ترى أين كان المسيح في احتفالات ليلة ميلاده؟ أقصد كما أراد أن يعرفه الناس، لا أظن أنه كان حاضرًا حيث كانت الـ“السلطة” حاضرة بفخامة. لم تحبه “السلطة” قط في زمنه، لا السياسية ولا الدينية، لم يحبه التجار ولا الأغنياء ولا رجال الأعمال، مع أنهم كانوا يقدمون “تبرعات” هائلة للهيكل.. أحبه فقط الفقراء ومن حلموا بحياة أفضل وربما بعالم أفضل، كانوا أصدقاءه ورفاق مسيرته، كان معهم “يجول يصنع خيرًا” ولكن “خيره” لم يكن قط على هوى السلطة، طاردته “السلطة” منذ لحظة ميلاده، اضطرت أمه “لاجئة” زمنها للاختباء في مزود أبقار، واضطرت للهرب وعبور “الحدود” إلى بلد أخرى هربًا من “الوالي” الذي كان يطلب الصبي نفسه، لم يحضر قط في وجود السلطة إلا ليواجهها، ليطلب العدل والحرية لرفاقه الفقراء وطالبي العدل والكرامة.. أظنه كان حاضرًا أمس حيث المظلومين والمهمشين، هذا ما اعتاد عليه في زمنه، أظنه كان يواسي من فقدوا أبناء وبنات وآباء واجهوا “السلطة” كما واجهها هو من أجل حياة أفضل..
كانت الصياغة الأولى لهذا المقال منذ سنوات، ساعتها شغلتني كلمات أمل دنقل في قصيدته “كريسماس“: اثنان لم يحتفلا بعيد ميلاد المسيح، أنا والمسيح. أظن أن كثيرين لم يحتفلوا أمس ولم ولن يتم دعوتهم أبدًا لذلك الاحتفال الفخم، وكان بينهم فيما أظن المسيح نفسه.. يحتفلون فقط بالأمل في غد أكثر حرية وعدالة.. لهم هذه الكلمات عن ميلاد وثورة هذا الذي وصفته السلطة بأنه “يفسد الأمة” و“يهيج الشعب“..
مشهدان بينهما ما يقرب من ثلاثة عقود جرى فيهم الكثير؛ مشهد أول هادئ لعائلة فقيرة لا تجد مكانًا لولادة طفلها، فتلجأ الأم لمزود أبقار ويولد الطفل الذي ستغير كلماته وأفعاله شكل العالم كما كان معروفًا وقتها، ثم “وفيما هو يتكلم، إذا يهوذا أحد الاثني عشر قد جاء ومعه جمع كثير بسيوف وعصى من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب” متى .47:26
المشهد الثاني مزدحم: تلميذ خائن، جمع كثير يقف من ورائه رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب وسيوف وعصي. أطراف عدة خرجت للقبض على ذلك الطفل الفقير الذي أصبح شابًا، أصبح معلمًا فقيرًا يتبعه تلاميذ قليلون فقراء مثله، لماذا كل هذه الضجة؟ لماذا كان “رؤساء الكهنة والكتبة مع وجوه الشعب يطلبون أن يهلكوه ولم يجدوا ما يفعلون لأن الشعب كله كان متعلقًا به يسمع من“ لوقا 48.47:19
لماذا “يرسلون جواسيس يظهرون أنهم أبرار لكي يمسكوه بكلمة حتى يسلموه إلى حكم الوالي وسلطانه” لوقا 20:20
صفوة السلطة والثروة والسياسة؛ رؤساء الكهنة والكتبة، والفريسيون، ووجهاء الشعب يتآمرون، يرسلون جواسيس، يحاولون الإيقاع به وتسليمه للسلطة الرومانية، يطلبون أن يهلكوه، جميعهم على الرغم من اختلافاتهم أو تنافر مصالحهم يتحدون ضده، هم جميعًا في جانب وهو والشعب كله الذي كان متعلقًا به يسمع منه في الجانب الآخر.
