب المتعلم مشتت بين حبه لأهله وحارته وذويه، وبين رغبته في الاستقلال والتحقق والترقي اجتماعيًّا، هذا الصراع الذي يدفعه إلى الصدام مع حسن بين حين وآخر بحثًا عن صيغة مناسبة لتعامل الأخ الأكبر مع ابن العصر الجديد.
وينفلت من بين أيدينا الزمان
آخر ما عرفناه عن حسن أرابيسك أنه خرج من السجن بعدما هدم فيلا دكتور برهان وأنه تزوج من توحيدة وأنجب منها طفلة اسماها (دنيا)، دنيا حسن فتح الله النعماني، إلا أنني أعتقد أنني رأيته بعد ذلك، بعدها ربما بعشرة أعوام، لمحته في ميدان التحرير، كان يهتف بحماس وانفعال، صعد على المنصة واختطف الميكروفون من أحد الحزبيين وقال كلمة عفوية ألهبت حماسة الحاضرين، وأعقبتها إذاعة المنصة بأغنية (ياحبيبتي يا مصر) لشادية، تعرف بين الجموع على يساريين وشباب وملتحين، نام في الخيام وتلاسن مع الإخوان ودعا المتظاهرين للذهاب إلى ماسبيرو واقتحامه، ثم ثار عليهم عندما ترددوا ولم يتبعوه.
قبل هذا اليوم كنت أظن أنني لا أستطيع التعامل مع حسن أرابيسك بسلاسة أو الانصهار معه في جماعة واحدة بيسر، ربما أحبه أو أتعاطف معه ولكن دون احتكاك قريب ومباشر، توقعت أن اصطدم به عندما تجمعنا الحياة، على الرغم من شخصيته الجذابة وشهامته وخفة ظله، فإن بعض الطباع الشخصية قد تجعل من لقائنا لقاءً عاصفًا، مثل اللقاءات الأولى التي جمعت حسن بالدكتور برهان، غير أن توقعاتي لم تصب، فعندما رأيته في ذلك اليوم بمطلع عام 2011، شعرت بألفة كبيرة تجمعنا، رغم تحفظاتي على بعض تصرفاته وأفكاره فإنني لم أغضب منه قط، بل أحببته، أحببته فعلاً، عذرته وتفهمت اختلافاتنا، ولكننا افترقنا في نهاية اليوم، وصرت اسأل نفسي بين يوم وآخر وعند كل أزمة تطحننا، يا ترى أين ذهب حسن أرابيسك؟ وماذا يفعل الآن؟ هل تاه من جديد؟ هل عاد إلى هروبه وغيبوبته مرة أخرى أم أن (حسن راجع) كما هتف المجذوب أمام مسجد الحسين؟ وإن صحت نبوءة المجذوب فمتى ستكون تلك العودة يا حسن؟