انتشرت هذه الصورة على مواقع ومنتديات ومدونات الحنين إلى زمن يسمونه أحيانًا زمن الليبرالية، وأحيانا التنوير، وكتبت فيها المرثيات الطويلة لحريات بلا حدود، وأجساد لا تختفي في علب فضيلة ما بعد زمن ``الصحوة`` الإسلامية أو ما يسمى أحياناً بـ ``الغزو الوهابي``. وفي طغيان هذا الحنين جزء لا يستهان به من اختصار للماضي، في صورة أو مظهر يخفي تحت السطح صراعات عنيفة بين وكلاء الماضي المجيد والعصر الذهبي، وبين وكلاء استنساخ الغرب دون أفكاره؛ صراع لا يمكن اختزاله في مظهر أو صورة، أو في مقابل كلام مبتذل عن الخصوصية والهويات الشرقية/القومية.
هذه الصورة التي تآكلت أطرافها، كيف توجد في اللحظة الراهنة الآن، كيف تتفاعل مع الصراع الذي وصل إلى حافة حادة؟ الصورة من رأس البر 1964، هذه المدينة الصغيرة التي كانت مصيفًا للمشاهير وطلاب الهدوء القريب من البدائية والتلقائية، في مقابل الإسكندرية المدينة والمصيف في الوقت ذاته، وهو موقع تشغله الآن مدينة دهب و ``راس شيطان`` في نويبع/ سيناء.
السؤال هنا لا يبدأ من غزو ثقافي في مواجهة نقيضه (غرب/ وهابية)، لكن في النظرة إلى الجسد؛ حريته، وصحته، ولعبة الإخفاء بين المثير والمبتذل، والتحرر من الوعي المحافظ، والالتحام مع غريزة الطبيعة… مداخل يمكننا أن نعيد من خلالها النظر إلى لعبة إخفاء الجسد بين المصيف والمدينة.وهذا من شواغلنا التي سنتناولها في ``مدينة``على أكثر من مستوى للحفر في الأعماق، ونبدأ بكتابة أسماء ياسين عن مشاهدات عاشتها بين رأس البر والقاهرة،من الثمانينات إلى الآن،ومن المايوه إلى النقاب.
لماذا تختبئ السيدات في عربة السيدات؟
مترو القاهرة، بالذات، شر لا بد منه أحيانًا، وأنا لا أحب ركوب المترو، ولا أحب ركوب عربة السيدات في المترو؛ كراهية فطرية ضد كل الجيتوهات تمنعني من تعمد ركوب عربة السيدات، لكني أعلم جيدًا لماذا تلجأ السيدات لعربتهن؛ إنها لعبة التخفي الوهمية المؤقتة، واللعبة جزء من الإجابة عن سؤال كيف وأين نخبئ أجسادنا التي تؤرق المجتمع المتوتر؟ أعتقد أن النساء مؤخرًا أصبحن يفكرن على هذا النحو “سنختبئ في هذا المستطيل المعدني المزدحم جدًا يا بنات، ونكون على راحتنا؛ نضحك، ونجلس على الأرض، نعدل ملابسنا التي لا تظهر ما يدعو للإخفاء أساسًا، ونلتصق ببعضنا بعضًا، وإن شئنا تجربة مدى فاعلية أحد أنواع مستحضرات نزع الشعر عمليًّا، فلنفعل ذلك (حدث بالفعل في إحدى عربات الخط الأول حلوان/ المرج)، وبعدها بدقائق نخرج للعالم المزدحم جدًا ثانية، برجاله الذين هربنا منهم للحظات معدودة، بقدرته على اختراق كل محاولاتنا لصنع مجال عام صغير ومغلق، بعيدًا عن التلصص، والتوتر”.. تختبئ النساء الآن كي لا ينظر إليهن بوقاحة رجل قليل الأدب. قبل ثلاثين عامًا بدأن يختبئن خشية أن تأكلهن نار جهنم!
رعشة النزول إلى الماء
في طفولتي المبكرة، براس البر، والتي صادفت منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كنا في الفجر – بنات العائلة وبنات الجيران- نحمل كراسي الخيزران وشمسيتنا الكبيرة على أكتافنا، ونتجه إلى البحر مشيًا، حافيات والرذاذ “يرعش كتافنا”، نغني بصوت عالٍ؛ الشارع شارعنا، والمدينة مدينتنا، والناس نيام، ولم يصح بائعو الحليب حتى، وعندما نصل ننصب الشمسية الملونة، نخلع ملابسنا الخارجية، ونحتفظ بمايوهاتنا. الشاطئ خالٍ إلا من عمال كافيتريات البلاج الذين لم يبدؤوا عملهم بعد. وننط في الماء، رعشة أخرى؛ اللحظة الأولى في المياه الباردة، قبل أن يتوافد المتلصصون على عرينا -غير الكامل طبعًا. ونظل في الماء حتى يظهر أول شاب، أو حتى نجوع لأن “البحر بيجوَّع”، أو حتى تطلع الشمس؛ عندها نعرف أن علينا أن نخرج لنرتدي ملابسنا، خوفًا من التلصص، والحمرة التي تلهب الوجوه وتنتهي إلى سمرة. ونعود من حيث أتينا، ماشيات، حافيات، هاربات من الشمس، وأكثر سعادة..
