كيف نستعيد حدثًا دون أن نقع في فخ التكرار والاستسلام للحنين؟ لا تحب الذاكرة العمل بدقة، دائمًا ما تضيف تعديلات مستمرة على كل ذكرى بعيدة أو قريبة، الحنين ضد التفاعل ، بل ضد فعالية الذاكرة ، وأحيانًا ما نقف عاجزين أمام محاولات تسجيل المشاعر، المحاولات الناجحة منها بالتأكيد تمنحنا فهماً جديداً لما عشناه و نضجاً نقابل به ما سنعيشه. يسجل إسلام العزازي هذه الحرارة، الطاقة التي سرت في القاهرة ( و أغلب مدن مصر) يوم 28 يناير 2011، جمعة الغضب، أطول وأغرب الأيام في تاريخ المدينة. نشر هذا العمل لأول مرة على موقع vimeo بتاريخ 17 يوينو 2011، وتنشره “مدينة” لنتأمّل ليلة الغضب بشكل لم نره من قبل.
هل احترقت القاهرة يوم ٢٨ يناير ٢٠١١؟
يومها التاريخ تغير، حينما “ركب الشعب” كما ابلغ الضابط قائده في الجهاز اللاسلكي. وهده لحظة فارقة في نظام يبني شرعيته على نظام ” الغالب راكب” كما في صراعات العروش بالجيوش فيما قبل الدولة الحديثة. ومنذ ذلك اليوم بدأ الصراع المضاد لمحو هذا التاريخ، وإعادة ” هندسة المجتمع؛ على الشرعية المملوكية لتصبح السلطة ركوباً و ليست عملية ديمقراطية يشارك فيها الشعب، والغلبة ليس بقوة السلاح بل بديناميكية سياسية تتطور خارج سطوة الحاكم /الفرد /الإله.
يومها لم يشبع الغضب، ذلك الذي حرق القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢…تلك الحكاية المركزية التي ظلت سطوتها حاضرة لأكثر من خمسين عامًا، حضور يشبه الألغاز التي لا حل لغموضها، لكنها كانت إشارة بنهاية عهد الملكية وبداية عهد الضباط الذي أتى بعد ذلك بشهور قليلة.
“من الذاكرة الشعورية” يبني إسلام العزازي جمعة الغضب كما رسمتها تلك المشاعر التي تمر في العمر مرة واحدة ، أو لاتمر …كيف أصبحت النار الضوء الوحيد في المدينة التي إنتهت علاقات السلطة والملكية، وحدود الشوارع في غمضة عين.. سكان المدينة يمارسون طقوسًا جديدة عليهم تماماً. يخرجون من عوالمهم المغلقة على التواطؤات اليومية و التاريخية، لإعلان سيطرتهم على شوارع المدينة لفترة عابرة. سنشاهد في هذه الدقائق الحريق مثل طقسً غريب وجميلً حدث ذات ليل من ليالي المدينة الغاضبة. الجمال والقوة في هذا العمل الممتد لأربعة دقائق و١٧ ثانية نشاهدهما يلتقيان لأول مرة بشكل مميز، مثلما يتقابل العنف مع التغيير في أطول يوم في تاريخ مصر الحديثة. يوثق الفيلم القصير لحظة اختلاط المشاعر بالأحداث العنيفة حين أراد حراس نظام مبارك أن يعيدوا الناس إلى حالة الركود المريرة.. هكذا ضربت القاهرة قنابل الغاز والهراوات والمدرعات والرصاص. خرجت الشرطة بكل قوتها من أجل منع أول خروج جماعي. كان خروج الناس دون أوامر أو تأييد مستتر للسلطة هو سر العنف. أرادت الأجهزة أن تعيد هندسة المدينة لتكون مستنقعًا للبلادة، لكن الناس كسرت هذه الهندسة و السيطرة فقد كان الغضب أكبر من النار وأقوى من مجرد حريق.