مرة أخرى لماذا؟ هل لأنه كان يجول يصنع خيرًا؟ نعرف أنه كان “يجول يصنع خيرًا ويشفي كل ضعف في الشعب” ولكن دعونا نسمع إجابة الكهنة والكتبة ووجهاء الشعب أمام بيلاطس الوالي الروماني “إننا وجدنا هذا يفسد الأمة، ويمنع أن تعطي جزية لقيصر، قائلاً إنه هو مسيح ملك” لوقا 2:23 بل ويشددون القول “إنه يهيج الشعب وهو يعلم في كل اليهودية مبتدئًا من الجليل إلى هنا” يوحنا 5:23
يبدو أن المعلم الفقير لم يكن فقط يشفي مرضى ولكنه كان يعلم ما اعتبروه “إفسادًا للأمة” و”تهييجًا للشعب“ في كل اليهودية، كان يتحدث عن الجزية والقيصر، وعن الأغنياء ورؤساء الكهنة، وعن الحرية، إنه “تكدير للسلم العام”! هذا هو الخير الذي كان يفعله إذن، إنها رسالة الحرية الأولى التي قرأها حين دخل المجمع اليهودي ودفع إليه السفر ليقرأ للمرة لأولى “روح الرب علىَّ، لأنه مسحني لأبـشـر المساكين، أرسلني لأشفي منكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمى بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية وأكـرز بسنة الرب المقبولة” لوقا 17:4
تقرأ الكنيسة المصرية هذه الكلمات في إنجيل اليوم الأول من السنة القبطية – حتى وإن تناسى ذلك بعض رجالها الآن- لتذكر بأن هذه الرسالة هي مهمة العام كله والحياة كلها، إنها رسالة إطلاق المأسورين وتحرير المنسحقين، لم يكن المسيح هنا يتحدث عن معنى “روحي”، أنه يتحدث عن مأسورين حقيقيين وحرية حقيقية في مجتمع ظالم، إنه يتحدث عن سنة الرب المقبولة التي تسقط فيها الديون المادية عن أصحابها على حسب التقليد اليهودي، لم تكن رسالة روحية فقط وإلا ما انزعجت كل سلطة قائمة؛ رؤساء الكهنة ووجهاء اليهود وأغنياؤهم والسلطة الرومانية، إنها رسالة تغيير وعدالة وكرامة وحرية تدعو أن يكون الكل متساويين و أحرار..
لم يكن الخير الذي يجول يصنعه هو هذا التصور البسيط الاستعلائي للخير، خير الصدقة أو مساعدة المحتاجين فلم يكن لديه ما يعطيه صدقة، ولا حتى هو شفاء الأمراض فقط، إنه خير التغيير الكامل لحياة البشـر/ البشرية، خير تطهير الحياة من الداخل ومن الخارج على السواء، إنه خير الثورة على إنسانية مهانة مستعبدة، إنسانية أبنائها مساكين ومنكسري قلوب، ومأسورين وعميان ومنسحقين، إنسانية مقيدة بقيود رجال الدين اليهود ومعهم التجار والسلطة السياسية الرومانية.
دعونا نحاول أن نرى بعض هذا “الخير” الذي كان يجول يصنعه علنا نفهم بشكل أفضل لما كل هذا الغضب علي طفل المزود الفقير من وجهاء الشعب!
الحيات أولاد الأفاعى
صدام مباشر لا هوادة فيه مع رجال الدين اليهود الذين جلسوا على كرسي موسى “يقولون ولا يفعلون، فإنهم يحزمون أحمالاً ثقيلة عسيرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس وهم لا يريدون أن يحركوها بأصبعهم”متى 23، إن المسيح يواجههم بكل عيوبهم: إنهم يغلقون أبواب ملكوت السماوات قدام الناس، يأكلون بيوت الأرامل، يصفهم بأنهم جهال وقادة عميان متى 23، يقول لهم “ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون! لأنكم تعشرون النعناع والشبث والكمون وتركتم أثقل الناموس (الشريعة): الحق والرحمة والإيمان” متى 23:23، إنه يخبرهم أنهم مثل القبور المبيضة من الخارج يظهرون للناس أبرارًا ولكنهم من داخلهم مشحونين رياءً وإثمًا ويسألهم “أيها الحيَّات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم؟“ متى 33:23
أظن أن المسيح لم يستعمل هذه اللغة القاسية العنيفة إلا مع هؤلاء، إنه ينتصر للناس، ويهاجم مظهريتهم، يهاجم تمسكهم بكل ما هو شكلي، إنه يبحث عما يستحق: الحق والرحمة والإيمان.