-بيرة؟
- لا طبعًا..
في أوائل السبعينيات، صورة بالأبيض والأسود، جدي، حافظ القرآن وإمام المصلين، بالمايوه، نائم على البلاج وبجواره تجلس جدتي في فستان قصير وبنصف كم، وأمامهما بناتهما، أمي وخالاتي، بالمايوهات، وفي خلفية الصورة نساء وفتيات ترتدين المايوهات، والجميع مبتسمون؛ حتى أنا التي رأيت الصورة بعد التقاطها بخمسة وعشرين عامًا!
في أواخر الثمانينيات من القرن التاسع عشر، أنشأت السيدة الفرنسية مدام كورتيل أول مطعم وبار، وفندق لاحقًا، على لسان رأس البر أمام طابية الشيخ يوسف، وهو الفندق الذي التقى فيه محمد عبد الوهاب زوجته الثانية إقبال نصار وأحبها، لكنها تجاهلته وعادت إلى القاهرة، فسافر وراءها إلى القاهرة، ولم ييأس حتى تزوجها بعد طلاقها..
في أواخر سبعينيات القرن العشرين، يجلس شاب وسيم (أبي) مع خطيبته الجميلة غير المحجبة (أمي) في إحدى الكافيتريات المفتوحة على شارع النيل، وجاء الجرسون وسألهما: بيرة؟
فاتسعت أعينهما من الدهشة “لا طبعا!”.
في منتصف تسعينيات القرن العشرين، أمي عائدة من البلاج، بنقابها الأسود وعباءتها، وبجوارها خالي، بشورت قصير وقميص مفتوح، وحين رأتهما امرأة تقف في فراندة عشتها مصمصت شفتيها بسخرية، وقالت “حرام عليكم يا مسلمين”!
الحلو لابس ثياب النوم ومزرره بحب مرجاني
في زمان ما، كان الحلو يستطيع أن يلبس ثياب النوم ويزررها بحب مرجاني، وساعة يسكر وساعة يميل شبه العود الريحاني، لكن ليس الآن؛ الحلو لا يستطيع أن يلبس ما يحلو له، ولا أن يسكر ولا أن يميل؛ لن تجد في راس البر الآن إلا محل واحد لبيع الخمور “باولو”، ومنذ نحو سنة انفجرت أمامه قنبلة محدودة، ولم تسفر عن أي خسائر. في السنة الماضية أغلق محل ثانٍ “شبه سري” كان يملكه مسلمون، ويشغل العاملون فيه القرآن. لكن عمومًا بدءًا بأوائل الثمانينيات أقفلت محال الخمور تباعًا، بعد أن كانت كل الكافيتريات في شارع النيل وعلى البلاجات تقدم البيرة على الأقل..
على البلاج ستجد لافتة، زرقاء غالبًا، تحذر “السادة المصطافين” من التجول في المدينة بملابس “البحر”.. كما أن الجوامع تمنع الأولاد من دخول حمام الجامع بالمايوه.. في بدايات القرن العشرين، وكانت المدينة وقتها ما تزال حديثة- بدأ إنشاؤها في عام 1865، لكن أولى العشش بنيت في 1905- أصدر المحافظ قرارًا غريبًا؛ يقضي بألا يتجول أحد بالمايوه على الشاطئ دون بُرنس، ولا يجوز خلع البُرنس إلا عند وضع القدمين في الماء استعدادًا للعوم.. وبالفعل بدأت الهجانة تنفيذ هذا القرار، واشتبكت مع الشباب، وتأزم الموقف، فعدَّل المحافظ قراره ليكون المنع حتى الثانية عشرة ظهرًا فقط..
أغلقوا الأبواب وامنعوا الرجال: سنخلع ملابسنا ونرقص
في صورة تعود للستينيات، عمود خشبي على بلاج، معلق عليه ثلاث لافتات؛ الكبرى مكتوب عليها “مدرسة السباحة، والثانية “بلدية رأس البر”، والثالثة مكتوب عليها كلمة واحدة “مجانًا”. وعلى قاعدة العمود تقف فتاة جميلة مبتسمة، ربما تكون هي مدربة السباحة، وربما لا، ترتدي قطعة علوية من بيكيني فاتح، وبرمودة، تحت العمود تقف طفلة، وحوله يتحلق الكثير من الأولاد..
