هل قابلت القتلة؟
(صمت..)
(أين؟)
صمت أكبر.. ثم ضجيج خلاف لم يتغير ولم يخفُت على الرغم من الزمن) كنا في المقهى بعد 7 سنوات من مذبحة أولتراس الأهلي في بورسعيد، وبعد ساعات قليلة من قطع الصوت على هتاف أولتراس الأهلي في الدقيقة 74 من مباراة فريقهم مع سيمبا التنزاني، حين اختاروا التوقيت الذي يشير إلى عدد القتلة في ذلك اليوم الذي لم تعد كرة القدم، ولا مصر بعده، كما كانت قبله. طل الخلاف كما هو: من فعلها؟ ولماذا؟ هل كانت مؤامرة بالكامل.. كما تقول الحكايات الصغيرة التي تبني نوعًا من ``الحقائق`` التي تخص المظلومين والشاعرين بابتعاد العدالة وزحزحتها أصعب من اكتشاف الفاعل الخفي؟
هو إذن اللهو الخفي.. هذا ما يبدو تحت السطح، لكنه أيضًا التسمية الممكنة للألعاب التي نشعر بها ولا نرى اللاعبين المشاركين فيها.. هذا ما حدث وصنع المأساة في ملعب كروي. أهي مؤامرة على طريقة أمير الانتقام؟ كان هناك أمير الانتقام غالبًا لكن دون مؤامرة محكمة، إنها أدوات تعمل بشكل طبيعي لإعادة بناء القبضة كلما ارتخت وحدثت فجوة وبينها الجسم الذي تقبض عليه. لم يكن ارتخاءً أو فراغًا أكبر مما حدث بعد 28 يناير 2011، وكان الضروري التخلص أولاً من الكتل الهائمة دون تاريخ وسجل قديم مسيطر عليه، مثل الأولتراس، أو المسيحيين، أو ذوي الميول الجنسية المختلفة، وكل من وجد في ``الثورة`` فرصة للتحرر من الهندسة القديمة للعيب والحرام.
لم يكن التخلص من قوة جبارة مثل الأولتراس سهلاً مثل المجموعات الصغيرة أو الأفراد… كان لا بد من أن يلتهم الأولتراس بعضه… (هذا من الناحية الدرامية.. وليست المعلومات أو الحقائق المدفونة في الأضابير..) وكان الهدف غالباً هو ``الوصمة`` فهم قتلة وضحايا، لا يتورعون عن العنف.. ويلحق بهم الموت.. لكن الأمر تجاوز الحد وتحوَّل إلى ``ثقب`` أعمق من أن يحتمل.. كان النظر في هذا الثقب اقتراحًا قدمه صديق سينمائي كان يعد العدة لتقديم فيلم عن المذبحة… وهنا محاولتي لشرح فكرة سيكون المخرج أحد رواتها الثلاثة، ومعه اثنان من المحكوم عليهم بالإعدام (نذكرهم بأسماء مستعارة)… تذكرت هذا النص اليوم ونحن نغرق في نقاش حاد حول مذبحة مر عليها 10 سنوات وما تزال الحدة كما هي، والحيرة الحزينة والقاسية كما هي، لا تنقص؛ بل تزيد مع الأيام!
1
كيف نصنع فيلمًا عن مذبحة؟
بمعنى آخر كيف تحكي حكاية مدينة شهد ملعبها الكروي مذبحة توالدت منها مذابح كان القتل فيها مجانيًّا؟
القصة مرعبة، ومسرحها يمنح الرعب طابعًا يخص التراجيديات الكبري، فالمدينة؛ بورسعيد، تختزن بين طبقاتها حكايات وتواريخ مبنية على عنف كامن، وانفتاح كامل على العالم.
المذبحة الأولى كانت في نهاية مباراة كرة بين فريق المدينة (النادي المصري) والفريق الأكبر في مصر (النادي الأهلي). الحرب المعتادة بين أولتراس كل فريق انتهت بمأساة راح ضحيتها ٧٤ عضوًا من أولتراس أهلاوي.
تروى المذبحة كأنها مجرد “يوم أسود في تاريخ كرة القدم” كما قال رئيس الفيفا جوزيف بلاتر.. وتروى أيضا كـ“فخ” صُنع لأولتراس الأهلي الذي كان في هذا التوقيت مخلصًا لعداء مباشر مع سلطة تحرمه من متعة اللعبة (كرة القدم).