إنه في كل مرة يتحدث معهم يخبرهم إنهم مراؤون، ويخبر تلاميذه أن يحترزوا من تعليمهم متى 16، بل حتى في إحدى معجزاته حين شفى تلك المرأة المنحنية التي لم تقدر أن تنتصب البتة لوقا 11:13 واغتاظ رئيس المجمع لأن يسوع أبرأ في السبت “فأجابه وقال: يا مرائي، ألا يحل كل واحد منكم في السبت ثوره أو حماره من المزود ويمضي به ويسقيه؟ وهذه وهي ابنة إبراهيم، قد ربطها الشيطان ثمان عشرة سنة، أما كان ينبغي أن تحل من هذا الرباط في يوم السبت؟” لوقا 13، إنه وكما في كل مرة ينتصر للناس في وجه سُلطة جائرة، إنه يوبخ رئيس المجمع الديني ويشفي المرأة المنحنية، إنه كما يرفض انحناء المرض، ويرفض أيضًا انحناء القهـر وعبودية الحرف، إنه يرفض انحناء النفاق لـلسلطة أي كانت.
لم يصطدم فقط مع رجال الدين، ها هو يرد على من ذهبوا يطلبوا منه أن يرحل لأن هيرودس الوالي الروماني يريد أن يقتله “امضوا وقولوا لهذا الثعلب: ها أنا أخرج الشياطين وأشفي اليوم وغدًا، وفي اليوم الثالث أكمل” لوقا31:13، إنه يبعث رسالة للوالي الروماني واصفًا إياه بالثعلب، ويرفض الهرب ويعلن أنه مستمر في رسالته في صنع الخير كما يراه حتى المنتهى..
الكتبة والكهنة والوالي الروماني ومحتكري الثروة إنه يعلن صراحة أن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من دخول غنى إلى ملكوت الله متى 19، إنه يأخذ سوطًا ويطرد التجار والصيارفة؛ رجال أعمال زمنه من الهيكل رافضًا أن يتحول من بيت صلاة إلى مغارة لصوص متى 21
يبحث عن الحق والرحمة والإيمان، لا يخشى الوالي ولا وجهاء الشعب ولا الكهنة ولا التجار، يعرف نتيجة ما يفعله ولا يخشاه، بل ويزرع الشجاعة في قلب تلاميذه “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد”..
هل بعد كل هذا يمكن أن يحبه هؤلاء، هل يمكن أن تحبه “السلطة؟”.
كانوا يعلمون أنه إما وجوده أو امتيازاتهم، لم يعد هناك بديل فذلك “الخير“ الذي يجول يصنعه يضيع كل مكاسبهم، فخيره يساوى بين الجميع، إنه لا يحابى بالغنى أو السلطة، لا ينافق، لقد جاء للجميع، يطلب الحياة للجميع “الخير” يصنعه للجميع..
ثوب جديد
لم يكن صدام السيد المسيح فقط مع أصحاب السلطة بتنويعاتهم، الأهم أنه كان مع ما رسخ عند مجتمعه من أفكار، ها هو يعلن ان أبوة الله للجميع، إنه لم يعد هناك شعب مختار، ها هو يخبرهم أن ملكوت الله يُنزع منهم متى 23:21، و أن العشارين والزوانى يسبقونهم للملكوت متى 31:21، “هناك يكون البكاء وصرير الأسنان، متى رأيتم إبراهيم واسحاق ويعقوب وجميع الأنبياء فى ملكوت الله وأنتم مطروحون خارجاً، ويأتون من المشارق والمغارب ومن الشمال والجنوب و يتكئون فى ملكوت الله“ لقد صار الملكوت للكل، لكل البشر من كل أقطار الأرض.