كنت طفلة محجبة، وطالت مدة حجابي، لذا فقد اعتدت، ولا أزال، أن أُثمِّن اللحظات التي أفعل فيها ما أحب، وألبس فيها ما أريد، أينما أريد. حاليًا لم يعد ممكنا أن يكون الشاطئ كله لنا، ولو فجرًا، وصار مستحيلاً أن نحتل المدينة الصغيرة، لأن المدينة الصغيرة ببساطة لم تعد صغيرة إلى هذا الحد. المدينة الآن تكره الحرية، وهذا لا يعني أبدًا أنها كانت تحبها في يوم من الأيام، أشباح الحرية بقايا مركب غارق. لماذا صار الناس أكثر مما ينبغي؟ متوترين، وخائفين، وفي الوقت نفسه مقتحمين، وعلى أهبة العنف. والبلاج لم يعد يخلو للحظات، تأتي العربات محملة في الليل، ليعسكر القادمون على الشاطئ حتى الصباح، ينصبون خيامهم، ويشغلون موسيقاهم بسماعات ضخمة، ويطلقون عيونهم في كل مكان، يجلسون متلاصقين. لن ترحم العيون، نسائية كانت أو رجالية، فتاة ترتدي ملابس مناسبة للعوم. البحر نفسه يتحول أحيانًا إلى عربة أوتوبيس قاهري زرقاء وصدئة وضيقة..
في العشر سنوات الأخيرة ابتدعت النساء حيلة جديدة، يستطعن فيها أن يكن على حريتهن تمامًا، في ليلة الحنة يجتمعن في بيت العروس، ويقمن حفلاً كبيرًا، فرحًا تجريبيًّا، ويحضرن فرقة كاملة لإحياء الحفل؛ دي جي حريمي، وراقصة تقليدية، ببدلة كليشيه -ربما تكون هذه الراقصة منتقبة أصلاً، وفي بقية الأحوال محجبة- وترتدي الفتيات والنساء ما يحلو لهن من الثياب المكشوفة، ويحكين النكات المكشوفة، ويغنين الأغاني المكشوفة. لا يسلم الأمر من أن يدخل ولد في العاشرة إلى الحفل عفوًا، فتجري النساء هنا وهناك للاختباء، وهن يصرخن.. وأنا أضحك.
أين ذهبت رحمة الله وبركاته؟
في أوائل التسعينيات، في مدينة الزرقا/دمياط، وهي مدينة لا تطل على بحر، ولا تستطيع أن تطل على بحر، في عصرية حارة، فتحت الباب؛ لتظهر لي ثلاث نساء متشحات بالسواد كليًّا. أنقل بصري بينهن، أتأمل سوادهن حائرة، لم أتوصل لمعرفة من تكنًّ؛ إلا حين قالت إحداهن بصوت رخيم، وبلغة فصيحة “السلام عليكِ ورحمة الله وبركاته يا أم أيمن”.
-وعليكم السلام. “أرد باختصار، لا يحمل سوء نية”
– وأين ذهبت رحمة الله وبركاته؟
(أم أيمن كنيتي التي كانت الأخوات تناديني بها في طفولتي، طبقة أخرى من الإخفاء؛ يختبئ الاسم الأصلي وراء كنية تيمنًا بإحدى الصحابيات).
بمجرد أن دخلت النساء إلى البيت تخففن من خمرهن، وخلعن قفازاتهن، كان العرق يغطي وجوههن، إحداهن رمت نقابها بعيدًا وقامت لتقف أمام المروحة. وأخرى خلعت عباءتها وأخذت تهوّي بأطراف ثوبها الداخلي على ساقيها..
يداك لسان بدائي، سبيلك إلى اللمس، طريقك الأولى لمعرفة الأشياء؛ تتذوقان الخشونة والنعومة، وتتخذان قراراتهما، اليد الحرة هي يد بلا قفازات، بس على مين! أختي المسلمة البسي قفازاتك بارك الله لك! القفازات بقية عدة الحشمة السوداء، والفصحى الرخيمة، والأسود العاصم من الفتنة؛ فالألوان- وإن كانت ليست محرمة قطعيًّا- مكروهة كراهة تنزيه “للمرأة أن تلبس ما شاءت من ألوان؛ ما لم تكن متبرجة بها من أجل الرجال. مع تفضيل للأسود ونحوه. وحدهم الرجال، يحرم عليهم لبس الثياب المعصفرة والمزعفرة” أكن وقتها أعرف ماذا تعني كراهة التنزيه، ولا العصفرة، ولا الزعفرة، لكني كنت أدري أن الأسود مقيت، والاختفاء مقيت، أما ما لا يغتفر حقًا هو الإخفاء.
المومياء، جسد ميت ملفوف بطبقات كثيرة من القماش، لا روح فيه، ورائحته نتنة، لو التقيت مومياء وسألتها عن أحوالها، أظن أنها كانت ستفضل أن تترك لتتحلل تمامًا. الجثث لا تحب القماش، مع أن الجميع يحبون الاختفاء، لكن على سبيل اللهو؛ أذكر جيدًا آخر مرة لعبت استغماية؛ جربت مرة أن ألبس نقاب أمي، ووقفت في البلكونة أتفرج على الخلق، وبصراحة كان ممتعًا أن أرى الناس ولا يرونني، تلصص لذيذ، وتحرر من مسؤولية وجهي وجسمي المؤرقين للمجتمع المتوتر بطبيعة الحال. ساعتها شعرت أنني إله صغير..ينقصني فقط أن أقول للأشياء كن فتكون..