كيف نحكي مأساة الأولتراس في بورسعيد؟
الأولتراس هم الضحايا.. وهم من وجهة نظر سلطات الاتهام والضحايا أنفسهم القتلة: (المصري البورسعيدي).
هذا أول مستوى في الدراما؛ وهو المستوى الذي تقف عنده سجالات المجتمع والسلطة؛ حول مدينة تحوَّلت تدريجيًّا من مسرح الحدث إلى الحدث نفسه.. فقد ظل حضورها يكبر حتى التهم الحكاية التي بدأت من اصطياد شباب في زهرة شباب بفخ مصنوع بإحكام شيطان كامن في التفاصيل ومحرك لها.. ولم تنته عند الرسائل التي يحملها الموت بكل فصاحة.
2
هل هناك جديد في دراما تبدو على السطح سهلة؟
الموت كان يلاحق الأولتراس.
تلك الكتلة الهشة من مجتمعات عاشت طويلاً تحت الاستبداد.. كانت هشاشة الأولتراس مرعبة في حضورها المسرحي كل مباراة.. فهم سكان الركن المنسي من المدرجات، الباحثون عن متعة حقيقية بعيدًا عن صناعة تبيع كل شيء لمن يملك.. وهم الجمهور الذي أصبح نجمًا أعلى من النجوم، والمهووسون الباحثون عن اللعب إلى الأبد، العشاق المتيمون باللعبة، لا بالماكينة التي حولتها إلى صناعة رأسمالية لا يقدر على الاستمتاع بها إلا من يملك ثمن التذكرة.
كان العمال الباحثون عن متعة الكرة في إيطاليا تقريبًا هم أول من قرر تحويل الركن المنسي في الملعب إلى مركز جديد عندما فكروا في أن يجلسوا في هذا الركن بتذاكر مخفضة، ويقيموا استعراضهم الذي سيجعل الجاذبية لهم وحدهم. والأولتراس ليسوا فقراء، لكنهم يبحثون عن متعة خالصة التهمتها ماكينات ضخمة مضغت كل هذه المتعة وحولتها إلى بضاعة غالية، تحقق لهم أرباحًا خرافية، بينما أصبحت المتعة أقل.
الجنون بالمتعة الأصلية ليس كل ما لدى الأولتراس، ولكن الخروج عن سلطة السوق التي أصبحت تحدد كل شيء، وتصنع آلهة من نجوم الكرة، وتجعل من اللعبة ببساطتها، وحشًا كبيرًا ممنوع الاقتراب منه إلا عبر “مروضي الوحش” من تجار وسماسرة وإدارات واتحادات وشركات إلى آخر هذه المافيا التي لا يهمها المتعة مقارنة بتدوير ماكينة الأرباح.
كان الأولتراس ضد السلطة التي تحمي هذه الماكينات بكل ما تملك من أدوات قهر وسيطرة. إنهم ضد التيار، يبحثون عن متعة قديمة، ويتوحدون بلون الفانلة وبقوة تجمعهم، فحاولت السلطة وضعهم تحت السيطرة ليظهر العداء الذي جعل أولتراس الأهلي والزمالك الناديين الكبيرين في طليعة الثوار يوم ٢٨ يناير؛ بجسارتهم وقدرتهم على تحدي ماكينات الأمن الجبارة. يومها لم يرحم الأمن العُزَل والمتظاهرين السلميين، فانكسرت هيبته عندما كسر الأولتراس حاجز الخوف.
هذه البطولة تم اصطيادها في فخ بورسعيد، علي يد “أولتراس” منافس؛ الصياد هنا لم يظهر في التحقيقات الرسمية التي هندست روايتها للمذبحة على أنها عرض من عروض العنف المميز للأولتراس، بل ظهرت بورسعيد متهمًا رئيسيًّا باعتبارها الحاضن لأولتراس يستطيع قتل كل هؤلاء الضحايا، فهي مدينة العنف الكامن.
دراما سهلة حوَّلت صياد الأولتراس إلى شبح، واختزلت الحكاية في رواية بوليسية ركيكة، تصنع من بورسعيد مدينة للشياطين..