ها هو يتحدث مع “إمرأة سامرية“ يوحنا 9:4 لتسأله هى كيف يسألها وهو “يهودى“ وهى “سامرية” – وكان اليهود شديدى العنصرية تجاه السامريين- ويتعجب تلاميذه كيف يتحدث مع ” إمرأة“، إنه يرفض مفاهيم بالية، إنه ينتصر للإنسان أى كان جنسه أو نوعه أو عقيدته فلا يفرق بين يهودى وسامرى وأممى، لا يفرق بين رجل أو إمرأة، الكل مدعو أن يتبعه، يسخر من قبليتهم الحادة وذكورية مجتمعهم ويعلن أن القريب هو الإنسان/ الأخر بغض النظر عن جنسه أو عقيدته أو لونه.
ها هم اليهود يحضرون له من أُمسكت فى ذات الفعل؛ زنا، جريمة ضخمة فى مجتمع قبلى ذكورى، ويطلبون رجمها كما علم موسى، فيطلب أن يرجمها أولاً بحجر من كان منهم بلا خطية وحين إنصرفوا جميعاً يسألها أما دانكِ أحد؟ فقالت لا يا سيد، فقال لها يسوع ولا أنا أدينك، إذهبى ولا تخطئِ يوحنا 8 .هل هذا الشخص الذى يرفض إدانة من يراها المجتمع مجرمة ويرفض تنفيذ ما علمه موسى هو نفسه الذى كان يهاجم الكتبة والفريسيين وهيرودس، هل هو من كان يحمل السوط فى الهيكل ليطرد التجار منه؟ نعم هو هو ولكنه يعيد ترتيب أولويات الحياة ويعطى الأشياء قدرها، فالسوط للتجار/ اللصوص واللغة العنيفة لمن يسيئون إستخدام السلطة وليس لتلك المرأة البسيطة حتى وإن رأوا أنها أخطأت …
إنه يجلس مع الخطاة لوقا 27:5، إنه دائماً يفعل ما لا ينتظرون أو يريدون، إنه لا ينافق رؤساء الكهنة أو الدولة الرومانية ويحنو على من أُمسكت فى ذات الفعل. إنه يرفض وضع “رقعة جديدة” على ثوب قديم لوقا 36:5، فالترقيع لن يصلح شيئاً، إنه يريده ” ثوباً جديداً “/ حياة جديدة، إنه يريد حرية و كرامة لكل البشر، إنه يدعو المساكين والجُدع والعرج والعُمى وكل مهمشى زمنه لوقا12:14، رغم أن بعضهم هتفوا أمام الولى الرومانى “اصلبه.. اصلبه.. دمه علينا وعلى أولادنا”، صنع “ثورة” من أجلهم، إنه يحبهم رغم كل شئ ويطلب الحرية للجميع حتى من أفكار أو عادات أو ممارسات تستعبدهم، إنها حرية مجد أولاد الله.
نعم لقد كان المسيح يفسد الأمة ويهيج الشعب كما قال كهنة اليهود، لو كان بيننا الآن ربما كانت ستذاع له مكالمات تليفونية مسربة، أو ربما كان زميلاً لعلاء عبد الفتاح فى زنزانته بتهمة تكدير السلم العام، كان يفسد أمة غابت فيها إنسانية الإنسان وكرامته وحريته، كان يفسد أمة رؤساء الكهنة والتجار والرومان، كان يفسد أمة كل من أو ما يستعبد الإنسان، ينتصر للإنسان فى وجه كل هذا وكل هؤلاء. لقد أتى ليكون لهم حياة و يكون لهم أفضل يو 11:10 إنها حياة الآن و دائماً….
و هو يطلب من كل من تبعه أن يحمل رسالته، أن يتاجربمعارفه ومواهبه وحماسه وإنسانيته ويربح بها حرية وكرامة، أن يبـشـر المساكين، يشفى المنكسرى القلوب، ينادى للمأسورين بالإطلاق وللعمى بالبصر ويرسل المنسحقين فى الحرية ويكـرز بسنة الرب المقبولة.
إنها دعوته/ رسالته فى الميلاد ودائماً، يحملها فقط من يصدقوا قيمها بغض النظر عن دينهم: الحرية والكرامة والعدل، كل عام وجميعهم بخير …