3
وماذا ستكتشف في مدينة كلها من الشياطين؟
الراوي الأول في الفيلم هو المُخرج، يكره بورسعيد ويراها مدينة عنصرية، العنف كامن في بنيتها، ترى كل الوافدين عليها للعمل أو للحياة “أغرابًا” وتعاملهم وفقًا لذلك التصور. معاناة شخصية جعلته يعلن بوضوح (متطرف) عن كراهيته للمدينة التي وُلد فيها وما يزال بيت عائلته فيها.
هم إذن القتلة؟
هكذا كان يصرخ المُخرج في أي نقاش حول المذبحة… وكان صراخه تعبيرًا عن علاقة مرتبكة لابن عائلة لم يتخلص فيها الأب من لكنته الصعيدية؛ فاعتُبر من الأغراب، واكتملت الغربة بالخروج على هوية المدينة وتشجيع “الأهلي“! ثم باختياره هو أن يكون شيوعيًّا.. يا لها من غربة مركبة جعلت المُخرج مقيمًا في روايته عن المدينة “إنهم شياطين.. ويفعلونها“!
بورسعيد نائمة علي بحر بارود لم تفك أغلفته يوم قرر عبد الناصر أن يدافع الشعب عن مدينته ضد العدوان الثلاثي (1956)، لم تتحمل السلطة فكرة حمل الشعب للسلاح، ولم تستخدم فرق الجيش الشعبي غالبا إلا للاستعراض السياسي، ثم سحبت الأسلحة بعد أن أخذ الشطار حصتهم وأخفوها تحت الأرض.
العنف نائم اذن تحت التربة الخصبة، للهويات المعلقة لمدينة كل أهلها غرباء، مهاجرون، يلعبون ألعابًا تغيِّر شكل المدينة كل بضع سنوات، فمن مدينة الممر الرومنتيكي بين أطراف العالم (قناة السويس) حين كانت تديره شركة أكبر من دولة، ثم جاءت دولة التحرر لتعلن هويتها بتأميم الشركة؛ لتصبح المدينة ملعبًا لحرب هويات أكبر منها، البورسعيدي عابر، لا يجد هويته الشخصية الا في قميص فريق “المصري“؛ وحده القميص يمنح المعنى للإقامة في مدينة تلعب على أرضها السلطة كل استعراضاتها.
بورسعيد موعودة بالتراجيديات الكبرى.
ومن مشروع قطع الصحراء من منتصفها لتتحول قرية “الفرما” إلى مدينة العالم، وتصبح من مدينة تحمل اسم حاكمها، إلى ملعب المذابح بعد ثورة الشعب. تفلت بورسعيد من صورها القديمة لتحيا في المنطقة بين العنف واللعب.. في الصباح تقتل الشرطة المجنونة المشاركين في الجنازات.. قتلى يودعون قتلى، وفي المساء يكسر الناس قرار حظر التجول بكرنفال جماعي لا يخلو من الرقص والغناء والشتائم، وطبعًا كرة القدم..
قرار السادات بتحويل بورسعيد إلى “مدينة حرة” يمكن أن نراه في حكاية المدينة فاصلاً من المرح العنيف، على إيقاع التحول من الحرب إلى الاستهلاك.. لم يبق من هذا الفاصل إلا عنف الايقاعات، وعنف آخر اجتاح الراوي الأول/المخرج بفقدان الأب في سن مبكرة (16 سنة): “لتصفعني قسوة أرصفة المدينة حينًا وتهددني في أحيان أخرى، ربما..” هكذا يروي مشاعره تجاه مدينة شعر فيها بالغربة بينما كان في رحلة بحث عن أب بديل.
4
كيف يفك الموت عقدة الراوي من المدينة؟
لم تكن الرحلة تخص الراوي الأول فقط.. بل كانت بحثًا عن رواة يكشفون سر المذبحة. في رحلة البحث عن رواية خبرية وعن أحداث المجزرة الثانية، اكتشف الراوي الأول مدينته مجددًا. اكتشفها في فصاحة أمهات تودعن أبناءهن، وتحملهن رسائل إلى أحباب مضوا قبلهم؛ إنها فصاحة الموت التي فكت عقدة لسان الأمهات. وعقدة بورسعيد عنده شخصيًّا. وهنا ظهر رواة آخرون سيصحبونه في رحلته لاكتشاف مدينته.
5
هل هناك مكان للسخرية؟
مصادفة التقى الراوي الأول زملاء سيصبحون بعد قليل هم الرواة الأساسيون. ليست مصادفة تمامًا.. فالراوي الثاني “رمضان” صديق، لكنه يرى العالم من موقع مختلف تمامًا؛ موقع الخارج من كل الجاذبيات الاجتماعية.. ومقيم في عالم من صنعه وحده. ورواية رمضان للأحداث ليست ساخرة.. لكنها تتصادم مع التراجيديات والمآسي والأحداث الكبرى بمنطق عفوي من خارجها، فتبدو وكأنها سخرية.. بالنسبة له بورسعيد هي العالم؛ فالدنيا تبدأ وتنتهي عند رحلته من البيت إلى المقهى فهو لا يعمل، ولا يهتم إلا بمزاجه وروقان دماغه، يعيش في المسافة بين حكمة المساطيل وتعالي اللامباليين.. خارج التعليب، ودائمًا لا يمكن توقع ردود فعله على الأحداث.
رواية رمضان تفكك الروايات الثقيلة لرواة يشحن كل منهم قلقه ومأساته. ومن خلالها نرى الجزء الغاطس من المدينة رؤية تعمق الحكاية كما تفعل قصص الكواليس في المسرحية.. والآن جاء وقت الرواية الرئيسية؛ وقت بطلي المسرحية..
6
وماذا ستجد في لقاء الرواة الثلاثة؟
تجمعهم رحلة الهروب؛ اثنين منهما محكوم عليه بالإعدام في المذبحة. قبل الحكم كان كل منهما مجرد عضو في أولتراس المصري؛ كل بطريقته:
“بدوي…” 24 سنة؛ يؤلف ويلحن أغاني الأولتراس؛ موسيقي ابن عائلة من الطبقة وسطى، يسودها مزاج سلفي، والأولتراس بالنسبة له حياة مفتوحة ضد الانغلاق وتسلط أجهزة الأمن، كما أنه ابن مزاج حديث نسبيًّا.. يحلم بالحرية والعدالة.
و”هاشم الكيف” البائع الجوَّال في الشارع التجاري؛ ابن جيل آخر 35سنة كاريزما شعبية، وقائد جماهيري بمعنى من المعاني؛ يرى الدولة هي الخلاص والأب المركزي على الرغم من كل ما تفعله، وهو ابن مدينة آفلة ومزاج يتصادم مع من يحبه، وجسارة تخالف تركيبة رجل له عائلة (زوجة و3 أولاد).
مع كل الاختلافات التقى كلاهما في رحلة الهروب، أو في احتجاجات مدينة تشعر أنها ضد بلد كامل.
مع الهاربان تعرَّف الراوي/المخرج على بورسعيد أخرى؛ يتجول فيها ثلاثة رواة؛ بينهما محكومين بالإعدام، والثالث محسوب كغريب لأن أرقام سيارته تنتمي للعاصمة؛ عدوة بورسعيد.
إنها مشاعر لا يمكن معايشتها مرتين؛ رحلة هروب تتقاطع مع رحلة بحث؛ ثلاثة رواة في شوارع مدينة في لحظة جنون: الضحية، وجبروت الشعور بالاضطهاد، وفيضان من صور وفيديوهات عن تفاصيل رواية المذبحة..
كل راوٍ يتكئ على رواية زميله.. بالنسبة للهاربيْن المُخرج باب مفتوح، يتركان خلفه وديعتهما إذا ما نٌفذ بحقهما حكم الإعدام. ينتابهما قلق من اقتراب الموت وثقة تتضح في حرية حركة داخل مدينة عرفت الجنازات وسيارات الإسعاف واستعادة ذاكرة العشق لفريق كرة لم يكسب كثيرًا.
7
هل اكتملت رواية المذبحة؟
لم تكن القوة في الفيلم في حصوله على إجابات نهائية؛ ولكن في أنه فيلم يخدش كل الحقائق الملقاة في المحافل الرسمية؛ فيلم يرويه هاربون وغرباء، ويُطل على عوالم المسجلين خطر.. ويرى مدينة في لحظات انفلات جماعي، وحزن مقيم.. وسيظل السؤال معلقًا: من قتل الأولتراس في الاستاد؟ ومن قتل المتظاهرين في بورسعيد؟
القاتل غائب..
وبين لحظة وأخرى سيلحق به سؤال جارح: هل رواة فيلمنا قتلة؟